Saturday, 20 April 2013

{الفكر القومي العربي} أعمدة الفتنة في الوطن العربي

أعمدة الفتنة في الوطن العربي

نشر على الجزيرة نت

عبد الستار قاسم

17/نيسان/2013

 

انحدر الوضع العربي من ذلك الحماس العارم نحو الوحدة العربية، إلى الرجاء بتوحيد الحارتين الشرقية والغربية في القرية العربية. كان ذلك الزمان الذي كانت تهتف فيه الجماهير العربية بالوحدة العربية والحلم العربي في أن يصبح العرب أمة واحدة رائدة لها وزنها في الساحة الدولية وذات مساهمات كبيرة في الحضارة الإنسانية، وحل مكانه الآن زمان تتكاثر فيه الانقسامات والحزبيات التعصبية والانشقاقات ومفرخات الجماعات من كل طيف وصوب والتي تتغذى على النسيجين الاجتماعي والأخلاقي العربي، وتؤذن بمزيد من الأحزان والآلام التي قد تقهر المواطن العربي.

 

هناك من يحمل القوى الاستعمارية العالمية مسؤولية تمزيق العرب وتفتيت الوطن العربي، لكننا لا نستطيع حقيقة أن نهرب من مسؤولياتنا بهذا الصدد. القوى الاستعمارية تتدخل، ومعنية دائما بإضعاف العرب وتطويعهم والسيطرة على حكامهم ومقدراتهم وسَوْقهم بالطريقة التي تشتهي، لكن الاستعمار ما كان ليتمكن منا لولا الثغرات الكبيرة الموجودة أصلا في نسيجينا الاجتماعي والأخلاقي، وأهم هذه الثغرات تتمثل في اعمدة الفتنة في الوطن العربي والذين يسهرون ويصرون على تمزيق الأمة وإبقائها متخلفة ضعيفة مطواعة خدمة لمصالحهم ومصالح الأجنبي الذي يوفر لهم الأمن ويمدهم بالقوة الكافية للاستمرار في سياساتهم. ومن الممكن اختصار هؤلاء الأعمدة بالتالي:

 

أولا: الحكام

الحكام هم الذين يملكون السلطة وأسباب القوة والإمكانات المالية والمؤسسات والعسكر وقوى الأمن. لقد أفسد هؤلاء الحكام بسياساتهم القائمة على التمييز بين أبناء الوطن الواحد أو الدولة الواحدة، وتصنيفهم إلى موالي وغير موالي، وإغداق الوظائف والعطايا على الموالين وحرمان غير الموالين. وتمزيقهم إلى قبائل متنافسة ومتصارعة أحيانا، وإلى عربي وغير عربي، ومسلم ومسيحي، وشيعي وسني، وكاثوليكي ورومي من أجل أن تبقى الصراعات مستمرة وتطمئن الحاكم أن عرشه بعيد عن الاستهداف.

 

استعان هؤلاء الحكام بالمنافقين والمخادعين والكاذبين، ولم يبخلوا عليهم بمال أو هبات، وكان همهم دائما الاستمرار في الحكم ولو بتخريب البلاد والعباد، فضربوا النسيج الأخلاقي للأمة وأذلوا الناس وحولوهم إلى مطايا لأجهزة المخابرات، وهدموا النسيج الاجتماعي ليتحول الناس إلى فئات اجتماعية ضيقة تكرس جهودها لحماية نفسها من أطماع أبناء الوطن واعتداءاتهم. والمحصلة كما نراها الآن هي تخلف الأمة عن باقي الأمم، وهزيمتها في مختلف المجالات العسكرية والأمنية والاقتصادية والثقافية والفكرية، الخ. لقد ظلم هؤلاء الحكام واستبدوا ونهبوا الأموال وبذّروها، وسلطوا الجاهل على العالم، والمنافق على المؤمن، والكاذب على الصادق، والأزعر (البلطجي) على المحترم، والظالم على العادل، والخائن على الأمين، والجبان على الشجاع، والبخيل على الكريم، والمتسيب على المنضبط، والنذل على الأبي، والفهلوي على المفكر، والدّعي على الحكيم، والمستهتر على الحريص، والغبي على الفطن، والأرعن على الرزين، والفاشل على المبدع، والكسول على المجتهد، والأحمق على الذكي، والمتهور على المتزن، والجاسوس على الوطني، والمخابرات على الناس. لقد عاثوا في الأرض فسادا وإفسادا.

 

ثانيا: العديد من رجال الدين

 لا يوجد رجال دين في الإسلام، لكنهم فئة تطورت مع الزمن لأسباب متنوعة، وهي موجودة الآن بألوان مختلفة. وللحق، لا بد من القول إن من رجال الدين من يعرفون الله ويتقونه، ويحاولون إيصال الدعوة بالكلمة الطيبة وهدوء واحترام وحسنى، ويحرصون على التعامل الجيد مع الناس، ويستعملون أساليب محببة وغير منفرة في علاقاتهم العامة. هؤلاء يعطون صورة طيبة عن الإسلام والمسلمين، لكن الساحة الإسلامية تنطبع بسلوك الآخرين الذين يمكن نصنيفهم وفق الأمور التالية:

 

أ‌-       رجال دين السلطة الذين لديهم الاستعداد لبيع آخرتهم بدنياهم، وإصدار الفتاوى التي تبرر للحاكم سوء صنيعه. إنهم شركاء الحاكم في فتنة الناس وإغوائهم وتضليلهم. هؤلاء هم الذين يفتون بحرمة الخروج على الحاكم الظالم لأن، حسب قولهم، الفتنة أشد من القتل، وهم لا يعلمون أن الظلم فتنة تؤدي إلى التفسخ والضعف والتدهور الأخلاقي، وتنتهي بافتتال بين الناس. إسلاميا، من المفروض التخلص من الحاكم الظالم قبل استفحال خطره ونشوب اقتتال بين المسلمين.

 

ب‌-   من الملاحظ أن رجل الدين بصورة عامة وليس مطلقة قد فرض حول نفسه غالبا هالة أو جوا معينا جعلته يتميز بحيث يُقبل عليه بعض الناس ويتجنبه آخرون. هناك من يقبلون عليه قناعة منهم أو ظنا أنه يهدي إلى سواء السبيل، وهناك من ينفرون منه بسبب ما اعتاد عليه من إصدار أحكام مطلقة وغلظة في الحديث وتعصب.

 

ت‌-  العديد من رجال الدين يحملون مفاتيح الجنة والنار بأيديهم أو جيوب ملابسهم، ولديهم الاستعداد لتصنيف الناس حسب مكانتهم يوم القيامة. العديد منهم يتدخلون في الإرادة الإلهية ويصدرون قرارات حول مصير الشخص يوم القيامة، أو يصدرون أحكاما حول الحسنات التي يمكن أن يجنيها المرء لقاء أعمال معينة، والسيئات التي يمكن أن تلحق به نتيجة أعمال أخرى. وقد صنع هؤلاء لأنفسهم ما يشبه التفويض الإلهي الذي ساد في القرون الوسطى الأوروبية. إنهم يتطاولون على الذات الإلهية.

 

ث‌-  احتكار الجنة الذي يعني أن الآخرين الذين لا يتبعون ذات الدين أو المذهب كافرون لا يملكون الحقيقة ويجب أن يتم التعامل معهم وفق أحكام شرعية قاسية ترفض الآخر جملة وتفصيلا. أهل الجنة هم وحدهم الذين يملكون الحقيقة التي لا حقيقة بعدها، وضل غيرهم وسقطوا في الهاوية. ولهذا مزقوا الناس وفق سلوكهم الديني في الدنيا، وتبعا لمكانتهم المحددة سلفا في الآخرة، وزرعوا بذور الفتنة والفساد والاقتتال. تحولت الأخلاق الدينية إلى انغلاق وتعصب وسوداوية، وانقلب المجتمع إلى متدينين من مذهب أو دين معين، مقابل فاسقين وملحدين وكافرين، وبدل أن يكون الدين سمحا ولطيفا ورحيما أخذ يتحول بالنسبة لعدد كبير من الناس إلى كابوس يصعب التعايش معه.

 

ج‌-    التضييق الديني من خلال اتساع رقعة الحرام وتعقيد الدين الإسلامي. أصحاب هذا التوجه يسهبون في الأمور الفقهية والتي قد لا تستند إلى مبرر إسلامي، ويعزفون عن الفكر الإسلامي. دفع هؤلاء الناس إلى زاوية الكهنوت المثقل بالطقوس بدل النهوض بهم نحو العلم والتفكير العلمي والنقدي. ومن شأن هذا في النهاية أن يضعف القدرات الفكرية اللازمة لبناء أمة إسلامية متماسكة.

 

ثالثا: قادة القبائل

عمل قادة القبائل تاريخيا على تمزيق المجتمع العربي والوطن العربي لأن السلطة بالنسبة لهم أهم بكثير من المجتمع الأوسع ومن وحدة الوطن. وحدة الوطن والشعب تؤثر سلبا على سلطانهم وجاههم وقدراتهم على نهب أموال القبيلة والناس، والتقدم والنهوض يزحف تدريجيا على العقلية القبلية التعصبية اللازمة لتغييب الوعي واستمرار الخنوع للتقاليد البالية، ومن المناسب أن يبقى المجتمع متخلفا حتى يبقى المتخلفون في القيادة.

 

خلق الله الناس شعوبا وقبائل ليتعارفوا، أي ليتعاونوا ويتضامنوا، لكن قادة القبائل العرب أصروا في أغلب مراحل التاريخ على الإنغلاق، وتمسكوا بقيم لا تخدم الوحدة والتقدم على مستوى الأمة مثل المفاخرة والاعتزاز المفرط بالذات، وحب الجاه والسلطان والعلو على الآخرين. على الرغم من أن دور قادة القبائل قد تعرض لهزات بين الحين والآخر، لكن نفوذهم ما زال قائما، ومنهم الحكام الذين يهيمنون على مقدرات مناطق عربية واسعة. وبسبب الثقافة القبلية التعصبية وما تحمله من قيم يفضل الاستعمار الغربي، كما فضل عبر عقود من الزمن، التعامل مع رجال القبائل والوجهاء أكثر من آخرين. وقد راينا في تاريخنا المعاصر كيف يطوع القبلي إرادة الناس للاستعمار أو لإسرائيل مقابل البقاء في الحكم.

 

رابعا: أغلب قادة الأحزاب

لا يختلف أغلب قادة الأحزاب العربية عن قادة القبائل العربية لأن سلوكهم يتشابه إلى حد بعيد مع السلوك الوجهي القبلي التقليدي. من الملاحظ أن أغلب قادة الأحزاب العرب يستمرون على رأس الحزب مدى الحياة كما الحاكم العربي والشيخ القبلي، ويركزون على نشاطات إعلامية دون تلك النشاطات التي تدفع نحو التغيير. وفي كثير من الأحيان يحتفظ قائد الحزب بعلاقات وثيقة مع السلطة الحاكمة التي يمكن أن ينتقدها في وسائل الإعلام مثل الفصائل الفلسطينية التي ترفض اتفاق أوسلو وتغازل السلطة الفلسطينية باستمرار وتحصل منها على أموال.

 

وقد لاحظنا أن الثورات العربية قد قادها الناس، ولحقت بها بعد ذلك الأحزاب. من المفروض أن تقدم الأحزاب التضحيات من أجل التغيير نحو الأفضل، لكن قادة الأحزاب في الدول التي حصلت فيها ثورات لم يتحركوا إلا بعدما اطمأنوا إلى أن اللحاق بالجماهير لن يكلفهم ثمنا مثل الاعتقال أو الطرد من الوظيفة. وبسبب حرص هؤلاء على الوجاهة والمناصب ظهرت في البلدان العربية أحزاب كثيرة، على الرغم من أن أغلبها لا يملك برامج مميزة وطروحا فكرية جديدة لإقناع الناس بها.

 

خامسا: مثقفون وأكاديميون

عدد لا باس به من المثقفين والأكاديميين العرب يخدمون الفتنة بخاصة أولئك الذين يخدمون الأغراض الغربية والإسرائيلية من خلال مؤسساتهم غير الحكومية. انسلخ أغلب هؤلاء عن الرؤية العربية، والتي هي ضبابية بانتظار جهود الأكاديميين والمثقفين لتوضيحها، وفضلوا الانخراط في الرؤية الغربية لترتيب العالم اقتصاديا وسياسيا وثقافيا وفكريا. العديد من هؤلاء سماسرة معرفة يقدمونها للغرب لقاء بعض المال، والتي تمكن أهل الغرب وإسرائيل من اتخاذ السياسات المناسبة لاستمرار الهيمنة على العرب واحتلال الأرض العربية.

 

طبعا هناك مثقفون عرب وأكاديميون مخلصون وغيارى على مصلحة الأمة، لكن هؤلاء مهمشون من قبل الحكام ورجال الدين غير المؤمنين والقوى الخارجية التي تعمل دائما على استمرار هيمنتها على العرب، وعدد منهم ملاحقون من قبل أجهزة الأمن العربية. الغلبة الآن في الساحة الثقافية والفكرية ليست للملتزمين بمصالح الأمة، وإنما للذين أبهرهم المال والجاه والسلطان، والذين يرتبطون في ذات الوقت مع دوائر الحكام العرب.

 

سادسا: كبار الرأسماليين

يرتبط كبار الراسماليين العرب بالنظامين الاقتصادي والمالي العالميين واللذين يسيطر عليهما أهل الغرب، ومن شاء أن يبقى ضمن النظام عليه أن يلتزم بقواعد النظام. من المتوقع من كبار الرأسماليين أن ينخرطوا بالحركة الماسونية العالمية، أو ألا يقفوا ضدها، وألا يقبلوا مبدأ المقاطعة الاقتصادية مع إسرائيل، وأن يقاطعوا الدول الواقعة تحت العقوبات الاقتصادية، الخ. أي عليهم أن يضعوا أسس البناء الرأسمالي فوق الاعتبارات الوطنية والقومية والإسلامية إذا أرادوا الاستمرار في مجتمع الثراء الفاحش.

 

ملة الفتنة ملة واحدة

ليس من الصعب أن نرى التحالف بين الحكام الذين هم رأس الفتنة، والعديد من رجال الدين وقادة القبائل وقادة أغلب الأحزاب العربية وأكاديميين ومثقفين عرب ورأسماليين. هؤلاء جميعا أصحاب مصالح شخصية أو قبلية طاغية، وهم لا مفر متحالفون بعضهم مع بعض، وعلى الأمة أن تتكيف مع مصالحهم.

 

فئات إسلامية منفرة لا تدخل ضمن هذا التحالف، لكنها تعطيه زخما وقوة من خلال عدم تقيدها بالأخلاق الإسلامية، واتباعها سياسات غبية ومفرطة تسيء للفكرة الإسلامية ولتوجه الوحدة العربية.

 

وعلى الرغم من هذه القوى الفتنوية، الأمة العربية غنية بقوى الوحدة والإصرار على النهوض والتقدم، والشعوب ستقلب موازين القوى الداخلية، وإرادة الخير والعطاء ستتغلب في النهاية على قوى الفتنة والتبعية والهزيمة والاستهتار.

 

No comments:

Post a Comment