Saturday, 30 July 2022

{الفكر القومي العربي} تحذيراتٌ إسرائيليةٌ مسمومةٌ وأساليبٌ قذرةٌ مكرورةٌ



تحذيراتٌ إسرائيليةٌ مسمومةٌ وأساليبٌ قذرةٌ مكرورةٌ

بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي

إنها ليست المرة الأولى التي يقوم بها جيش العدو الصهيوني بمحاولة شق الصف الفلسطيني والعربي المقاوم، وإحداث وقيعة بين المقاومة والشعب، وعزلها عن محيطها وبيئتها، وفصلها عن حاضنتها ومجتمعها، وإقصائها عن عمقها الاستراتيجي، فقد اعتدنا على هذه السياسة الخبيثة منذ النكبة، عندما كان يقوم بإلقاء "منشورات" بواسطة طائرات الهليكوبتر على المناطق السكنية الفلسطينية، أو ينادي عبر مكبرات الصوت بسياراته العسكرية الجوالة، يطالب فيها المدنيين بالابتعاد عن المناطق "المشبوهة"، ومخازن الأسلحة، و"أوكار المخربين"، وعدم الاقتراب من مناطق الاشتباك وبؤر التوتر خشية أن يتعرضوا للخطر، وإلا فإنهم يتحملون مسؤولية رفضهم وعاقبة صمتهم.

 

وهي نفس السياسة الماكرة التي اتبعها في لبنان إبان عدوانه المتكرر عليه، فقد كان يقوم بالإجراء نفسه، فيلقي المنشورات، ويذيع البيانات، ويحذر السكان من مغبة الاقتراب من المسلحين أو مساعدتهم، أو تسهيل عملهم والقبول بتخزين أسلحتهم في مناطقهم السكنية.

 

وهو لا يمل هذه السياسة رغم أنه يعلم عقمها ويدرك فشلها وعدم جدواها، إلا أنه يصر عليها ويتمادى فيها، علها تجدي نفعاً، وتنجح يوماً في إحداث وقيعة وشرخٍ بين المقاومة وعموم الشعب، وتحميل المقاومة المسؤولية عن أي ضحايا يسقطون جراء القصف والعمليات العسكرية.

 

ربما ينجح العدو أحياناً في خداع الغرب وبعض المؤسسات الدولية، والظهور أمامهم بأن جيشه يحترم قوانين الحرب ويلتزم الاتفاقيات الدولية، وأنه يتمتع بمناقبية عالية وأخلاقٍ إنسانية رفيعة، ولا يستهدف المدنيين ولا يتعمد قصف المناطق السكنية، وأنه يضحي بأهدافه الغنية من أجل سلامة المدنيين العزل، وتجنب إلحاق أضرارٍ بهم.

 

لكنه لا ينجح أبداً في خداع الفلسطينيين واللبنانيين، الذين عرفوه وخبروه، فآثار عدوانه عليهم بَيِّنَةٌ، وجرائمه بحقهم كثيرة، والشواهد الدامغة التي تدينه وتحمله المسؤولية محفوظة ومؤكدة من جهاتٍ مستقلةٍ ومهنيةٍ عديدةٍ، ولعله لا يستطيع إنكارها وإن شكل لجان تحقيقٍ داخلية ونفى المسؤولية فيها عن نفسه، وحملها لخصمه، فإن الوقائع تكذبه والحقائق تفضحه، والصور التي باتت توثق جرائمه، ويمكن التثبت من مصداقيتها، لا يمكن لعاقلٍ منصفٍ أن ينكرها أو يكذبها.

 

الحقيقة أن العدو الصهيوني يعرف أنه يكذب على نفسه قبل أن يكذب على غيره، ويدرك أن أحداً لن يصدقه مهما ادعى وتظاهر بالحكمة والإنسانية، ولعل مراجعة بسيطة لجرائمه في فلسطين المحتلة ولبنان، تثبت كذبه وتدحض دعواه، فهذه مجزرة قانا في جنوب لبنان تشهد على كذبه، فقد قتل مئات المدنيين اللبنانيين، الذين لجأوا إلى مقرات قوات الأمم المتحدة يلتمسون فيها الأمن والحماية، ولكن جيش العدو قصفهم عامداً، وقتلهم عن قصدٍ ونيةٍ، رغم علمه بأنهم مدنيون، وأنهم يقيمون في مقراتٍ أممية، يعرف إحداثيتها ويحفظ مواقعها، ويدعي احترامها وعدم المساس بسيادتها، وقد سبق لقيادتها أن نبهته وحذرته.

 

وبالانتقال إلى غزة التي قتل فيها بقنبلةٍ يتجاوز وزنها الألف كيلو جرام، عشرات المدنيين الفلسطينيين في غارته على مبنى سكني في حي الدرج المكتظ بالسكان، خلال استهدافه للقيادي في حركة حماس صلاح شحادة، الذي استشهد وعشرات المدنيين الآخرين من الأطفال والشيوخ والنساء، وإثر جريمتهم النكراء هنأ رئيس حكومة كيانهم قائد جيشه وأجهزته الأمنية على نجاحهم في تصفية صلاح شحادة، ولم يتوقف عند عشرات المدنيين من النساء والأطفال الآمنين الذين قتلوا نتيجة القصف أو تحت ركام المبنى.

 

وكذلك غارته الشهيرة على منزلٍ في مخيم جباليا، كان يقطنه الشهيد نزار ريان، دمر خلالها طوابقه الأربع، وأسقطها فوق بعضها البعض، فقتل نزار ومن كان معه، وأزهق أرواح عشرات المدنيين من عائلته وأسرته، وجلهم من النساء والأطفال، الذين لا يخفى على العدو وجودهم، ولا يختلط عليه تمييزهم.

 

لا ينسى الفلسطينيون في قطاع غزة غارات الطائرات العسكرية المجنونة على مدرسة الفاخورة بمخيم جباليا، التي لجأ إليها المدنيون الفلسطينيون لينجوا بأنفسهم من حمم الصواريخ الإسرائيلية، إلا أنها استهدفتهم بدقةٍ ومزقتهم وبعثرت أشلاءهم، وقتلت العشرات منهم، رغم أن المدرسة تابعة لوكالة الأونروا، وهي مسجلة لدى الجهات العسكرية الإسرائيلية بأنها مدرسة، وأن الذين لجأوا إليها هم من عامة السكان وجيران المدرسة، إلا أن ذلك لم يشفع لهم، ولم يمنع طائرات العدو من استهدافهم.

 

ليست المرة الأولى التي يكذب فيها الناطق باسم جيش العدو، الدعي الأفاق أفيخاي أدرعي، فقد سبق له قبل سنتين أن أطلق ذات التصريحات تجاه لبنان، عندما ادعى بالصورة والإحداثيات، استخدام حزب الله لمقراتٍ مدينة، وقيامه بتخزين أسلحة في مناطق سكنية، مما يعرضهم للمخاطر والمغامرة، لكن حزب الله لم يسكت عن الدعوى الكاذبة، ولم يسلم بالتصريحات الخبيثة، بل دعا جهازه الإعلامي في الوقت نفسه في ساعات الليل الأولى، المؤسسات الإعلامية الصديقة وغير الصديقة، لزيارة الأماكن التي ادعى أدرعي أنها مخازن أسلحة لحزب الله، فثبت للحكومة ولجهات الرقابة والمؤسسات الإعلامية كذبه وبهتانه.

 

اليوم يكرر أدرعي ذات الاتهام للمقاومة الفلسطينية في قطاع غزة، ويتهمها كما اتهم حزب الله، بأنها تخزن أسلحتها في مناطق سكنية، وكان قد اتهمها من قبل أنها تستخدم المؤسسات والمراكز الدولية لتخزين الأسلحة أو شق الأنفاق، وكما ثبت كذبه في لبنان ونفت الأمم المتحدة دعواه، فإن المقاومة الفلسطينية الحريصة على حياة شعبها، والأمينة على حقوقه، والوصية على قضيته، تتهم العدو الصهيوني بالكذب، واللجوء إلى الحرب النفسية المكرورة، والأسطوانة المشروخة ذاتها، التي لا يصدقها شعبنا ولا يعبأ بها.

 

بيروت في 30/7/2022

moustafa.leddawi@gmail.com

--
You received this message because you are subscribed to the Google Groups "الفكر القومي العربي" group.
To unsubscribe from this group and stop receiving emails from it, send an email to alfikralarabi+unsubscribe@googlegroups.com.
To view this discussion on the web visit https://groups.google.com/d/msgid/alfikralarabi/CA%2Bk3OjgL9dd%3DP%3D%3DjyMARYVUk2EfXgaogqXzfLECdNbhxir%3Daug%40mail.gmail.com.

Saturday, 16 July 2022

{الفكر القومي العربي} بايدن يزورُ الكيانَ سياسياً وبيتَ لحمٍ دينياً

بايدن يزورُ الكيانَ سياسياً وبيتَ لحمٍ دينياً

بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي

يكذب الفلسطينيون على أنفسهم إذا ظنوا أن الرئيس الأمريكي جو يايدن يقوم بزيارة دولةٍ لثلاث دولٍ، ويلتقي خلال زيارته التي تستغرق أربعة أيامٍ، قادتها ويجتمع مع مسؤوليها، ويساوي بينهم في القدر، ويعدل بينهم في الأوقات المخصصة لكلٍ منها، وذلك خلال زيارته الأولى إلى منطقة الشرق الأوسط، منذ توليه رئاسة الولايات المتحدة الأمريكية، التي قرر فيها أن يزور الكيان الصهيوني والمملكة العربية السعودية، بالإضافة إلى مدينة بيت لحم، التي يلتقي فيها قيادة السلطة الفلسطينية.

 

إلا أن نظرةً فاحصةً إلى برنامج الزيارة، وتحليلاً موضوعياً للخطابات والتصريحات التي صدرت قبل وخلال الزيارة، تؤكد أن زيارة الرئيس الأمريكي إلى الكيان الصهيوني والسعودية هي زيارة سياسية بامتياز، وتحمل معها أبعاداً أمنية وعسكرية واقتصادية وربما نفسية، بينما تصنف زيارته إلى السلطة الفلسطينية من جهةٍ أنها زيارة مجاملة، فترتها قصيرة، ومدة لقاء رئيس السلطة فلسطينية محدودة جداً، وحتى  يزول عنه الحرج، فهي من جهةٍ أخرى زيارة إلى الأماكن المقدسة المسيحية، حيث تقرر أن يكون اللقاء في مدينة بيت لحم المقدسة لدى مسيحيي العالم، التي إليها يحجون من كل مكانٍ، وبذا تكون زيارةً دينيةً.

 

الحقيقة أن زيارة الرئيس الأمريكي إلى مناطق السلطة الفلسطينية زيارة مهينة، وهي صفعة قاسية، وقلة احترام وتقديرٍ للشعب الفلسطيني وقيادته، فالفلسطينيون أرفع قدراً وأعلى مكانةً، وأكرم نفساً وأنبل خلقاً من أن يقبلوا برئيسٍ يفتتح زيارته إلى المنطقة، بتصريحٍ فجٍ وقحٍ يقول فيه، "ليس بالضرورة أن تكون يهودياً حتى تكون صهيونياً".

 

ثم ينهال مديحاً للكيان العنصري الذي يدعمه، ويستعرض الأعطيات التي جهزها، والوعود التي قطعها، والمشاريع التي هيأها، والمساعدات التي قررها، والهبات التي قدمها، والهدايا التي أحضرها، والآفاق التي سيفتحها، والمستقبل الذي يعد به، والتفوق الذي يعمل عليه، والدمج الذي يحلم به، والحلف الذي يتطلع إليه، وحقول النفط والغاز التي يسيل لعابه عليها ويطمع فيها.

 

لا أظن أن فلسطينياً يرحب بهذه الزيارة أو يأمل فيها خيراً، أو يرجو منها انحيازاً أمريكياً للحق الفلسطيني أو استنكاراً للعدوان الإسرائيلي، فهذه الزيارة ليست لنا، وهي ليست لأجلنا، بل هي ضدنا، وتعمل على نسج خيوط التآمر علينا، وتريد من العدو أن يستفرد بنا، ويقرر بنفسه ما يشاء بحقنا، فالقضية الفلسطينية التي تخلى عنها بعض العرب، وأعلنوا البراءة منها، لم تعد لها الأولية أو الصدارة، ولم يعد لها حظٌ من الاهتمام أو الرعاية، بعد أن طغت عليها همومٌ أخرى، وتقدمت عليها المصالح وعجلت بها المخاوف.

 

ربما لم أسمع تصريحاً فلسطينياً، رسمياً أو شعبياً، سلطةً أو معارضةً، يشيد بزيارته ويعدد مزاياها، أو يحرص عليها ويترقب وصوله، ليقينهم أن ما بعد وصوله سيكون أسوا بكثير مما قبلها، فقد حانت عنده اليوم ساعة الحقيقة، وانتهى لديه وقت المراوغة والكلام المعسول، والشعارات الانتخابية والوعود الخلبية، وأصبح ملزماً بالكشف عن حقيقته والإعلان عن سياسته.

 

فما في جعبته لا يختلف كثيراً عما كان يصرح به سلفه دونالد ترامب ويعلن عنه، فإن كان الثاني أهوجاً أرعناً، فقد كان صريحاً وواضحاً، أما الأول وهو الزائر، فهو عجوزٌ حكيمٌ، ومجربٌ ومحنكٌ، إلا أنه ناعم الكلام خشن الأفعال، ماكرٌ كالثعلب ومفترسٌ كالذئاب، ظاهره ليس كباطنه، وحقيقته ليست كصورته.

 

الفلسطينيون جميعاً دون استثناء يرفضون هذه الزيارة، ولا يرون فيها منفعةً يأملونها أو ضراً يرجون صرفه عنهم، حتى أؤلئك الذين يؤمنون بحل الدولتين، ويتخذون المفاوضات سبيلاً والحوار طريقاً للوصول إلى الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، قد رفضوا الزيارة، ونعتوها بأشد عبارات النقد والاستنكار، بعد أن قرأوا "المكتوب" من عنوانه، ورأوا أن الضيف القادم إليهم بعد أكثر من سنةٍ على توليه الرئاسة في أمريكا، قد تخلى عن كل وعوده السابقة التي أعلن عنها ونادى بها، فلا هو استنكر الاستيطان ولا دعا إلى وقفه، بل وافق على أن يقيم في مدينة القدس في فندقٍ فلسطينيٍ مغتصب، تعود ملكيته إلى الأوقاف الإسلامية الفلسطينية، في ما بدا أنه استفزازٌ مقصودٌ، واسترضاءٌ لإسرائيل معدٌ ومتفقٌ عليه.

 

ولعل حديثه الهامس بصوتٍ مغمغم لا يكاد يسمع، عن إيمانه بحل الدولتين، وأنه قد لا يتحقق في الأفق القريب، أوضح نعيٍ وأصدق تصريحٍ للسياسة الأمريكية أياً كان ساكن البيت الأبيض، أنهم يكذبون عندما يدعون أنهم يؤيدون حل الدولتين، ويسعون إلى إقرار الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني وحمايتها.

 

فما قاله الرئيس الأمريكي يؤكد أن الضابط في الحل هو الكيان الصهيوني، الذي يريد الأرض كلها والبحر والسماء، وكل خيرات الأرض والكنوز الدفينة تحت مياه البحر، ولا يريد له فيها شريكاً أو معه جاراً، وكأن هذه الأرض قد كتبت له وخلقت باسمه، وما كان فيها شعبٌ فلسطينيٌ قبله، ولا أمةٌ عربيةٌ سكنتها وعمرتها، وبنت فيها حضارتها ونشرت فيها لغتها وعلومها.

 

لعل زيارة الرئيس الأمريكي غير المرحب بها إلى منطقتنا، توحد الشعب الفلسطيني وتجمع كلمته، وتدفعه إلى التمسك بحقوقه والتراجع عن كل الوعود الكاذبة والأماني المعسولة، فما تعدنا به الإدارات الأمريكية ليس إلا سراباً، كلما اقتربنا منه انكشفت حقيقته، وظهرت خسته، وبضاعتهم كاسدة مدورة، يعيدون بيعها لنا وعرضها علينا كل سنةٍ نفسها، دون أن يكبدوا أنفسهم عناء تغييرها أو تحسين ورتها.

 

أما شعبنا الفلسطيني الذي يدرك حقيقتهم ويعرف سياستهم، ولا يأمن لهم ولا يثق فيهم، فهو رغم ظروفه الصعبة، ليس في حاجةٍ إلى فتاتٍ يلقى إليه من موائد الظالمين اللئام، ولن يكون سعيداً بدعمٍ به السمُ مدسوسٌ يقدم إلى المستشفيات والمؤسسات، وإلى الهيئات والجمعيات، فالفلسطينيون وستعرفون، أنه شعبٌ حرٌ أصيلٌ أبيٌّ، شريفٌ نبيلٌ، فلا رغيف خبزٍ من جوعٍ يسكته، ولا قميص من عريٍ يستره، اللهم إلا وطناً حراً، وأرضاً محررةً، وعودةً إليه كريمةً.

 

 

بيروت في 16/7/2022

moustafa.leddawi@gmail.com

--
You received this message because you are subscribed to the Google Groups "الفكر القومي العربي" group.
To unsubscribe from this group and stop receiving emails from it, send an email to alfikralarabi+unsubscribe@googlegroups.com.
To view this discussion on the web visit https://groups.google.com/d/msgid/alfikralarabi/CA%2Bk3Ojixo-CdpPsBoPvSyFKJDqus26Dx_9mvmbShjmvsA4C_Aw%40mail.gmail.com.

Tuesday, 12 July 2022

{الفكر القومي العربي} أحلامٌ إسرائيليةٌ قديمةٌ فهل تصبحُ اليومَ حقيقةً

أحلامٌ إسرائيليةٌ قديمةٌ فهل تصبحُ اليومَ حقيقةً

بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي

كثيرةٌ هي الأفكار التي تراود الإسرائيليين، والمشاريع التي يحلمون بها في منطقة الشرق الأوسط، الذي ظن البعض أن بذرته الأولى التي زرعتها وزيرة الخارجية الأمريكية الأسبق كونداليزا رايس قد ماتت، وأن الشرق الأوسط الجديد الذي دعت إلى تشكيله قد انتهى، ولم يعد من الممكن إعادة بعث الحياة فيه، أو التنظير له والعمل على إنشائه، وأن المخططين الكبار وقوى الاستعمار التي تغيرت أسماؤهم وتبدلت أدوارهم قد يأسوا من مشروعهم، وصرفوا النظر عنه، وسلموا بموته قبل أن يولد.

 

أرادت كونداليزا رايس في مشروعها "الشرق الأوسط الجديد" أن تحمي الكيان الصهيوني، وأن تجعل منه دولةً طبيعيةً في المنطقة، تربطها علاقاتٌ طيبةٌ بجيرانها العرب، وتتبادل وإياهم الاعتراف والتمثيل الدبلوماسي، وتنشأ بينهم علاقاتُ تعاونٍ وحسن جوار، على قاعدة  الاحترام المتبادل واتفاقيات عدم الاعتداء، وتتعاون معهم في خلق مجتمعٍ مزدهرٍ اقتصادياً، يتمتع سكانه بالرفاه والرخاء، بعيداً عن الحروب والقتل والتدمير والخراب.

 

بالمقابل كان على العرب والفلسطينيين أن ينسوا جريمة احتلال أرضهم، وطرد شعبهم، وخسارة وطنهم، وضياع مستقبل أجيالهم، وتتعاون الدول العربية مع الكيان الصهيوني والولايات المتحدة الأمريكية والمجتمع الدولي، في حل مشكلة السكان الفلسطينيين في الداخل، واللاجئين في الخارج، بما يشطب عنهم صفة اللجوء، ويمنحهم جنسية جديدة وحق المواطنة في البلاد التي يقيمون فيها.

 

ربما لم تكن الظروف الإقليمية في تلك المرحلة مناسبة بما يكفي لخلق شرق أوسطٍ جديدٍ، وهو نفسه الشرق الأوسط الذي دعا إليه رئيس الحكومة الإسرائيلية الأسبق شيمعون بيريس في كتابه "الشرق الأوسط الجديد"، الذي بشر به قبل كونداليزا رايس، ودعا فيه إلى إعادة تشكيل المنطقة على أسس اقتصادية، إلا أن هذا الحلم الإسرائيلي الكبير لم يتحقق في حياته، ولم تتوفر له أسباب النجاح بعد ذلك، حتى في ظل سياسة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الذي كان يخطط لنقلة هائلة في مكانة الكيان الصهيوني وعلاقاته مع الدول العربية.

 

يرى الإسرائيليون أن الظروف الإقليمية في هذه المرحلة، خاصةً بعد توقيع اتفاقية أبراهام المتعددة الأطراف، قد أصبحت مواتية جداً لخلق شرق أوسط جديد، يضم غالبية دول المنطقة العربية، ويكون فيه الكيان الصهيوني شريكاً أساسياً وعضواً أصيلاً، يشارك بفاعلية، ويساهم بقوة، ويحضر علناً ويكشف النقاب عن ملفاته السرية، ويلتقي القادة والمسؤولين العرب تحت الأضواء وفي وضح النهار، ويرتبط مع الحكومات العربية باتفاقياتٍ سياسية وأمنية وعسكرية واقتصادية وسياحية وعلمية ودينية وغير ذلك.

 

لن يكتفي الإسرائيليون هذه المرة باتفاقيات سلامٍ باردة مع الدول العربية، يتم فيها الاعتراف بكيانهم، وتقتصر فيها العلاقات مع حكوماتهم، ولو تخللها فتحُ سفاراتٍ متبادلةٍ، ورفرفةُ أعلامٍ وعزفُ نشيدٍ، وتسميةُ ممثلين وإرسالُ مبعوثين، بل يتطلعون بثقةٍ وأملٍ إلى إمكانية إنشاء سوق شرق أوسطية مشتركة، يمثل كيانهم فيه القلب والمركز، وتجد فيه منتجاته طريقها إلى كل الأسواق العربية بسهولةٍ وبلا منافسةٍ، بعد أن تسقط كل قوانين المقاطعة ودعوات الحصار القديمة.

 

ويتطلعون إلى بناء سكة حديد تربط كيانهم بدول المنطقة، وشق شبكة كبيرة من الطرق الدولية الحديثة المُخَدَّمَة، العابرة للدول والمتجاوزة للحدود، التي تنقل الأفراد وتنظم الرحلات المشتركة، وتقرب المسافات وتسهل الحركة والانتقال، وتفتح الحدود المادية وتنسف الأوهام النفسية، آملين أن تقضي شبكة السكك والطرق البينية على بذور الكراهية القديمة، ومشاعر العداء التي كانت مستعصية، وتخلق أجيالاً جديدة ترى في الكيان الصهيوني دولةً شرعيةً طبيعيةً، من حقها العيش بأمان، والاستمتاع بالاستقرار والسلام، بعيداً عن أي تهديدٍ أو توترٍ.

 

أما الملاحة الجوية وتسيير الرحلات المدنية بين الكيان الصهيوني والدول العربية، فإن العمل عليها جارٍ على قدمٍ وساقٍ، حيث يتطلع الكيان الصهيوني إلى التخلص من المسارات الجوية الالتفافية الطويلة المكلفة، واستبدالها بمساراتٍ اقتصاديةٍ جديدةٍ فوق الأجواء الإقليمية العربية، يوفر من خلالها الجهد والكلفة والوقت، ويخلق علاقاتٍ طبيعيةٍ مع دول المنطقة، ويفرض رحلاتٍ مباشرةٍ من مطاراته إلى المطارات العربية وبالعكس، ولعل جولة الرئيس الأمريكي جو بادين القادمة ستدشن مجموعة من المسارات الجوية المباشرة بين الكيان وبعض العواصم العربية.

 

كما قد يستخرج الإسرائيليون خرائط شق قناةٍ بين البحرين الميت والأحمر، وهو المشروع المعدة خرائطه والمتفقة عليه أطرافه، والمؤجل منذ سنواتٍ تنفيذه، إلى جانب مشروع شق قناةٍ جديدةٍ، موازية لقناة السويس، تربط بين مينائي إيلات وعسقلان، وتكون لديها قدرة استيعابية كبيرة، تشارك في تنشيط حركة الملاحة الدولية وتنعش الاقتصاد العالمي، بما يعود بالنفع المادي الكبير عليهم.

 

إنها أحلام مؤسس الكيان الصهيوني ورئيس حكومتها الأول دافيد بن غوريون، وطموحات ثعلبه شيمعون بيرز وغيرهم، أن يشرعوا كيانهم، وينسجموا مع جوارهم، ويصنعوا علاقاتٍ طبيعية مع أهل المنطقة وسكان البلاد المحيطة، دون أن تكون القضية الفلسطينية عقبةً في طريقهم، أو منغصةً لهم ومحبطةً لآمالهم، فهل أضحت أحلامهم حقيقةً وأصبحت أمام عيونهم قريبةً.

 

أم أن الفلسطينيين سيصفعونهم على وجوههم، وسيبددون أحلامهم، وسيصحونهم من سكرتهم، وسيعيدونهم إلى مربعهم الأول، إذ لا سلام على أنقاض وطنهم، ولا استقرار بدون حريتهم، ولا شرعية لعدوهم على أرضهم، ولا تفكيك لقضيتهم، ولا شطب لهويتهم، ولا تنازل عن حقوقهم، ولا تفريط في عودتهم، ولا من ينوب عنهم غيرهم، أو يتحدث باسمهم سواهم، فهم أصحاب الأرض وأهل الحق.

 

 

 

بيروت في 12/7/2022

moustafa.leddawi@gmail.com

--
You received this message because you are subscribed to the Google Groups "الفكر القومي العربي" group.
To unsubscribe from this group and stop receiving emails from it, send an email to alfikralarabi+unsubscribe@googlegroups.com.
To view this discussion on the web visit https://groups.google.com/d/msgid/alfikralarabi/CA%2Bk3Ojjk7RHzsPPNQHnn7t81Aw4DqO3EZ%2BpGZ4wEoHegTaQ6VQ%40mail.gmail.com.

Sunday, 10 July 2022

{الفكر القومي العربي} المقاومةُ الجويةُ تحدي جديدٌ وميدانٌ فسيحٌ

المقاومةُ الجويةُ تحدي جديدٌ وميدانٌ فسيحٌ

بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي

أدرك العدو الصهيوني أن قوى المقاومة العربية والفلسطينية، في الجوار القريب وفي المدى البعيد، قد طورت قدراتها العسكرية، ونَوَّعَت أسلحتها، وحدثت ترساناتها، وخرجت من أطرها القديمة ووسائلها التقليدية، وبدأت ضدها حروباً جديدةً، بأشكالَ مختلفةٍ وصورٍ مبتكرةٍ، لم يعد ميدانها البرُ فقط، وسلاحها البندقية والقنبلة والصاروخ، والدوريات والاشتباكات والعبوات، وإنما تعدتها إلى مجالاتٍ جديدةٍ وميادين مختلفة، تجاوزت فيها أيضاً حروب السايبر وعمليات الاختراق والقرصنة، التي برعت فيها ونجحت، وحققت خلالها انجازاتٍ نوعية واختراقاتٍ خطيرةً، كَبَّدت العدو الصهيوني خلالها خسائر فادحة، وأدخلته في دوامة قلقٍ وخوفٍ دائمين، وأعيته كل محاولات الحماية، ومخططات بناء برامج وقائية وأنظمة جُدُرِ ناريةٍ عن حماية مؤسساته ومشاريعه، وبرامجه وأسراره، ومنتجاته وابتكاراته.

 

اليوم تدخل المقاومة العربية بكل جرأةٍ وشجاعةٍ، وقوةٍ واقتدارٍ، ميدان الحروب الجوية، وتقتحم الفضاء المفتوح والسماء المكشوفة، وتصل بطائراتها المسيرة إلى الكثير من الأهداف والمواقع الإسرائيلية المحددة مواقعها، والمرصودة أماكنها، والتي يصعب على العدو إخفاؤها أو تغيير مواقعها، أو تمويهها وحجب احداثياتها.

 

وقد أصبح لكل قوى المقاومة بنوكاً زاخرة بالأهداف الإسرائيلية، وعامرة بالتحديثات وقادرة على متابعة التغييرات الطارئة والتبديلات الهادفة، ومحاولات الخداع والتمويه، ولعلها لم تعد خائفة من إعلان أهدافها، وتوقيت غاراتها، وتحديد جهات قصفها، في دلالةٍ واضحة إلى قدرتها وتمكنها، وطمأنينتها ويقينها، فهي لم تعد تخشى العدو أو تخاف من تفوقه، أو ترتدع من سلاحه وتجبن عن مواجهته، بعد أن بات لديها ما يَفُلُ سلاحه ويحد قدراته، ويعطل إمكانياته، بل وما يرصد طائراته ويتابع الحركة في مطاراته.

 

ليست المسيرات الثلاث التي أطلقها حزب الله فوق منصة الغاز الإسرائيلية في مياه البحر المتوسط هي التي أخافت العدو وأربكته، وكشفت عن قدرات أعدائه الكبيرة وإمكانيات المقاومة المتعاظمة، وإن كانت قد أقلقته فعلاً بسبب قدرتها على الوصول بنجاح إلى هدفها المرصود، وعجز الرادارات الإسرائيلية والأمريكية التي كانت متواجدة في عرض البحر عن اكتشافها، فضلاً عن اعتراضها واسقاطها، مما يشير إلى أنها مسيرات حديثة، وأنها ذات تقنياتٍ عاليةٍ، وأن حزب الله لديه المزيد منها، زودته بها إيران أو تمكن من شرائها بنفسه، كما أصبح قادراً على تصنيعها وتطويرها، وتعويض النقص فيها.

 

بداية القلق والمخاوف الإسرائيلية كانت قبل سنواتٍ مضت، عندما نجح الحوثيون في استهداف مجمعات آرامكو النفطية السعودية، التي وصلتها طائراتهم المسيرة أكثر من مرةٍ وقصفتها، وعطلت العديد من أجزائها، قبل أن تتمكن من الوصول إلى مياه الخليج العربي، وتضرب سفناً راسيةً في فنائه، وتحلق فوق مطارات المنطقة، ما أدى إلى توقفها عن العمل مؤقتاً، وتعطيل برامجها، وتحويل مسارات الطيران المدني، الأمر الذي ألحق خسائر بالملاحة الجوية، وتسبب في أضرار مادية كبيرة.

 

هذا إلى جانب المخاوف الأمنية التي أخذت تتصاعد وتكبر، وتأخذ مناحي مسعورة في التسلح وبناء المنظومات المضادة، التي لم تتمكن حتى الآن من إظهار فعاليتها، وإثبات قدراتها أمام هذه المسيرات الصغيرة الدقيقة، التي غدت كالطيور المحلقة، تتحكم في طيرانها، وتعدل مسارها، وتموه حركتها، وتعرف أهدافها، وتطير على ارتفاعاتٍ مختلفةٍ تعقد وسائل اكتشافها وسبل ملاحقتها، بالإضافة إلى التنافس الشديد في تصنيعها وتطويرها، حيث باتت تقنياتها سهلة ومتوفرة، ومصانعها كثيرة وعديدة، وتجارها الذين يبغون الربح ويبحثون عن الكسب، لا يبالون بمن تقع في أيديهم هذه المسيرات.

 

ليست هذه محاولة للغرور أو الحرب الدعائية، أو التباهي بالقدرة واستعراض القوة، بقدر ما هي عرض للمخاوف الإسرائيلية الحقيقية، التي عبر عنها الكثير من ضباط جيشهم وخبرائهم ومراسليهم ومحلليهم العسكريين، الذين لا يخفون مخاوفهم من أن المعارك القادمة مع قوى المقاومة ستكون معارك جوية، وستكون فوق مناطق استراتيجية، وأخرى فوق مناطق سكنية وتجمعاتٍ مدنية، الأمر الذي من شأنه أن يعطل قدرات الجيش النوعية، ويشل قدراته الدفاعية ويعطل أذرعه الهجومية.

 

لا يخفي العدو الصهيوني أنه حاول ضرب مقرات القيادة الجوية، ومراكز التصنيع والتطوير، ومحطات الإطلاق والإدارة، واستهدف الشحنات الواردة وقتل عدداً من الخبراء والمصنعين، لكنه يعترف أنه عجز عن تعطيل برامج السلاح الجوي لدى قوى المقاومة، التي تمكنت من امتلاك العديد منها، ما يجعلها قادرة على الوصول إلى كل الأهداف القريبة والمحيطة، ولعل تجربة البالونات المفخخة والطائرات الورقية المحملة بمواد حارقةٍ، تجعلهم يدركون خطورة المسيرات ومدى قدرتها على إلحاق الرعب بين السكان، إذ ستكون قادرة على التدمير والقصف، والحرق والتخريب، والقتل والإصابة، فضلاً عن احتمالية تزايد مرضى الحالات النفسية، الذين أرعبتهم الطائرات الورقية، وجعلت عيونهم تدور في محاجرها وهي تتطلع إلى السماء تترقب الشهب الساقط وتخاف من اللهب الصاعد، وتتحسب من كل طائرٍ في السماء، ويظنون أن كل صيحةٍ هي عليهم.

 

لا ندعي القوة ولا نتظاهر بالتفوق، لكننا بالتأكيد نظهر عزمنا، ونبدي إرادتنا، ونكشف عن نوايانا، ونقول بالفعل قبل الكلام، وبالعمل أكثر من الادعاء، أننا نصر على حقوقنا، ونناضل من أجل تحرير أوطاننا وتطهير مقدساتنا، وأننا نقاوم أعداءنا مهما كانت قوتهم، أو تعاظم سلاحهم واشتد بأسهم.

 

إننا ونحن أصحاب الأرض وأهل الحق، قادرون على أن نجترح كل يومٍ سلاحاً جديداً، من الصخر نشقه، ومن الحجر نصنعه، ومن طين الأرض نشكله، لنواجه به عدونا، ونستعيد به حقنا، فلا نستسلم له عن ضعفٍ، ولا نهادنه عن عجزٍ، ولا نفرط له في شبرٍ من أرضنا، أو جزءٍ من حقوقنا، مهما علا وبغا واستعلى وطغى، والسماء مدانا والفضاء مجالنا، والأرض ميداننا والمستقبل لنا، وعيوننا بعد السماء على البحر إن لزم الأمر نشقه، ووعداً إلى النصر نخوضه.

 

بيروت في 10/7/2022

moustafa.leddawi@gmail.com

--
You received this message because you are subscribed to the Google Groups "الفكر القومي العربي" group.
To unsubscribe from this group and stop receiving emails from it, send an email to alfikralarabi+unsubscribe@googlegroups.com.
To view this discussion on the web visit https://groups.google.com/d/msgid/alfikralarabi/CA%2Bk3Ojg-P3NLWd8a3Q7jMJCEq0j5b%2BTY7Y4PgDXjgPXBo0xn1w%40mail.gmail.com.

Friday, 8 July 2022

{الفكر القومي العربي} يائير لابيد بين استحقاقي الحربِ وتوقيعِ صفقةِ الأسرى

يائير لابيد بين استحقاقي الحربِ وتوقيعِ صفقةِ الأسرى

بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي

تسلم يائير لابيد زعيم حزب هناك مستقبل "ييش عتيد"، رئاسة الحكومة الإسرائيلية من شريكه في الائتلاف الحكومي نفتالي بينت، الذي اضطر إلى القبول بتبادل المناصب بعد أن عَرَّاه أعضاءُ حزبه وتخلوا عنه، وأفقدوه الأغلبية وحجبوا الثقة عن حكومته، وصوتوا ضده لصالح حل الكنيست والدعوة إلى انتخاباتٍ برلمانية مبكرة، وألجأوه إلى الإعلان عن اعتزال السياسة، والعزوف عن الترشح في الانتخابات القادمة، والامتناع عن تسلم أي منصبٍ وزاري في الحكومة المقبلة، فيما بدا أنه يأسٌ وقنوطٌ، وعزلةٌ وانزواء، وإحساسٌ بالغربة والوحدة، والرفض والطرد، نتيجة تخلي أعضاء حزبه عنه وانفضاضهم من حوله، وظهوره أمام شعبه عارياً من أي كساء، محروماً من أي دعم، ومجرداً من أي قوةٍ.

 

بدأ يائير لابيد مهامه في مكتب رئاسة الحكومة الإسرائيلية بالإعلان عن موقفين، والاهتمام بملفين، وإن كان أمامه العديد من الملفات الساخنة التي تركها شريكه مفتوحةً، بعد أن عجز عن حلها ومعالجتها، وفي المقدمة منها الملف النووي الإيراني المستعصي على كل حكومةٍ، والمقلق لكل رئيسٍ لها، ولكن يبدو أن يائير قد آثر ملفين عن غيرهما، فبدأ بهما وانشغل بمعالجتهما، ولعله يكون أقرب إلى أحدهما من الآخر، وأكثر اقتناعاً بسرعة وأهمية تنفيذه دون الآخر، كونه يستطيع أن يتخذ بنفسه قراراً بشأنه، ولا يكون فيه مضطراً إذا أراد تنفيذه إلى انتظار الموافقة الأمريكية والمباركة الدولية.

 

أما الملف الأول فيتعلق بحماية منصة استخراج الغاز من حقل كاريش، بعد أن هددت المقاومة اللبنانية باستهدافها، وأظهرت قدرتها على ضربها وتعطيلها، من خلال المسيرات التي أطلقتها، وتمكنت بسهولةٍ من الوصول إلى أهدافها، والتحليق فوق منصة الاستخراج وسفينة التنقيب اليونانية، ونجاحها في تصوير أهدافها، وبث صورها ونشرها، في رسالةٍ واضحةٍ، مباشرة وصريحة، للعدو الصهيوني، أن المسيرات التي تحمل كاميراتٍ دقيقة، وتتمكن من التصوير والبث، قادرة على أن تحمل صواريخ أو متفجراتٍ، وأن تلقي بحمولتها على الأهداف المقصودة، كما بالإمكان تفخيخها، وإرسالها في مهماتٍ انتحاريةٍ ناجحةٍ.

 

حمل يائير لابيد إلى جانب الملف النووي الإيراني، الحاضر دوماً، والذي لا يغيب عن مسؤولٍ إسرائيليٍ أبداً، ملف المنصة المتفجر، ومسيرات حزب الله الواثقة من أهدافها، إلى العاصمة الفرنسية باريس، لعرضها على الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، لينقل بدوره إلى الحكومة اللبنانية وحزب الله تحذيراتٍ إسرائيلية واضحة، أنه في حال واصل حزب الله عملياته، ولم يكف عن تهديداته، ويتوقف عن إرسال مسيراته، فإن "جيش إسرائيل" يستطيع القيام بهذه المهمة، وضرب أهدافٍ لبنانية مهمة وحساسة.

 

إلا أنه يعلم يقيناً أن تهديداته لن تجدِ نفعاً، ولن يصغي إليها اللبنانيون، ولن تخيف أو تردع حزب الله عن الوفاء بتعهداته والقيام بالتزاماته، تجاه الشعب اللبناني بتحرير أرضه وصيانة حقوقه وحفظ خيراته، وأنه شخصياً لا يستطيع القيام بهذه المهمة في ظل الظروف الاستثنائية التي يعيشها كيانه، وآماله في أن يعود رئيساً أصيلاً للحكومة الإسرائيلية بلا منافسة ولا مقاسمة.

 

ولهذا فإنه لن يمضيَ فعلياً في هذا الملف، وسيكتفي بالتهديدات وسيعزز مسار المفاوضات، أملاً في الوصول إلى اتفاقٍ مشرفٍ بالوساطة الأمريكية مع الجانب اللبناني، يخرجه من المأزق، ويجنبه حرباً قد تودي بمستقبله السياسي، وتنهي أحلامه وطموحاته في الوصول إلى مكتب رئاسة الحكومة سيداً منفرداً.

 

أما الملف الثاني الذي ورثه لابيد وشريكه من سلفهما بنيامين نتنياهو، والذي يفضله ويريد أن يبدأ به ويبذل جهوداً لحله، إذ لن يكلفه حرباً ولن يكون سبباً في خسارة المزيد من جنوده، وقد يحقق من خلاله ما عجز عن تحقيقه أسلافه، فهو المتعلق بجنوده المفقودين لدى المقاومة الفلسطينية بغزة، التي حددت شروطها، وأعلنت جاهزيتها لتنفيذ الصفقة حال التزام العدو بشروطها، وتعهده بالوفاء بطلباتها، ونشرت في الأيام القليلة الماضية، مصداقاً لجديتها، صوراً لأحد المفقودين، وكشفت عن حالته الصحية.

 

إلا أن العدو الذي يتعالى ويتغابى، ويغمض عينيه عن شروط المقاومة، يريد أن يفرض ما لا يستطيع من الشروط عليها، وأن يجبرها بالإهمال واللامبالاة على التراجع عن مواقفها، كما يحاول من حينٍ لآخر أن يقهر بالقوة إرادتها، إذ يطمح أن يستعيد جنوده المعتدين بلا ثمن، وتحريرهما بلا مقابل، ولعله بهذه الأحلام يخسر وقته ويفقد الفرصة لاستعادتهم، ولو أنه يستطيع تحقيق ما يريد بدون ضريبة لفعل ذلك، إلا أن تجربته مع شاليط تؤكد له أنه عبثاً يحاول، ومستحيلاً يأمل، وأنه ليس أمامه سوى القبول بالشروط، والالتزام بالعهود، والإفراج عن الأسرى المحددة أسماؤهم، والمصنفة حالاتهم.

 

يبدو أن لابيد الذي سارع إلى لقاء مسؤول ملف الأسرى والجنود المفقودين، واجتمع بوزير الرفاه الاجتماعي، إلى جانب تصريحاته السابقة الداعية إلى وجوب إنهاء هذا الملف، ووقف معاناة عائلات جنوده المفقودين، تشير إلى أنه سيولي هذا الملف اهتمامه الخاص، وسيتخذ فيه قراراً قريباً يأمل منه أن يزيد به رصيده، ويحسن فرصته وحزبه في الفوز في الانتخابات البرلمانية القادمة، ويقوم بما لم يقوَ على القيام به أسلافه.

 

يعلم لابيد أن هذا الملف يجب أن ينتهي عاجلاً أو آجلاً، وأن رئيس الحكومة الإسرائيلية أياً كانت هويته وصفته، فإنه سيوقع قراراً ينهي هذه الأزمة، ويوافق على تقديم ثمنٍ ولو كان موجعاً لحلها، ولهذا فهو يريد أن يكون هو هذا الشخص الذي يحقق هذا النصر لشعبه، ولكنه يخطئ كثيراً ويتوهمُ إن استسهل هذا الملف واستخف بالمقاومة، وظن أنه يستطيع أن يخدعها، وأن يضغط عليها بالوقت والرهان، وينتزع منها ما يريد، ويحرر جنوده ويحقق صفقةً بلا ثمنٍ، يفاخر بها ويرتقي من خلالها، ويحصد أعلى الأصوات بسببها.

 

بيروت في 8/7/2022

moustafa.leddawi@gmail.com

--
You received this message because you are subscribed to the Google Groups "الفكر القومي العربي" group.
To unsubscribe from this group and stop receiving emails from it, send an email to alfikralarabi+unsubscribe@googlegroups.com.
To view this discussion on the web visit https://groups.google.com/d/msgid/alfikralarabi/CA%2Bk3OjgFxWB4DT3tM6oj4Z3Sc-owyU-HX_iGc79isqp%2BjVmCCg%40mail.gmail.com.