هل آن الأوان ؟
صباح علي الشاهر
من ذا الذي أصيب بالهلع ؟
ليس من السهولة الإجابة على مثل هذا السؤال، ولكن بالقليل من التمعن يمكن إمساك الخيوط التي توصلنا إلى الإجابة الشافية.
عشر سنوات من التخبط، والأخطاء، والنكبات، والأهم إنسداد الأفق، فلا أفق لما سمي بالعملية السياسية سوى المزيد من الدمار، والفرقة والإحتراب، وصولاً إلى النتيجة الحتمية إلا وهي التقسيم.
ما سُمي بـ( العملية السياسية) ليس نتاج السياسين العراقين، هي نتاج مُعد سلفاً، ومُصمصم خصيصاً للعراق. قد يُعمم أو لا يُعمم. يتوقف هذا على مجريات الأحداث في عالمنا العربي، والمنطقة .
أريد للفوضى أن تتأبد، وأريد أن لا ينعم العراق بإستقرار يؤدي قطعاً إلى تنمية، وما أريد أن يكون كان.
ليس من باب التشاؤم القول أن المحتل حقق ما أراده من إحتلاله للعراق، صحيح أنه لم يستطع إبقاء قطعاته العسكرية، لكن ما حاجته لمثل هكذا قطعات إن كان نفوذه باق، وهيمنته مستمرة على بلد فاشل، ضعيف، منقوص السيادة، ومعرض للتشرذم والتلاشي، وغير قادر على ردع من يسيء له، أو يترصد به، ولا متمكن بالمطلق من الدفاع عن نفسه.
ليست المضاهرات والإعتصامات، على أهميتها، هي من أدخل الذعر في نفوس فرسان العملية السياسية من كل الأثنيات والطوائف، وإنما شيء أخطر وأهم، وهو إحتمال ظهور إصطفافات جديدة، على أسس مختلفة عما هو حادث الآن، لكنها غير بعيدة عن الموروث النضالي والسياسي للشعب العراقي، الذي عرف الحياة السياسية والحزبية المبنية على البرامج الإجتماعية الوطنية في وقت مبكر، والتي لم تعرف الطائفية والأثنية إلا في وقت متأخر، وبفعل فاعل، لم يكن مخفياً، ولا هو حاول التخفي.
ظهور مثل هذه الإصطفافات سيكون المعول الأرأس في إنهيار العملية السياسية المُسلفنه، المقدمة لنا كعلاج شاف لعللنا وأمراضنا، في حين أنها ليست سوى سماً زعافاً ينخر في وطننا، وفيروساً يقضي على أية مناعة يمكن أن نكون قد توفرنا عليها بحكم تأريخنا المشترك ، وتضحياتنا المشتركة، ونضالنا جنباً إلى جنب عبر منعطفات التأريخ كلها.
ليس بمقدور أي من التحالفات الطائفية والأثنية الثلاث الإدعاء بأنها في أحسن حال، فالإنقسامات والتشرذم والصراعات هي السمة التي تميز جميع هذه التحالفات التي تحكمت بالوضع السياسي، وفرضت هيمنتها شبه المطلقة على من تدعي تمثيلهم..
أول هذه التحالفات تشرذماً هو تحالف العراقية الذي لم يعد بإمكان أي من المنسلخين، أو المتشرذمين، الإدعاء بإنه الآن يمثل ما كان يُسمى العراقية، بدءاً من زعيمها المركون جانباً، والذي خرج لوحده من بين كل قادة العراقية من المولد بلا حمص، والذي إكتفى بالتصريحات ، والوعود التي لم يستطع تنفيذ أي منها. تراجيديا علاوي التي قد تبدو غير مفهومه، إنه كان عرّا ب ما يُسمى بالعملية السياسية، واللاعب الأبرز، والأكثر تأثيراً، لكنه ( وهو ثاني إثنين) أصبح خارج اللعبة، لقد نُتف ريشه من قبل الحلفاء قبل الخصوم، يمكن القول أنه ثاني أفشل سياسي، بعد الجلبي، من بين كل سياسي المرحلة، الأمر هنا لا يتعلق بالذكاء أو الحصافة وإنما بموازيين القوى المتحكمة بالوضع العراقي، والتي لم يحسن علاوي قراءتها، خل عنك توظيفها، أو الإستفادة منها.
يُخطيء من يتصور أن تشرذم العراقية بسبب خروج نواب طائفة ما، وجدوا أن خروجهم على طائفتهم لم يكسبهم الطائفة الأخرى، ربما ينطبق هذا على الإنسلاخ الأول، لكنه لا ينطبق بالمطلق على الإنسلاخات التالية، التي تنوعت مذهبياً، والتي عد إنسلاخها تمرداً على القائمة التي وجدت أساساً كي تكون قائمة عابرة للمذهبية، لكنها كرست نفسها فيما بعد كقائمة تمثل مذهبية معينة بمواجهة قائمة أخرى تمثل مذهبية أخرى، وبذا يكون مشروع العراقية الأساسي قد تهشم، مما دفع البعض بعد يأسه من الترميم، إلى محاولة إنقاذ الفكرة الأساسية للقائمة.
لقد أسقط خروج أكثرية النواب الشيعة من القائمة العراقية مبرر وجودها، لكن الأمر لم يتوقف عند هذا الحد، حيث بدأ إختلاف القيادات التي هي من مذهبية واحدة، العيساوي والنجيفي من جهة، والمطلق وعرب كركوك، والمناطق المتنازع عليها من جهة أخرى، وإذا كان البعض يحسب الإختلاف بين القيادات الثلاث إختلاف مصالح أكثر منه إختلاف رؤى، فإنه من المؤكد أن إختلاف عرب كركوك، وما يُسمى بالمناطق المتنازع عليها إختلاف جوهري ، يتعلق بمصير الأرض والناس في هذه المناطق، وهم عابوا على العراقية في البدء مهادنتها للكرد، ثم جاهروا بإختلافهم معها حيث عدوا بعض قيادييها متواطئين مع الأحزاب الكردية على حساب مصالحهم، وعند هؤلاء تحديداً بدأت تتبلور الدعوة إلى وحدة عرب العراق، سنة وشيعة، مسلمين ومسيحين، وتركمان، مع التأكيد القطعي على وحدة العراق.
ويمكن ملاحظة إختلاف آخر، يرتدي أهمية فائقة بحكم الأوضاع الحالية في المنطقة، ألا وهو إختلاف جميع فرقاء العراقية، وإن كان بنسب متفاوتة، مع الحزب الإسلامي المعتمد على نفوذ التنظيم العالمي للإخوان المسلمين، بدءاً من القرضاوي وإخوان مصر، إلى جبهة النصرة في سوريا، والجيش الحر، مروراً بتركيا، والحركات الجهادية الإسلامية .
يتصور الحزب الإسلامي في العراق إن الزمن اليوم زمنه، فإخوانه يحكمون تركيا، وتونس، ومصر، وليبيا إلى حد ما، وسيحكمون سوريا لاحقاً، إذن من حقه أن يحكم العراق، وبغض النظر عن كون هذا التصور واقعي أم غير واقعي، ممكن أم مستحيل، إلا أنه يترجم من قبل الإسلاميين العراقيين إلى رغبة بالسيطرة على الأوضاع إنطلاقاً من المنطقة الغربية، وهذا المنحى أجج ويؤجج الخلاف بين الحزب من جهة والقيادات الأخرى، التي لم يعد إنتقادها للحزب الإسلامي همساً، بل أصبح جهراً وبصوت عال.
وكان دخول شيوخ العشائر على الخط الملمح البارز الآخر، والذي لا يقل أهمية عما سبق، فهؤلاء الشيوخ يعتقدون أنهم الأقوى والأقدر على تمثيل المواطنين من أولئك السياسين الذين خانوا من إنتخبهم، وإهتموا بمصالحهم، واختلفوا وتصارعوا بناءاً على هذه المصالح الذاتية والفئوية، ولهذا فليس من المستغرب أن نلاحظ أن السياسين، وإلى حد ما ممثلي الحزب الإسلامي، يطردون من ساحات الإعتصام التي إحتكر قيادتها شيوخ دين، وشيوخ عشائر.
هل يفلح الحراك الشعبي في بلورة قيادات جديدة، قيادات تستمد شرعيتها وقوتها من الناس الذين ستنبثق من وسطهم؟
قيادات لا يعنيها الخارج، وإنما تحركها متطلبات الناس. قيادات تتصف بصفة أساسية، ألا وهي عدائها للإحتلال ولمن جاء معه، قيادات مختلفة عن تلك التي جاءت مع الإحتلال، أو التي تعاملت معه.
الدلائل تشير إلى إمكانية تبلور مثل هكذا قيادة، حيث ستتبلور في مجرى الأحداث، وتبعاً لتطور ساحات الإعتصامات، وتجذر مطاليبها التي ينبغي أن تخرج كلياً عن أي منحى طائفي، أو أي دعوة لتقسيم العراق، وتحت أي حجة، والوقائع تشير إلى تبلور مثل هذا الإتجاه الإيجابي الذي يسير بخطوات حثيثة، والذي برزت ملامحه في مواقف عديده منها حصر المندسين، ورصدهم، وطردهم من ساحات الإعتصامات، والتأكيد بشكل قاطع على نبذ أي شعار لا ينطلق من العراق الواحد الموحد.
بمثل هكذا توجه سيفقد السياسيون الفاشلون الذين حاولوا ركوب الموجة حظوظهم شيئاً فشيئاً، وتبور بضاعتهم الطائفية، ولن يستغرب أحد إنتقالهم بقضهم وقضيضهم إلى دول الجوار، فالعراق لن يكون بعد اليوم للوصوليين والإنتهازيين، وإنما لأبنائه الذين يدافعون عن كرامته ووحدته .
No comments:
Post a Comment