ذكرى صبرا وشاتيلا: السينما الوثائقية والمجزرة
تتذكر من فقدتهم في المجزرة (هيثم الموسوي)
بمناسبة الذكرى الثلاثين لمجزرة صبرا وشاتيلا، سأستعرض في هذا المقال فيلمين وثائقيين غير اعتياديين حول هذه المجزرة البشعة، والتي نُفذت على مدى ثلاثة أيام (من الخميس 16 أيلول 1982 حتى السبت 18 أيلول)
الفيلم الأول بعنوان «مجزرة» إخراج الألمانية مونيكا بورغمان ولقمان سليم وهيرمان ثايسن (99 دقيقة. إنتاج ألماني/ لبناني، 2005) ولم يحظ بالاهتمام الذي يستحقه. أما الثاني فهو «فالس مع بشير» للإسرائيلي آري فولمان (90 دقيقة. إنتاج إسرائيلي/ غربي، 2008 ). والثاني فيلم رسوم متحركة يُختتم بصور حقيقية لضحايا المجزرة، وحظي لأسباب سيستخلصها القارئ لاحقاً بتغطية غربية واسعة واهتمام بالغ وإيجابي من النقاد السينمائيين.
يقفز الفيلم الأول سريعاً عن الإطار التاريخي والسياسي للمجزرة، فبعد مقدمة قصيرة جداً ومحايدة تقريباً عن غزو إسرائيل للبنان، يقودنا مخرجو الفيلم إلى أولى اللقاءات التي سجلوها بعد 20 عاماً من ارتكاب المجزرة، مع ستة من القتلة الذين تلطخت (بل قل طفحت) أيديهم بدماء المدنيين الأبرياء. الفيلم ليس وثائقياً بالشكل التقليدي، فهو لا يهدف إلى إعادة بناء المجزرة وتقديم أحداثها كبناء متماسك كما جرت عليه العادة، وإنما تبيان هول المجزرة من خلال النبش في ذاكرة القتلة والغوص في عقلية ونفسية الجلاد، وربط عقليتهم ببيئتهم السياسية والاجتماعية، ما يضيء على ظاهرة العنف الدموي الجماعي الذي يصبغ الحروب الأهلية. وظف مخرجو الفيلم أساليب فنية تناسب الموضوع والشخصيات. وُضع المستجوبون في إطار معتم ومقبض دون أن تظهر وجوههم. الزوايا التي عملت من خلالها الكاميرا غير اعتيادية. في المحصلة النهائية، وقع وتأثير الفيلم قوي جداً. فهو يجعلك من خلال شهادات القتلة، التي تُعري نفسيتهم «المنحرفة»، تغضب وتثور وتعاني أكثر من رؤية صور الجثث المقطعة والمنتفخة للضحايا الأبرياء. ضحايا كان جلّهم غير قادرين على الدفاع عن أنفسهم. من بين ما قاله القتلة، اخترت الاقتباسات الآتية:
«القتل الأول هو القتل الأصعب، تقوم به بتردد. في المرة الثانية أو الثالثة يصبح الأمر أسهل، أما في المرة الرابعة فتبدأ بالاستمتاع بذلك. كنا نقتل كما في أفلام الكاوبوي، لم نكن ندرك أننا نقتل فعلاً». أحدهم وصف بتلذذ عملية الذبح بالسكين. شخص ثان: «كنا نقتل بلا وعي وكأننا في منافسة، كل واحد يريد أن يكون الأقوى، الأكثر إرعاباً، والمنتقم الأكبر».
يذكّرني هذا بشهادة أفراد كتيبة البوليس الألماني الاحتياطي رقم 101 في بولندا: «كنا لا نريد أن ينظر إلينا أحد ضمن الكتيبة التي نعمل فيها كجبناء أو ضعاف قلوب. لم تكن لدينا رغبة في الانفصال عن الجماعة».
على عكس» النازيين» من أفراد الكتيبة 101 الذين أبدوا جميعهم مشاعر ندم حقيقية على ما ارتكبته أيديهم (قد يكون بعضها مصطنعاً نتيجة الخوف من العواقب، أو حياء من مواجهة مشاعر مجتمع ألماني لم يعد يتقبل فكرة قتل الأبرياء)، فإنّ الستة من مرتكبي مجزرة صبرا وشاتيلا ليست لديهم مشاعر ندم سياسية أو أخلاقية. فكراهيتهم للفلسطينيين تفوق على ما يبدو كراهية «الرجال العاديين» من الكتيبة 101 لليهود. أحدهم تفوه بخطاب عنصري نمطي، فقال «لا تشتر الفلسطيني إلا والعصا معه» (على وزن هجاء أبو الطيب المتنبي لكافور الأخشيدي: لا تشتر العبد إلا والعصا معه/ إن العبيد لأنجاس مناكيد). مع ذلك، فإن بعضهم يعيش وذكريات الماضي تطارده، لكن المحنة هي محنته الذاتية. شخص خائف منهم قال «نحن لا نولد قتلة، لكن الظروف جعلت منا ذلك». هل يخفف عنهم أنّ جميعهم ينتمون إلى الشرائح الفقيرة والهامشية من المسيحيين اللبنانيين؟ بعضهم شرح كيف ضُرب بقسوة وهو صغير، تحدث عن كل رذائل أبيه الذي كان يضرب الأم والأبناء وينفق ماله ليشرب الخمر ويتعاطى الحشيش. على ما يبدو، أعاد إنتاج والده وأسقطه على شخصية الفلسطيني وانتقم منه. كالعادة، فقراء قتلوا فقراء. لقد قتلوا أمثالهم من الفقراء الفلسطينيين واللبنانيين والسوريين، فصبرا وشاتيلا لم تكن كما هي في المخيلة الفلسطينية مجزرة ضد الفلسطينيين حصراً، وإن كان هم من دفعوا الثمن الأكبر. عائلة المقداد الشيعية القادمة من شمال لبنان سكنت المخيم، فاحتمت من رمضاء الفقر بنار السكين. كانت العائلة المنكوبة بامتياز: 38 شخصاً من أفرادها، غالبيتهم من النساء، منهنّ اثنتان حاملان، بقرت بطونهم على طريقة دير ياسين. عموماً، النساء المولولات الباكيات كن يثرن غضب القتلة. هل هو الانتقام من صورة أمهم الخانعة، أم هي سادية فقراء وقبضايات الأحياء المهمشة في بيروت وقرى جرود الجبل النائية؟
نفهم من الفيلم أنّ قلة من القوات اللبنانية والذين أحضروا إلى المخيم رفضوا المشاركة أو الاستمرار عندما رأوا بشاعة ما يحدث. هناك إعجاب لديهم بالأدوات gadgets الإسرائيلية: اللباس الكاكي، خوذ الرأس، وسائل الاتصال الحديثة، جعب الذخيرة، المواد الغذائية المعلبة في أنابيب. بعضهم استذكر رحلته على شاطئ إيلات حيث استمتعوا بمرأى نساء عاريات. وهم جميعاً، مولعون وسعداء بالضغط على الزناد.
في مقارنة مع الصهاينة الذين ينكرون علاقتهم بالمذبحة ويجدون لها المبررات، تمتع هؤلاء القتلة بصراحة مذهلة. لا أحد منهم ينكر أنّه قتل مدنيين (حتى الأطفال الصغار في الأسرة، والأجنة في الأرحام لم تُرحم)، لا يوجد خطاب تبريري أو اعتذاري. مجرد «نحن نكرههم ويجب أن يقتلوا»(...) «نقتل المرأة الشابة لأنّها تنجب أطفالاً، والطفل سيكبر، وعندما يكبر سيصبح إرهابياً». فقط، جلاد واحد برر القتل حين قال ما معناه إنّ ضحاياهم جميعاً كانوا مسلحين.
من خلال أسئلة مخرجي الفيلم، عَرف القتلة على أنفسهم كمسيحيين يكرهون اليهود. السبب؟ «لأنّهم قتلوا المسيح». وهم يدركون أنّ فلسطين أرض الفلسطينيين وأنّ اليهود اغتصبوا أرضهم. ولكن هم كبشير الجميل في أحلام الوردية بشأن موقع المخيمين، يخال إليك أنّهم مجرد حماة بيئة، أرادوا «تنظيف» المكان لتقام هناك حديقة عامة! الفيلم الثاني «فالس مع بشير» عُرض في المسابقة الرسمية لمهرجان كان السينمائي في 2008، بمناسبة الاحتفال بالذكرى الستون لقيام دولة إسرائيل، ورُشح لنيل إحدى جوائز المهرجان. لكن في نهاية الأمر، فإنّه لم يحظ بأي جائزة تقديرية، رغم النقد الإيجابي والترحيب الذي ناله في وسائل الإعلام الغربية وحتى في كثير من المقالات العربية «المُطبعة» (أو الساذجة إذا أردنا أن نُحسن النية ونكون كرماء تجاه أصحابها). الفيلم يحكي قصة المخرج آري فولمان «الحقيقية» في رحلة بحثه الموجعة في ذكرياته؛ إذ رَقص في لحظة ضغط نفسي مع الموت أمام صورة عملاقة لبشير الجميل في بيروت (ومن هنا جاء عنوان الفيلم).
يبدأ الفيلم، الذي يمتد 90 دقيقة، حين يُوقظ المخرج من عز النوم صديقه بوعز الذي كان معه في الحرب العدوانية على لبنان في 1982، ليقص عليه كابوسه المستمر والذي تظهر فيه كلاب مسعورة تتعقبه لتنهشه وعددها دائماً، ولا نعرف في البداية سبب ذلك، 26 كلباً! تعسرت على فولمان معرفة تفسير ذلك الكابوس، إلا أنّ تأثيره عليه كان بالغاً، فقد بدأ يستعيد ليلة تلو أخرى، كابوسه الغامض الذي ظل يراوده طويلاً، وأصبح مقلقاً ومزعجاً له أكثر من أي وقت مضى. وللبحث عن خلفيات هذا الكابوس ومسبباته، بدأ فولمان محاولة اللقاء بكل من له علاقة بكابوسه من رفاق السلاح السابقين ليعيد بناء ذاكرته المعطوبة من خلال طرح الأسئلة عليهم حول تلك الفترة المرتبطة بأحداث صبرا وشاتيلا البائسة وبمقدماتها. إذ سبق له أن كُلف بمهمات استكشاف وقنص قبل تلك الأحداث. نكتشف لاحقاً، أنّ رقم 26 هو عدد الكلاب التي قتلها الجندي على مداخل قرى لبنانية. كانت الكلاب أول من يتنبّه لمحاولات تسلل الجنود الإسرائيليين للقرى بصمت وتحت جنح الظلام (لتنفيذ عمليات اغتيال أو خطف «إرهابيين») فتبدأ بالنباح فتلفت الانتباه إليهم، وبالتالي تتيح هرب «المطلوبين». ورغم «جمال الفكرة»، لا يملك المرء إلا أن يتساءل: لماذا كانت الكلاب وليس العائلات البريئة التي قُتلت هي «أبطال» هذه الكوابيس التي تطارد هذا الصهيوني اليساري الرحيم! ولا نجد جواباً لهذا السؤال، إلا أن نقول، وقد نظلمه، إنّه في الوعي الباطني لمخرج الفيلم، فإنّ شعوره بالعطف تجاه الكلاب، هو أكبر من شعوره بالعطف نحو الضحايا البشر من اللبنانيين والفلسطينيين. (في الفيلم تُقتل عائلة لبنانية كاملة في سيارة مرسيدس عن طريق الخطأ بدون أي ذنب، في حين من الممكن «تفهم» قتل الكلاب التي كان نباحها يهدد تنفيذ مهمة الإسرائيليين، وقد يعرض حتى سلامة الجنود للخطر).
خلال رحلة الفيلم، يسافر المخرج لملاقاة أصدقائه في أنحاء الأرض (فقط اثنان من أصل 9 رفضوا أن تُذكر أسماؤهم الحقيقية) وكلما توغل في الحديث إليهم وبحث في ذاكرتهم عادت صور ما حدث لتطفو على السطح. ويكتشف المشاهد أنّ أحد الجنود كان من أفراد القوة الإسرائيلية التي فرضت الحصار على صبرا وشاتيلا ومن الذين شاركوا في إطلاق القذائف المضيئة فوق المخيمين لتسهيل عمل فرق الموت التي كان يديرها إيلي حبيقة ويشرف عليها ضباط إسرائيليون كبار، وكانت مهمتها «تنظيف المخيم» وتفريغه من السكان كجزء من «رؤية» وزير الدفاع الإسرائيلي في حينه أرييل شارون. (رؤية طبقها شارون قبل مذبحة مخيمَي صبرا وشاتيلا في 1970 - 1972 في مخيمات غزة، وبعد صبرا وشاتيلا في مخيم جنين في 2002).
إن تلك المراوحة المتواصلة بين الكابوس والواقع استطاعت أن تمارس نوعاً من التطهير الذاتي للتراكمات النفسية المكبوتة التي يعانيها المخرج، باعتباره جزءاً من ذلك الحدث. وتصبح الحكاية، التي عرضت بتقنية رسوم متحركة مبهرة وعالية الأداء من الناحية الفنية، وسيلة للشفاء من الذكريات المدمرة (للجنود بالطبع وليس للضحايا!). فبعدما كان الأمر بالنسبة إليه ــ كسائر زملائه ــ كمن يذهب إلى نزهة، جاء قتال المقاومة الذي قصف عُمرَ بعض رفاقه ليعيد «للمعادلة بعض التوازن حيث يصطدم بواقع يحكم القبضة عليه ويغرقه في عبثية الحرب». بدون أدنى شك الفيلم معادٍ للحروب، وهو يتعامل مع الذاكرة كذاكرة يمكن قمعها حتى لا تطفو على سطح الوعي، أو كذاكرة يمكن التلاعب بها لتختلف عما حدث فعلاً. وهو هنا يتماهى وبذكاء ملحوظ مع الاتجاه المتصاعد في السنوات الأخيرة لدراسة العلاقة بين الذاكرة والتاريخ، والبناء الاجتماعي للذاكرة الجمعية.
يعلق المخرج على الفيلم بقوله: «إذا كان النسيان ضرورياً حتى تستمر الحياة بعد المجزرة، فالتذكر ضروري ولو بعد مضيّ 26 عاماً على المجزرة (...) صنعت هذا الفيلم لأولادي كي يحاولوا حين يكبرون عدم المشاركة في أي حرب». ويضيف «أعتقد أن آلاف الجنود الإسرائيليين خبأوا ذكرياتهم حول حرب لبنان في أعماقهم السحيقة. ولكن ذلك قد ينفجر في يوم ما، محدثاً أضراراً لا أعرف حجمها».
اختتم فولمان فيلمه بـ 50 ثانية من الصور الواقعية البشعة لضحايا مجزرة صبرا وشاتيلا، إذ صرّح للصحافيين «لم أكن أريدكم أن تخرجوا من العرض بعد مشاهدة الفيلم وأنتم تفكرون في أن هذا فيلم رسوم متحركة لطيف وظريف». وأضاف «هذه الأشياء حدثت، آلاف الناس قتلوا، ولكي يوضع الفيلم في نصابه، كانت هذه الثواني الخمسون ضرورية بالنسبة إليّ».
لكن في الختام، بدا لي أنّ العنوان المناسب للفيلم ليس «فالس مع بشير»، بل «كيف تريح ضمير الجلاد؟» إذ إنه لا يمكن إدراج المقاربة النفسية المفصولة عن جوهر العلاقة بين الضحية والجلاد، وهي علاقة في جوهرها ظلم واغتصاب المستعمر للمستعمر، لأرضه أو لروحه سيّان، إلا في إطار معادلة «أقتله ثم أذرف الدموع عليه» والتي تختصر في الثقافة الغربية الأنغلو ــ ساكسونية بـ«shoot and cry».
* مؤرخ وأستاذ العلوم السياسية في جامعة بيرزيت
الفيلم الأول بعنوان «مجزرة» إخراج الألمانية مونيكا بورغمان ولقمان سليم وهيرمان ثايسن (99 دقيقة. إنتاج ألماني/ لبناني، 2005) ولم يحظ بالاهتمام الذي يستحقه. أما الثاني فهو «فالس مع بشير» للإسرائيلي آري فولمان (90 دقيقة. إنتاج إسرائيلي/ غربي، 2008 ). والثاني فيلم رسوم متحركة يُختتم بصور حقيقية لضحايا المجزرة، وحظي لأسباب سيستخلصها القارئ لاحقاً بتغطية غربية واسعة واهتمام بالغ وإيجابي من النقاد السينمائيين.
يقفز الفيلم الأول سريعاً عن الإطار التاريخي والسياسي للمجزرة، فبعد مقدمة قصيرة جداً ومحايدة تقريباً عن غزو إسرائيل للبنان، يقودنا مخرجو الفيلم إلى أولى اللقاءات التي سجلوها بعد 20 عاماً من ارتكاب المجزرة، مع ستة من القتلة الذين تلطخت (بل قل طفحت) أيديهم بدماء المدنيين الأبرياء. الفيلم ليس وثائقياً بالشكل التقليدي، فهو لا يهدف إلى إعادة بناء المجزرة وتقديم أحداثها كبناء متماسك كما جرت عليه العادة، وإنما تبيان هول المجزرة من خلال النبش في ذاكرة القتلة والغوص في عقلية ونفسية الجلاد، وربط عقليتهم ببيئتهم السياسية والاجتماعية، ما يضيء على ظاهرة العنف الدموي الجماعي الذي يصبغ الحروب الأهلية. وظف مخرجو الفيلم أساليب فنية تناسب الموضوع والشخصيات. وُضع المستجوبون في إطار معتم ومقبض دون أن تظهر وجوههم. الزوايا التي عملت من خلالها الكاميرا غير اعتيادية. في المحصلة النهائية، وقع وتأثير الفيلم قوي جداً. فهو يجعلك من خلال شهادات القتلة، التي تُعري نفسيتهم «المنحرفة»، تغضب وتثور وتعاني أكثر من رؤية صور الجثث المقطعة والمنتفخة للضحايا الأبرياء. ضحايا كان جلّهم غير قادرين على الدفاع عن أنفسهم. من بين ما قاله القتلة، اخترت الاقتباسات الآتية:
«القتل الأول هو القتل الأصعب، تقوم به بتردد. في المرة الثانية أو الثالثة يصبح الأمر أسهل، أما في المرة الرابعة فتبدأ بالاستمتاع بذلك. كنا نقتل كما في أفلام الكاوبوي، لم نكن ندرك أننا نقتل فعلاً». أحدهم وصف بتلذذ عملية الذبح بالسكين. شخص ثان: «كنا نقتل بلا وعي وكأننا في منافسة، كل واحد يريد أن يكون الأقوى، الأكثر إرعاباً، والمنتقم الأكبر».
يذكّرني هذا بشهادة أفراد كتيبة البوليس الألماني الاحتياطي رقم 101 في بولندا: «كنا لا نريد أن ينظر إلينا أحد ضمن الكتيبة التي نعمل فيها كجبناء أو ضعاف قلوب. لم تكن لدينا رغبة في الانفصال عن الجماعة».
على عكس» النازيين» من أفراد الكتيبة 101 الذين أبدوا جميعهم مشاعر ندم حقيقية على ما ارتكبته أيديهم (قد يكون بعضها مصطنعاً نتيجة الخوف من العواقب، أو حياء من مواجهة مشاعر مجتمع ألماني لم يعد يتقبل فكرة قتل الأبرياء)، فإنّ الستة من مرتكبي مجزرة صبرا وشاتيلا ليست لديهم مشاعر ندم سياسية أو أخلاقية. فكراهيتهم للفلسطينيين تفوق على ما يبدو كراهية «الرجال العاديين» من الكتيبة 101 لليهود. أحدهم تفوه بخطاب عنصري نمطي، فقال «لا تشتر الفلسطيني إلا والعصا معه» (على وزن هجاء أبو الطيب المتنبي لكافور الأخشيدي: لا تشتر العبد إلا والعصا معه/ إن العبيد لأنجاس مناكيد). مع ذلك، فإن بعضهم يعيش وذكريات الماضي تطارده، لكن المحنة هي محنته الذاتية. شخص خائف منهم قال «نحن لا نولد قتلة، لكن الظروف جعلت منا ذلك». هل يخفف عنهم أنّ جميعهم ينتمون إلى الشرائح الفقيرة والهامشية من المسيحيين اللبنانيين؟ بعضهم شرح كيف ضُرب بقسوة وهو صغير، تحدث عن كل رذائل أبيه الذي كان يضرب الأم والأبناء وينفق ماله ليشرب الخمر ويتعاطى الحشيش. على ما يبدو، أعاد إنتاج والده وأسقطه على شخصية الفلسطيني وانتقم منه. كالعادة، فقراء قتلوا فقراء. لقد قتلوا أمثالهم من الفقراء الفلسطينيين واللبنانيين والسوريين، فصبرا وشاتيلا لم تكن كما هي في المخيلة الفلسطينية مجزرة ضد الفلسطينيين حصراً، وإن كان هم من دفعوا الثمن الأكبر. عائلة المقداد الشيعية القادمة من شمال لبنان سكنت المخيم، فاحتمت من رمضاء الفقر بنار السكين. كانت العائلة المنكوبة بامتياز: 38 شخصاً من أفرادها، غالبيتهم من النساء، منهنّ اثنتان حاملان، بقرت بطونهم على طريقة دير ياسين. عموماً، النساء المولولات الباكيات كن يثرن غضب القتلة. هل هو الانتقام من صورة أمهم الخانعة، أم هي سادية فقراء وقبضايات الأحياء المهمشة في بيروت وقرى جرود الجبل النائية؟
نفهم من الفيلم أنّ قلة من القوات اللبنانية والذين أحضروا إلى المخيم رفضوا المشاركة أو الاستمرار عندما رأوا بشاعة ما يحدث. هناك إعجاب لديهم بالأدوات gadgets الإسرائيلية: اللباس الكاكي، خوذ الرأس، وسائل الاتصال الحديثة، جعب الذخيرة، المواد الغذائية المعلبة في أنابيب. بعضهم استذكر رحلته على شاطئ إيلات حيث استمتعوا بمرأى نساء عاريات. وهم جميعاً، مولعون وسعداء بالضغط على الزناد.
في مقارنة مع الصهاينة الذين ينكرون علاقتهم بالمذبحة ويجدون لها المبررات، تمتع هؤلاء القتلة بصراحة مذهلة. لا أحد منهم ينكر أنّه قتل مدنيين (حتى الأطفال الصغار في الأسرة، والأجنة في الأرحام لم تُرحم)، لا يوجد خطاب تبريري أو اعتذاري. مجرد «نحن نكرههم ويجب أن يقتلوا»(...) «نقتل المرأة الشابة لأنّها تنجب أطفالاً، والطفل سيكبر، وعندما يكبر سيصبح إرهابياً». فقط، جلاد واحد برر القتل حين قال ما معناه إنّ ضحاياهم جميعاً كانوا مسلحين.
من خلال أسئلة مخرجي الفيلم، عَرف القتلة على أنفسهم كمسيحيين يكرهون اليهود. السبب؟ «لأنّهم قتلوا المسيح». وهم يدركون أنّ فلسطين أرض الفلسطينيين وأنّ اليهود اغتصبوا أرضهم. ولكن هم كبشير الجميل في أحلام الوردية بشأن موقع المخيمين، يخال إليك أنّهم مجرد حماة بيئة، أرادوا «تنظيف» المكان لتقام هناك حديقة عامة! الفيلم الثاني «فالس مع بشير» عُرض في المسابقة الرسمية لمهرجان كان السينمائي في 2008، بمناسبة الاحتفال بالذكرى الستون لقيام دولة إسرائيل، ورُشح لنيل إحدى جوائز المهرجان. لكن في نهاية الأمر، فإنّه لم يحظ بأي جائزة تقديرية، رغم النقد الإيجابي والترحيب الذي ناله في وسائل الإعلام الغربية وحتى في كثير من المقالات العربية «المُطبعة» (أو الساذجة إذا أردنا أن نُحسن النية ونكون كرماء تجاه أصحابها). الفيلم يحكي قصة المخرج آري فولمان «الحقيقية» في رحلة بحثه الموجعة في ذكرياته؛ إذ رَقص في لحظة ضغط نفسي مع الموت أمام صورة عملاقة لبشير الجميل في بيروت (ومن هنا جاء عنوان الفيلم).
يبدأ الفيلم، الذي يمتد 90 دقيقة، حين يُوقظ المخرج من عز النوم صديقه بوعز الذي كان معه في الحرب العدوانية على لبنان في 1982، ليقص عليه كابوسه المستمر والذي تظهر فيه كلاب مسعورة تتعقبه لتنهشه وعددها دائماً، ولا نعرف في البداية سبب ذلك، 26 كلباً! تعسرت على فولمان معرفة تفسير ذلك الكابوس، إلا أنّ تأثيره عليه كان بالغاً، فقد بدأ يستعيد ليلة تلو أخرى، كابوسه الغامض الذي ظل يراوده طويلاً، وأصبح مقلقاً ومزعجاً له أكثر من أي وقت مضى. وللبحث عن خلفيات هذا الكابوس ومسبباته، بدأ فولمان محاولة اللقاء بكل من له علاقة بكابوسه من رفاق السلاح السابقين ليعيد بناء ذاكرته المعطوبة من خلال طرح الأسئلة عليهم حول تلك الفترة المرتبطة بأحداث صبرا وشاتيلا البائسة وبمقدماتها. إذ سبق له أن كُلف بمهمات استكشاف وقنص قبل تلك الأحداث. نكتشف لاحقاً، أنّ رقم 26 هو عدد الكلاب التي قتلها الجندي على مداخل قرى لبنانية. كانت الكلاب أول من يتنبّه لمحاولات تسلل الجنود الإسرائيليين للقرى بصمت وتحت جنح الظلام (لتنفيذ عمليات اغتيال أو خطف «إرهابيين») فتبدأ بالنباح فتلفت الانتباه إليهم، وبالتالي تتيح هرب «المطلوبين». ورغم «جمال الفكرة»، لا يملك المرء إلا أن يتساءل: لماذا كانت الكلاب وليس العائلات البريئة التي قُتلت هي «أبطال» هذه الكوابيس التي تطارد هذا الصهيوني اليساري الرحيم! ولا نجد جواباً لهذا السؤال، إلا أن نقول، وقد نظلمه، إنّه في الوعي الباطني لمخرج الفيلم، فإنّ شعوره بالعطف تجاه الكلاب، هو أكبر من شعوره بالعطف نحو الضحايا البشر من اللبنانيين والفلسطينيين. (في الفيلم تُقتل عائلة لبنانية كاملة في سيارة مرسيدس عن طريق الخطأ بدون أي ذنب، في حين من الممكن «تفهم» قتل الكلاب التي كان نباحها يهدد تنفيذ مهمة الإسرائيليين، وقد يعرض حتى سلامة الجنود للخطر).
خلال رحلة الفيلم، يسافر المخرج لملاقاة أصدقائه في أنحاء الأرض (فقط اثنان من أصل 9 رفضوا أن تُذكر أسماؤهم الحقيقية) وكلما توغل في الحديث إليهم وبحث في ذاكرتهم عادت صور ما حدث لتطفو على السطح. ويكتشف المشاهد أنّ أحد الجنود كان من أفراد القوة الإسرائيلية التي فرضت الحصار على صبرا وشاتيلا ومن الذين شاركوا في إطلاق القذائف المضيئة فوق المخيمين لتسهيل عمل فرق الموت التي كان يديرها إيلي حبيقة ويشرف عليها ضباط إسرائيليون كبار، وكانت مهمتها «تنظيف المخيم» وتفريغه من السكان كجزء من «رؤية» وزير الدفاع الإسرائيلي في حينه أرييل شارون. (رؤية طبقها شارون قبل مذبحة مخيمَي صبرا وشاتيلا في 1970 - 1972 في مخيمات غزة، وبعد صبرا وشاتيلا في مخيم جنين في 2002).
إن تلك المراوحة المتواصلة بين الكابوس والواقع استطاعت أن تمارس نوعاً من التطهير الذاتي للتراكمات النفسية المكبوتة التي يعانيها المخرج، باعتباره جزءاً من ذلك الحدث. وتصبح الحكاية، التي عرضت بتقنية رسوم متحركة مبهرة وعالية الأداء من الناحية الفنية، وسيلة للشفاء من الذكريات المدمرة (للجنود بالطبع وليس للضحايا!). فبعدما كان الأمر بالنسبة إليه ــ كسائر زملائه ــ كمن يذهب إلى نزهة، جاء قتال المقاومة الذي قصف عُمرَ بعض رفاقه ليعيد «للمعادلة بعض التوازن حيث يصطدم بواقع يحكم القبضة عليه ويغرقه في عبثية الحرب». بدون أدنى شك الفيلم معادٍ للحروب، وهو يتعامل مع الذاكرة كذاكرة يمكن قمعها حتى لا تطفو على سطح الوعي، أو كذاكرة يمكن التلاعب بها لتختلف عما حدث فعلاً. وهو هنا يتماهى وبذكاء ملحوظ مع الاتجاه المتصاعد في السنوات الأخيرة لدراسة العلاقة بين الذاكرة والتاريخ، والبناء الاجتماعي للذاكرة الجمعية.
يعلق المخرج على الفيلم بقوله: «إذا كان النسيان ضرورياً حتى تستمر الحياة بعد المجزرة، فالتذكر ضروري ولو بعد مضيّ 26 عاماً على المجزرة (...) صنعت هذا الفيلم لأولادي كي يحاولوا حين يكبرون عدم المشاركة في أي حرب». ويضيف «أعتقد أن آلاف الجنود الإسرائيليين خبأوا ذكرياتهم حول حرب لبنان في أعماقهم السحيقة. ولكن ذلك قد ينفجر في يوم ما، محدثاً أضراراً لا أعرف حجمها».
اختتم فولمان فيلمه بـ 50 ثانية من الصور الواقعية البشعة لضحايا مجزرة صبرا وشاتيلا، إذ صرّح للصحافيين «لم أكن أريدكم أن تخرجوا من العرض بعد مشاهدة الفيلم وأنتم تفكرون في أن هذا فيلم رسوم متحركة لطيف وظريف». وأضاف «هذه الأشياء حدثت، آلاف الناس قتلوا، ولكي يوضع الفيلم في نصابه، كانت هذه الثواني الخمسون ضرورية بالنسبة إليّ».
لكن في الختام، بدا لي أنّ العنوان المناسب للفيلم ليس «فالس مع بشير»، بل «كيف تريح ضمير الجلاد؟» إذ إنه لا يمكن إدراج المقاربة النفسية المفصولة عن جوهر العلاقة بين الضحية والجلاد، وهي علاقة في جوهرها ظلم واغتصاب المستعمر للمستعمر، لأرضه أو لروحه سيّان، إلا في إطار معادلة «أقتله ثم أذرف الدموع عليه» والتي تختصر في الثقافة الغربية الأنغلو ــ ساكسونية بـ«shoot and cry».
* مؤرخ وأستاذ العلوم السياسية في جامعة بيرزيت
رأي
العدد ١٨١٢ الاربعاء ١٩ أيلول ٢٠١٢
No comments:
Post a Comment