الأول من آذار بين الأمس واليوم
عائشة عودة
الأول من آذار عام 1969 كان يوما ربيعيا رائقا ومشمسا وساحرا.
في ذلك اليوم، طوقت قوات كبيرة من جيش الاحتلال منزل أسرتي بهدف اعتقالي، وكنت خارج المنزل، وكان لا بد من أخذ القرار، فكان: "لن أهرب. لن أغادر أرض الوطن. لن أتركه لهم، وسأواجه". كان قرارا مفصليا في حياتي، وما زال يشكل نبعا ونبراسا لي، وما زال العديد غير مصدق أو يسألني: ألا تندمين؟
كنت في الرابعة والعشرين؛ مفعمة بإرادة حرة. إرادة تنبع من صميم إرادة شعبي الذي يصر على حريته وكرامته وإنسانيته ووطنه. كانت المواجهة عنوانا لهذه الإرادة، والاستعداد للتضحية بلا حدود، هو التعبير الأسمى عن إنسانية الإنسان وإرادته الحرة، ولم أكن أرى نفسي غير ذلك.
هل كنت حينها نبتة وحيدة وغريبة في مجتمع تكال له اليوم أبشع أشكال التهم؟ فكيف إذن سبقتني شادية أبو غزالة إلى الاستشهاد فوق أرض الوطن عام 1968؟ وكيف سبقتني كل من فاطمة برناوي وعبلة طه وسارة جودة ولطفية الحواري إلى الأسر والاعتقال؟ وكيف تشاركتُ ورسمية عودة في ذات اليوم وذات المصير؟ وكيف خرجت عايدة سعد من غزة ومريم الشخشير من نابلس وعشرات أخريات في كل من القدس وغزة ونابلس ورام الله وجنين في شهر آذار ذاته؟ وكيف تسللت تريز هلسا وصديقتها من عكا عام 1971 إلى القواعد الفدائية في لبنان لتعود بعد عام في طائرة تهبط بها في مطار اللد، لتطالب بالإفراج عن المناضلات والمناضلين في السجون الصهيونية؟ وكيف ركبت الشهيدة دلال المغربي البحر، لتصل بسلاحها إلى قلب فلسطين على رأس مجموعة فدائية؟ وقبل ذلك كله، كيف وصلت وداد قمري ونهيل عويضة إلى النواة التاريخية التي ربما لم يزد عددها عن خمسة، لأخذ أخطر القرارات التي تمس صلب حياة الشعب، هو تأسيس حركة للمقاومة بعد هزيمة 67 ، ممثلة في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين؟ وقد انخرطت أثر ذلك، نساء كثيرات في إرادة المقاومة، فتدرّبت المئات من الفتيات في معسكرات التدريب في جبال الأردن، للمشاركة بفعالية في إرادة التحرر لكامل الشعب وأرض وطنه؟ وهل يمكن للفرد أن يكون حرا وكريما دون حرية شعبه وكرامته؟
هل كان جيلنا في حينه، يتلقّى مئات الدروات في الجندر والنسوية، ويشارك في مئات أخرى من ورشات عمل تحت يافطة تمكين المرأة لمشاركتها في سوق العمل وبناء دور آمنة للنساء المعنفات، وفي الديمقراطية والانتخابات وتقبل الآخر! وأخرى ترفع شعارات مشاركة النساء والشباب وحتى الأطفال في صنع القرار، (وأي قرار؟) كي ندرك مقدار الحرية والإرادة التي كنا نملكها، كي ننخرط في نضال شعبنا من أجل حريته؟ وفي ظل الانخراط في النضال، هل كان من الممكن أن يتحول غضبنا بعيدا عن المحتل والمغتصب، الذي حال بين شعبنا وبين نموه وتطوره الطبيعي فوق أرض وطنه، لنركزه غضبا على ذواتنا وأسرنا وأحبتنا ومجتمعنا وشعبنا وأمتنا!
بين آذار الأمس وآذار اليوم، كم ابتعدنا عن حرّيتنا المقدسة! وكم انحرف مسارنا!
الأول من آذار لعام 2012 ، الجو فيه عاصف ومدلهم، لكن، هناء الشلبي التي تواجه صلف المحتل والمغتصب بأمعاء خاوية من الطعام، وإرادة زاخرة بالعزيمة، ترفع راية الحرية المقدسة وتقول "لا" قوية، تشعلها منارة مستمدة من إرادة شعبنا وعلى طريق إرادة شيخنا وقنديلنا خضر عدنان، الذي دشن لنا مرحلة جديدة من النضال ستعرف مستقبلا بإسمه، توجه القطار إلى مساره الصحيح، وتعيد للمواجهة ألقها ، وللتضحية قدسيتها وقدرتها على توليد النور.
__._,_.___
Messages in this forum reflect the author's opinion only and do not necessarily express the Forum�s point of view
.
__,_._,___
No comments:
Post a Comment