Friday 7 August 2015

{الفكر القومي العربي} يحيى حسين: سُمٌّ بِلا عَسَل

 
سُمٌّ بلا عَسَل
بقلم المهندس/ يحيى حسين عبد الهادى
(الأهرام 8/8/2015)


لم يكن يفصل بين صاحبنا وسن الستين إلا شهرٌ بعد أن اعتذر عن طلب تمديد خدمته فى رئاسة المؤسسة لكى لا يُناقض شعاره فى كفاية (لا للتمديد) .. .. تم إبلاغُه رسمياً أن مكافأة نهاية خدمته المَدَنية (22 عاماً فى مواقع متميزة) نحو 19 ألف جنيه بالإضافة لتسعمائة جنيه كمعاشٍ شهرى(!).
فى نفس الليلة تَلّقَى مُكالمةً من قناة الجزيرة تعرض استضافته فى الدوحة أسبوعاً قابلاً للتكرار (فى مستوى متميزٍ فَندقةً وطيراناً) على ذمة عددٍ من البرامج الحوارية دون أى قيدٍ على ما يقوله، فى مقابل خمسة آلاف دولار فى الليلة (أى ما يزيد على ربع مليون جنيه فى الأسبوع وفقاً لسعر الدولار وقتها) .. بهدوءٍ ودون مناقشةٍ قال (شكراً .. أعتذر).
كان صاحبنا قد عرف قبل أسبوعٍ من صديقه جورج إسحق أن الجزيرة تُغرى الوجوه الأثيرة لدى المصريين للظهور فى برامجها (بميزانيةٍ مفتوحةٍ لا سقف لها) لتسترد بعضاً من مصداقيتها أمام المشاهدين ثم يعبث مذيعوها بالحوارات والضيوف كما يريدون .. حكى جورج أنهم عرضوا عليه نفس العرض وكلما اعتذر ضَاعَفُوه .. زادوا الاستضافة إلى ثلاثين يوماً بنفس السعر (5000 دولار فى اليوم) أى ما يزيد على مليون جنيه، فلما اعتذر قائلاً (مليون جنيه لا تساوى الفضيحة التى ستلحق بتاريخى بعد رؤيتى فى مطار القاهرة مسافراً للجزيرة فى قطر) فوجئ بمن يتصل به بعد قليلٍ قائلاً (ومن قال إنك ستذهب للدوحة؟ سنحجز لك شهراً فى أغلى فنادق استكهولم بالسويد وتُجرى مداخلاتٍ وكأنك تتحدث من القاهرة وبنفس العرض المالى) .. رفض الوطنى العظيم جورج إسحاق بالطبع.
عندما عرف أصدقاءُ صاحبِنا بالقصة كان رأيهم أن الصواب أن تذهب للدوحة وتستفيد بالدولارات طالما لن تقول إلا ما يمليه عليك ضميرك ومن عُقر دارهم .. كان هذا أيضاً منطقَ عددٍ ممن لا يُشَكُ فى وطنيتهم ممن قبلوا مثل هذه العروض ثم عادوا يُحَذرون الآخرين من تكرار التجربة نظراً للانحياز الفَجِّ لمذيعى القناة الذين لم يتيحوا لهم أن يكملوا جملةً مفيدةً واحدة.
لتوضيح وجهة نظره الرافضة لكل تبريرات التعامل مع هذه القناة حالياً، استند صاحبُنا إلى واقعةٍ حدثت من حوالى ثمانى سنوات عندما أَلّح عليه أصدقاؤه الصحفيون المصريون فى مكتب إحدى القنوات الأمريكية فى القاهرة للظهور فى أحد برامجها من مدينة الإنتاج الإعلامى مع آخرين .. تَمَلّص منهم بأدبٍ، إذ كان يُنظَرُ لهذه القناة على أنها من أذرع المخابرات الأمريكية فى المنطقة .. وعندما ازداد الإلحاح، تَحَجج بضرورة الاستئذان من د. عبدالوهاب المسيرى منسق حركة كفاية لأن تصرفاته محسوبةٌ على الحركة (ظَنّاً منه أن المسيرى سيرفض قطعاً) .. فاجأه المسيرى بقوله (اذهب إليهم .. رغم تحفظاتنا فهذه فى النهاية قناةٌ أمريكية .. الممنوع الوحيد أن تكون قناةً إسرائيلية .. أما عدا ذلك وفى ظل التضييق علينا، يجب علي استغلال أى منبرٍ يُتاحُ لنا طالما لن نقول إلا ما نريد) .. تَهَلّلَ أصحابُ الرأى الآخر قائلين (ها هو المسيرى شخصياً يكرر وجهة نظرنا) قلتُ لهم (لا .. المسيرى وضع شرطاً رئيسياً لم تلتفتوا إليه .. ألا تكون القناةُ إسرائيلية) .. هذه قناةٌ إسرائيلية تستخدم الإخوان، إذ لو افترضنا أن الإخوان غَيّروا موقفهم لن تُغَيّر القناة موقفها المُعادى لمصر وإنما ستستبدلهم بفصيلٍ آخر .. هذه الأسعار التى تتجاوز كل الأعراف الإعلامية وهذا الانحياز المفضوح والهجوم على الجيش المصرى يؤكد عدائية القناة .. هل يجوز أن يذهب مصرىٌ إلى تليفزيون وزارة الدفاع الإسرائيلية بحجة أنه سيهاجم إسرائيل فى عقر دارها؟.
عندما ظهرت هذه القناة من عشرين سنة اكتسحت كل الفضائيات العربية المترهلة .. تميزت بالمهنية الرفيعة لمذيعيها المطابقين لمعايير هيئة الإذاعة البريطانية .. معظمهم مصريون وطنيون من عيّنة حسين عبد الغنى ويسرى فودة وحافظ الميرازى ومنى سلمان وغيرهم .. هؤلاء تركوها واحداً تلو الآخر بعد اكتشافهم لانحرافها .. وبدلاً من أن نُنشئ بهم قناةً يُديرها رجلٌ كأسامة الشيخ مثلاً ونستعيد بها الدور المؤثر للإعلام المصرى، امتلأ فضاؤنا بقنواتٍ مباركيةٍ لا تَقّل سقوطاً عن الجزيرة ولا تحتاج إلى مُذيعين محترفين بقدر احتياجها إلى رَدّاحين وعازفى إيقاع (من المساخر أن بعضاً ممن رسبوا فى اختبارات المعلومات العامة الأساسية التى أجراها لهم حسين وزملاؤه صاروا الآن نجوماً ممن يوجهون الرأى العام فى مصر!) .. افتقدت الجزيرةُ الشئَ الأخيرَ الذى كان يُمَيزُها .. المِهنية .. أصبح عادياً أن تنحاز بفجاجةٍ وأن تكذب ولا تعتذر بعد افتضاح الكذب .. أعرف أنه لا توجد قناةٌ فى الدنيا بلا سياسةٍ تُوَجِهُها بما فيها الإذاعة البريطانية، لكن الحِرَفيةَ أنها تُجيدَ دَسّ السُمِ فى العسل .. أما هذه القناة فلم يعد عندها ما تقدمه إلا السم .. بلا عسل .. أتحدث عن التليفزيون الإسرائيلى من الدوحة.

No comments:

Post a Comment