مقاربة لجغراسياسية مكان: ( من الأمل إلى العمل)
صباح علي الشاهر
أثار موضوعنا الأخير الكثير من الملاحظات، بعض هذه الملاحظات تشكل إضافة وإغناء لما طرح، وبعضها ذهب إلى ما رغبنا بالإبتعاد عنه، ألا وهو المسلمات التي خلقناها نحن، وأصبحنا أسراها، ندور في فلكها، لا نملك إمكانية الفكاك منها.
بعضهم قال وهو مُحق إلى حد بعيد أن العرق ثابت، والقومية مُتغيّرة، ولكن بأي معنى ؟
مؤكد بمعنى الثبات النسبي، والتغير النسبي، وإلا فإن أي عرق، مهما كانت صفاته الوراثية ثابتة غير مُتنحيّة، فإنه بتكرار التزاوج، وعلى مدى مُمتد، يصبح هجيناً، والهجنة سمة من سمات التحوّل والتغيير، إذ لم تعد صفات العرق في هذه الحالة الهجينة ثابتة، لقد أنتج الزواج المُتكرر ( المُخلّط)، مُتجاوزاً بذلك الثابت إلى المتحوّل، ومن دون إعتبار الطفرة الوراثية، التي تغيّر العرق تغييراً نوعياً، والطفرة ممكنة علمياً، وغير مُستبعدة.
إذن حتى العرق يملك ثباتا نسبيّاً، وليس مُطلقاً، فكيف الأمر بالنسبة للقومية (الأمة)، والكل يعرف أن أصل العرب ( عرب عاربة ) و( عرب مُستعربة)، هكذا كانوا منذ البدء وإلى اليوم، وإنه على مدى قرون مُتتالية إستعربت كثير من الأقوام، ودخلت في قوام هذه الأمة التي نعرفها الآن، وليس هذا بالشيء الخاص بالعرب، وإنما شمل أمم الأرض، وثمة عرب تكردوا، وتتركوا، وتفرسوا، وتهندوا، وهكذا دواليك، ولا نعني بهذا النمط من العرب، عرب أمريكا، أو بريطانيا، أو ألمانيا، أو فرنسا، حالياً، فهؤلاء عرب، ولكن بجنسيات أوربية، أو أمريكيّة، أما أولئك الذين تكردوا، أو تتركوا، أو تفرسوا، أو تهندوا، أو غير ذلك، فهم قوم تحولوا، وأصبحوا كُرداً، أو تُركاً، أو فُرساً، أو هنوداً، مثلما أصبح أشباههم عرباً بعد أن كانوا كرداً، أو تركاً، أو فرساً، أو هنوداً..
البشر ليسوا أجناساً، بل جنساً واحداً هو (جنس الإنسان)، فالإنسان أي كان شكله ولونه، طوله وقصره، وباقي صفاته، فإنه يتزاوج، ويتناسل، ويتكاثر فيما بينه، بعضه مع بعض، ذكره مع أنثاه، فإذا أدخلنا حقب التأريخ بما فيها من حروب، وإختلاط، وتجارة، بالأخص فيما يُعرف بالعالم القديم، الذي هو عالم الحضارة الفعلي، تبين لنا سخف المفهوم العرقي للأمة، أية أمة. "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم"، والتعارف يشمل الإختلاط بإنواعه، ولا يقتصر على التجارة والتثاقف، وتبادل المنافع، بل يشمل التزاوج والتداخل، خصوصاً إذا كانت الأمة أمة وسطاً كالأمة العربية .
يمكن القول بكثير من الثقة: أن العروبة ترفض من حيث النشأة وواقع الحال ما يُسمى بـ (صفاء العراق)،
علما بأن تقسيم البشر إلى أعراق وهميّة، كالقول بالعرق الآري، والسامي، والحامي، تقسيم لا تربطه بالعلم أية رابطة، وهو محض خرافة، وربما بعض فبركات الإسرائيليات، ينطلق من وهم ليؤدي إلى كوارث، ألا يبدو التباهي بالعرق الآري مُقرفاً، وشعار مُعادة السامية مُضحكاً؟!
يمكن لأسباب دراسيّة تقسيم البشر إلى أعراق معينة قصد تحديد السمات العامة، البدنية والسايكولوجية، من دونما مفاضلة، كالعرق الأسود، والأبيض، والأصفر، والأسمر، والخلاسي، والعرب ( وهذا ما ينبغي الإلتفات إليه، والتأكيد عليه) ليسوا عرقاً، ولا ينحدرون من عرق، لا آري، ولا سامي، ولا حامي، ولا أسمر أو أبيض، أو اسود، أنهم أمة وسطاً بين الأعراق كلها، وفيهم ( العرب) سمات وصفات كل الأعراق بنسب مُتفاوتة .
العرب ليسوا عرقاً، بل هم أقوام إختارت العروبة هوية لها. ولأن العروبة ليست عرقاً، فإنه لا يمكن الزعم بأن لهم صفات وراثية مُحددة، ولكن يمكن القول بمزيد من الثقة أن لهم شعور مشترك بكونهم أمة تعيش في جغرافية مُحددة، وتملك إرثاً حضارياً وثقافياً مُشتركاً، وتأريخاً مُشتركاً، ولغة تخاطب وتفاهم واحدة، ومصير واحد.
لا ضير في أن يكون بعض العرب مُنحدرين من أصول بربرية، أو كنعانية، أو فينيقية، أو فرعونية، أو سومرية، أو آشورية، أو آرامية، أو تركيّة، أو أفريقية، أو هندية أو فارسية، أو من أقوام ما وراء القوقاز، أو ماوراء النهرين، وهم كعرب الآن لا يختلفون عمن ينحدر من العرب العاربة ( من عاد، أو ثمود،أو عمليق، أو طسم، أو جديس، وغيرهم) أو المستعربة ( من قحطان أو عدنان) .
القوماني، ذو النزعة القومية المُتشددة، ليس هو الممثل الحقيقي للعروبة بإطارها الحضاري الإنساني، الذي عكسه التأريخ الحضاري لهذه الأمة، والشوفينيّة التي تحتقر الشعوب الأخرى هي الأخرى ليست من صفات العروبة، لقد عايشت العروبة جميع الأمم والأقوام، وتفاعلت معها، وتلاحمت حضارياً، وأنتجت ما عُرف بالثقافة العربية الإسلامية، التي مثلما هي ملك للعرب، فإنها ملك أيضاً لتلك الشعوب والأمم الإسلامية التي اسهمت فيها، من هنا يمكن الإنطلاق للإنفتاح على الفضاء البالغ الغنى والإتساع، المحيط بإمتنا، وإعادة تشكيله مُجدداً كفضاء حضاري مُعاصر، لا تتفارق قيمه مع قيم الحداثة والعصرنة، ولا يفرط بالهوية الموّحدة له كفضاء.
الفلاسفة يُفسرون العالم، أما الثوريون فيغيرونه، لا وفق إرادات ذاتوية محضة، وإنما إستجابة للضرورات الموضوعية .
نحن اليوم بحاجة ماسة لفلاسفة وباحثين، لعلماء لا خطباء، يُفسرون واقعنا بموضوعية وحيادية، ومن دونما تهويل، وتهويمات بلاغية، وصخب لفظي لا طائل وراءه، منطلقين من كوننا حالياً أمة مريضة، تحتاج للكشف بالسونار قبل مُبضع الجراح، أكثر من حاجتها لحماسات فارغة، لا تعالج مرضاً ولا تداوي عليلاً، بل تزيد الطين بلة.
لسنا أمة فوق الأمم الأخرى، ولسنا أمة دون الأمم، لكننا أمة تستحق أن يكون لها دورها الفاعل في عالم اليوم والغد، وكي يكون هذا مُتاحاً لنا، ينبغي أن لاتكون جهود فلاسفتنا وعلمائنا وباحثينا حبيسة رفوف كتب، أو مراكز أبحاث، وإنما ينبغي أن تتحوّل إلى فعل، إلى عملية تغيير متواصلة، وتحقيق هذا موكول للثوريين الحقيقين، القادرين على النهوض بالأمة، لا ثوريو الصالونات والمحافل الخطابية، وإنما ثوريو إجتراح المآثر، ومن دون أن نربط هذا بذاك، من دون تحويل الوعي إلى تطبيق، إلى فعل منظّم، مُبرمج، وخلاق، فلا أمل لنا بمغادرة واقع الضعف والتشتت والهوان.
لا خيار لنا إلا الإنتقال من الأمل إلى العمل.
-يتبع-
No comments:
Post a Comment