Friday 1 July 2016

{الفكر القومي العربي} يحيى حسين: ما قال لا قط إلا فى تشهده

ما قال (لا) قَطُّ إلا فى تَشَهُّدِهِ
بقلم المهندس/ يحيى حسين عبد الهادى
(نُشر فى الأهرام السبت 2 يوليو 2016)


كان ذلك منذ سنوات .. التقيت بأحد رؤساء الشركات العامة الناجحة وعلمت منه أنه فى طريقه للوزير المختص ليطلب منه التصديق على قائمةٍ بأسماء أعضاء مجلس الإدارة الذين يريدهم معه .. طرحتُ عليه عدداً من الأسماء التى تُثرى بخبرتها أى مكانٍ تعمل به .. فإذا بالرجل يضحك ساخراً ويقول: لا .. لا .. هؤلاء سيتعبوننى بمناقشاتهم وفذلكاتهم .. أريد مجلس إدارة لا يناقش القرارات وإنما ينفذها .. وفاجأنى بقائمةٍ من النكرات عديمى الكفاءة والرأى الذين يُعتبرُ بدل حضور الجلسات أقصى أمانيهم .. ظننتُه مثقفاً (ولا زلتُ أعتقد أن المدير لا بد أن يكون لديه حدٌّ أدنى من الثقافة) فاستشهدتُ بأبيات عمّنا صلاح جاهين: لولا اختلاف الرأى يا محترم .. لولا الزلطتين ما الوقود انضرم .. ولولا فرعين ليف سوا مخاليف .. كان بينّا حبل الود كيف اتبرم؟ عجبى .. فقال ساخراً: يا باشمهندس ما علاقة الزلط والليف والحبال بالإدارة؟! ثم أردف بما يظنه خلاصة الحكمة الإدارية المتجمعة لديه قائلاً: إذا أردتَ النجاح فاختر معاونيك ممن قال فيهم شاعرٌ آخر لا أعرف اسمه (ما قال لا قط إلا فى تشهده) لكى لا يعيقوا تنفيذ رؤيتك .. عبثاً حاولتُ أن ألفت نظره إلى أنه يستخدم بيت الفرزدق فى غير موضعه، فقد كانت الثقة الزائدة لدرجة الغرور تُغلق أُذنَه عن أى رأىٍ مختلف .. كان الرجل مخلصاً ومتفانياً فى عمله ولم يكن فاسداً إلا أنه كان يحمل بداخله جينات مستبدٍ صغير .. النتيجة بعد ذلك معروفة .. صورة طبق الأصل مما يحدث مع كل مديرٍ متفردٍ برأيه يعتمد على الإلهام لا المستشارين .. بعض النجاحات الصغيرة ثم الخواتيم الكارثية .. تفاقمت خسائر الشركة خلال فترةٍ وجيزة ولولا أنها كانت شركةً عامةً لوجبت تصفيتها وفقاً لقانون الشركات.
لاحظتُ بعد ذلك خلال ممارستى الإدارية ودراسة نماذج النجاح والفشل فى مصر والعالم أن هذا البيت عنوانٌ لمعيار اختيار القيادات فى الشركات والمؤسسات الفاشلة وفى دول العالم الثالث المتخلفة التى تنتقى قياداتها على كافة المستويات ممن (ما قال لا قط) مِن أولئك السائرين (جنب الحيط) على كافة المستويات، إلى أن يصبح المجتمع كله شيئاً فشيئاً سائراً (جنب الحيط) فيلبس فى الحيط .. هى روشتةٌ مؤكدةٌ للفشل .. عندما سُئل الإمام على بن أبى طالب كرَّم الله وجهه: ما يُفسِدُ أمرَ القوم يا أمير المؤمنين؟ قال: وَضْعُ الصغير مكان الكبير، والجاهل مكان العالم، والتابع فى القيادة .. بينما كل التجارب الناجحة (ومنها فى مصر الكثير) ينجح فيها المدير الذى يسعى إلى ضم وتقريب معاونين ومستشارين لا يتحرجون عن قول (لا) إذا وجبت .. كان عُمَرُ رضى الله عنه يقول: رَحِمَ اللهُ مَن أهدى إلىَّ عيوبى.
نحن نتحدث عن (لا) التى مَجَّدَ أمل دنقل قائلَها .. مَنْ قال لا فى وجه مَنْ قالوا نعم .. (لا) التى تعنى الرأى الآخر .. المُختلِف .. غير التقليدى .. المُبدِع .. (لا) التى تتقدم بثقافة احترامها أممٌ وتضيع بِكَبتِها وتخوينها أخرى .. (لا) التى تعنى فى الفقه التجديد .. وفى الأدب والفن الإبداع .. وفى الإدارة اختلاف الرؤى والحلول .. وفى السياسة المعارضة .. وهكذا .. إلى أن نصل إلى (لا) التى وعد رب العزة قائلها بالجنة إذا كانت كلمة حقٍ فى وجه سلطانٍ جائر.
وفى الختام أعتذر للفرزدق برواية قصة هذا البيت الشهير .. إذ كان الخليفة الأموى هشام بن عبد الملك يحج برفقة حاشيته وكان البيت الحرام مكتظاً بالحجيج ولم يفسح أحدُ له المجال للطواف والوصول للحجر الأسود فأُتِى له بمُتكأٍ ينتظر دوره .. فإذا بالإمام على بن الحسين زين العابدين رضى الله عنه يدخل الحرم، فانشقت له صفوف الناس طواعيةً وأفسحوا له الطريق حُبَّاً ومهابةً حتى أدرك الحجر الأسود .. فثارت حفيظة هشام بن عبد الملك ولما سأله أحد مرافقيه مِن أهل الشام عن هوية ذلك الشخص المهاب، أجابه هشام أنه لا يعرفه، مع أنه كان يعرفه جيداً .. وقال لمن حوله باستنكار: مَنْ هذا؟ .. فلم يتمالك الشاعر الفرزدق نفسه وارتجل قصيدته المشهورة على مسمعٍ من هشام بن عبد الملك التى من أبياتها:
وليـس قـولُك مَـنْ هذا بِضـائِرِهِ ... العُرْبُ تعرفُ مَن أنكرتَ والعَجَمُ
هـذا ابنُ خـيـر عـبـاد الله كُلِّهمِ ... هـذا التقـىُّ النقىُّ الطاهرُ العَلَمُ
إذا رأته قريــشٌ قـال قـائلــُها ... إلـى مَكـارم هذا ينتهى الكرمُ
مـا قـال لا قَـطُّ إلا فـى تَشَـهُّدِهِ ... لَـوْلا التشَهُّدُ كـانت لاءَه نعمُ
يقصد أنه شديد الكرم لدرجة أنه لم يقل لا فى حياته لسائلٍ أو محتاج وأن (لا) الوحيدة التى يقولها هى لا إله إلا الله فى التشهد .. وهو معنىً مختلفٌ تماماً عن الذى فهمه رئيس الشركة الذى بدأت به المقال .. كانت هذه القصيدة فى حد ذاتها أكبر (لا) قالها الفرزدق .. وهو وإن كان لم يُعَذَّب أو يُسجن بسببها إلا أنه على الأقل حُرِم من صُرَّةٍ معتبرةٍ من المال العام مما كان الحكام يمنحونها لمادحيهم من الشعراء.


No comments:

Post a Comment