Saturday 10 May 2014

{الفكر القومي العربي} يحيى حسين: فزاعة التحكيم الدولى فى قضايا الخصخصة

 
 فزّاعة التحكيم الدولى فى قضايا الخصخصة
بقلم المهندس/ يحيى حسين عبد الهادى
(الأهرام 10/5/2014)
 
إن الكذبة تظل كذبةً مهما تكرر ترديدها .. المصيبة أن مثل هذه الأكاذيب فى مصر صارت تُستخدم كفزاعاتٍ ينخدع بها مسئولون محترمون وتُبنى عليها قراراتٌ مصيرية.. ولعل آخر تطبيقٍ عملىٍ لما أقول هو الفزاعة الكبرى والكذبة الفاجرة الخاصة بالخطر الداهم لتعويضات التحكيم الدولى، التى استُخدمت فى حملة الترويع الممنهجة قبل إصدار قانون تقييد حق الطعن على عقود الدولة، ثم استُخدمت لتبريره بعد صدوره. فصرنا وكأننا فى مزادٍ يتسابق فيه كل من هب ودب فى تقدير قيمة دعاوى التحكيم الدولى المرفوعة على الدولة المصرية بسبب أحكام بطلان عقود الخصخصة،  لدرجة أن أحد الوزراء قدّرها فى برنامج تليفزيونى بمئات البلايين من الدولارات، فتشككت المذيعة وصوّبت الرقم قائلةً (تقصد مئات الملايين وليس البلايين)، فقال لها بثقةٍ شديدةٍ (بل أعنى ما أقول .. مئات البلايين أى مئات المليارات من الدولارات!).
وقد لاحظتُ أنه دائماً ما تُستخدم قضية سياج كنوعٍ من التوابل المصاحبة للفزاعة كدليلٍ على صحة ما يقولون، وقد سألتُ أحدهم طالما المسألة بهذه الخطورة وتُشكّل ظاهرةً كونيةً، أليس عندكم أمثلةً أخرى غير حكم سياج الذى مضى عليه حوالى عشر سنوات؟ وهى قضيةٌ ذات طبيعةٍ خاصةٍ وبُنيت أساساً على عدم تنفيذ الحكومة المصرية لحكم القضاء المصرى بتعويض المدّعى .. ولا علاقة للموضوع من قريبٍ أو بعيد بأحكام بطلان عقود الخصخصة ولا الطرف الثالث الذى يرفع الدعاوى من أجل الشهرة كما تقولون .. فلم يُجبنى أحد، إلا أن أحدهم استرجع قضية هضبة الأهرام من حوالى أربعين سنة فى سبعينيات القرن الماضى والتى ألغى الرئيس السادات عقدها الفضائحى بعد حملةٍ شعبيةٍ قادتها الدكتورة نعمات أحمد فؤاد، فطلبت الشركة تعويضاً 36 مليون دولار ولم يحكم مركز التحكيم لها إلا بمبلغ 19 مليون جنيه .. لا يذكرون إلا هذين المثالين بالإضافة لقضية شركة غاز شرق المتوسط الإسرائيلية.
ويلاحظ أن العامل المشترك فى هذه الأمثلة أن الحكومة المصرية هى التى نزعت الأرض أو ألغت التعاقد لاعتبارات الأمن القومى والكرامة المصرية، أما فى حالة شركات الخصخصة فالحكومة ليست طرفاً فى الموضوع، فلا الحكومة هى التى ألغت التعاقد ولا حتى طعنت عليه (بل على العكس كانت هى التى طعنت على أحكام الاسترداد) وإنما الذى أبطل التعاقد هو القضاء وأحكامه واجبة التنفيذ وهو سلطةٌ كاملة الاستقلال عن السلطة التنفيذية ومن ثم فلا مجال أصلاً لمقاضاة الحكومة المصرية.
كما أن الفزاعة تشتمل على خلطٍ متعمدٍ بين الإنذار باللجوء للتحكيم الدولى وقبول دعوى التحكيم والتحكيم نفسه. فالإنذار هو أن يُرسل أحدهم ورقةً إلى الشركة القابضة مهدداً إياها بأنها إذا نفذّت حكم القضاء باسترداد الشركة سيقوم سيادته باللجوء للتحكيم الدولى طالباً تعويضاً بأى رقم يحلو له ولو كان مائة ضعف الرقم الحقيقى للصفقة محل النزاع، فلا يجوز هنا أن نضيف نحن هذا الرقم للفزاعة مفترضين أنه سيرفع الدعوى (بينما معظم العقود والحمد لله لا تنص على اللجوء للتحكيم الدولى أصلاً) ومفترضين أن مركز التحكيم سيقبل نظرها (غالباً ما يرفض نظرها من حيث المبدأ) ومفترضين أنه إذا نظرها سيُدين الحكومة المصرية (بينما وفقاً لتصريح هيئة قضايا الدولة فإن الحكومة المصرية لم تخسر تحكيماً واحداً فى السنوات الأخيرة) ومفترضين أن مركز التحكيم إذا أداننا سيحكم بالمبلغ الخيالى الذى طلبه الخصم دون تخفيض، ثم نُراكم كل هذه الافتراضات لتضخيم الفزاعة.
أما ما قيل من أن مصر خسرت 76 قضية من إجمالى 78 فهو الحق الذى يُراد باطل إذ أن هذه القضايا لم تكن مرفوعة على مصر بسبب الخصخصة وإنما رفعتها وخسرتها شركاتٌ عقاريةٌ مصرية ضد جهاتٍ أجنبية لإخلالها بعقود إنشاءاتٍ خارجية.
وفى مصر لا توجد إلا جهةٌ رسميةٌ واحدةٌ من المفترض أن لديها الأرقام الحقيقية المتعلقة بموضوع التحكيم الدولى وهى هيئة قضايا الدولة باعتبارها محامى الحكومة المسئول عن الدفاع عنها فى مثل هذه القضايا وغيرها محلياً ودولياً .. وقد تابعتُ ما صدر عن الهيئة من تصريحات أو بيانات فى الفترة الأخيرة بهذا الشأن ووجدتها تنحصر فى ثلاثة تصريحات:
أولاً: تصريحٌ صادرٌ عن المتحدث الإعلامى لهيئة قضايا الدولة بأن الهيئة قد ترافعت فى 8 قضايا تحكيم فى السنوات الأربع الأخيرة كان مجموع مطالباتها 10 مليارات جنيه، وقد كسبتها جميعاً بما وفّر على الخزانة العامة هذا المبلغ. ولى هنا ملاحظتان:
1 – إن الهيئة تكسب القضايا والحمد لله (وهذا دورها) فلماذا الإيحاء بأن أى أفّاقٍ أو فاسدٍ سيطلب أى تعويضٍ من الحكومة المصرية سيُحكم له وسنخسر القضية؟
2 – بالنظر إلى تفاصيل هذه التحكيمات الثمانية لم أجد فيها أى قضيةٍ تتعلق بأحكام بطلان صفقات الخصخصة، ولم يقم برفعها طرفٌ ثالثٌ كما برروا لإصدار هذا القانون وإنما هى نزاعاتٌ بين طرفين (أحياناً يكون الطرفان مصريين).
ثانياً: أما التصريح الثانى فصدر عن السيد المستشار رئيس الهيئة الذى قال (إن عدد الدعاوى التحكيمية والاستثمارية المرفوعة ضد الحكومة المصرية وصلت إلى 25 قضية و 12 إنذاراً من مستثمرين يعتزمون رفع قضايا ضد الدولة مطالبين بجملة تعويضات بلغت 100 مليار جنيه) .. ويلاحظ أن الرقم قبل الدخول فى تفاصيله أقل كثيراً من أرقام مزاد الترويع المفتوح للفزاعة.
ولإعمال قواعد الشفافية، أطلب من هيئة قضايا الدولة بياناً تفصيلياً يوضح ما يلى:
نسبة ما يخص أحكام بطلان عقود خصخصة شركات قطاع الأعمال من هذا الرقم فهى ستة أحكام فقط (يقال إنها لا تتجاوز 300 مليون جنيه)، مع توضيح معنى الرقم المذكور فى كل حالة: هل هو مجرد إنذارٍ باللجوء للتحكيم أم أن الدعوى قد رُفعت فعلاً؟ وفى هذه الحالة هل تم البت بقبول الدعوى شكلاً وتحديد موعدٍ لنظرها أم لا (لأن هناك دعاوى يتم رفضها من البداية) وما هى القيمة الحقيقية المتنازع عليها؟.
ثالثاً: أما ماقاله السيد المستشار المتحدث باسم الهيئة خلال مداخلةٍ تليفزيونيةٍ انحاز فيها إلى المذيعة (المنحازة أصلاً) عندما أجابت فى صورة سؤال (أليس من المؤكد أن عودة هذه الشركات قد كلفتّنا تعويضاتٍ كثيرة؟) فقال سيادته (نعم ترتب على أحكام عودة الشركات دفعُ ملايين الجنيهات كتعويضات). فإننى لن أعتبر هذا القول تصريحاً وإنما زلة لسان غير مقصودة يمكن أن يتعرض لها أى إنسان على الهواء .. إلا إذا تفضّل سيادته بتفصيل هذه التعويضات لكل شركةٍ من الشركات الست التى عادت.
أقول قولى هذا وأؤكد أن أموال الدنيا لا تساوى الحفاظ على كرامة الوطن وأمنه وكرامة واستقلال قضائه وعدم الرضوخ لابتزاز فاسد .. ثم إن الكذب حرام.
 

No comments:

Post a Comment