التفكير فى القصور والقصور فى التفكير
--------------------------------------
سكت أياماً ثم نطق، وليته ما نطق، فقد أثبت - من حيث أراد النفى - أن كل ما قيل عن شذوذ مشاريعه الكبرى صحيح، وإن كان قد برر هذا الشذوذ بما يدينه ولا يبرئه، فجاءت كلماته وبالاً عليه وعلى نظام حكمه الذى ألحق به فى دقائق أضراراً تفوق ضرر كل ما تداولته مواقع التواصل الاجتماعى طيلة الأيام الماضية من فيديوهات مقاول متواضع الثقافة لا يحمل من الشهادات العلمية إلا ما منحته إياه مدرسة الحياة !
لا أعرف ماذا تعلم السيسى من علوم الدولة ومن فنون بنائها وإدارتها على مدى نصف قرن قال إنه قد أنفقه فى تعلم معنى الدولة، ولا ماذا فهم من التاريخ الذى ادعى فى مقابلة شهيرة أجراها قبيل الانتخابات الرئاسية الأخيرة تفوقه الدراسى فيه؟!
أخشى أن يكون السيسى قد فهم الدولة على نموذج تشارلز الأول الذى ضرب البرلمانيون فى بريطانيا رأسه بعد انتصار جمهورية كرومويل فى منتصف القرن السابع عشر، أو على نموذج الملك الشمس لويس الرابع عشر، صاحب القالة الشهيرة "الدولة هى أنا"، قبل أن تطيح مقصلة الثورة الفرنسية فى نهاية القرن الثامن عشر برأس حفيده لويس السادس عشر، الذى لم يستوعب حقائق التغيرات التاريخية، ولا هو أدرك أن نموذج حكم جده الأكبر الملقب بالملك الشمس قد تجاوز تاريخ الصلاحية !!
أخشى أن يكون السيسى ضحية فهم معتل للتاريخ باعتباره قصصاً "تُطرَف به الأندية إذا غصها الاحتفال"، على حد تعبير ابن خلدون فى مقدمته ناقداً أولئك الذين يتناولون التاريخ بمنطق الحفظ والاستدعاء العشوائى، لا بمنطق كونه علماً نقدياً يحتاج إلى "مآخذ متعددة، ومعارف متنوعة، وحسن نظر وتثبت يفضيان بصاحبهما إلى الحق، وينكبان به عن المزلات والمغالط" على حد تعبيره؛ فما رصده ابن خلدون من أحوال التاريخ، ومن أحوال المتعاملين معه فى عصره، عاد السيسى - بعد أكثر من ستة قرون - ليستدعيه من مدافن القرون الوسطى بثقة لا يُحسَد عليها، وليغرق معه الدولة المصرية فى نمط تفكير كنا نظن أن ابن خلدون، وأن كل من كتبوا عن حركة التاريخ بعده، قد واروه الثرى، إذ تجاهل السيسى "تبدل الأحوال فى الأمم والأجيال بتبدل [العصور] ومرور الأيام"، فلا هو حكَّم "قواعد السياسة وطبيعة العمران والأحوال فى الاجتماع الإنسانى، ولا [هو قاس] الغائب منها بالشاهد، والحاضر بالذاهب"، على حد تعبير ابن خلدون، "َفضَلَّ عن الحق، وتاه فى بيداء الوهم" !
إنها مقتطفات من نصوص عمرها أكثر من ستة قرون، لا هى فهمها نظام الحكم القائم فى مصر، ولا هو استوعب معانيها وهو يحدثنا عن نهضة مصرية أساسها نهضة معرفية غير مسبوقة، وجامعات مصرية لم يعرف مثيلها من قبل أحد فى العالمين ! ... أقَرَّ الرجل فى حديثه أمس بكل ما جاءت به فيديوهات المقاول الذى يملك مهارات أداء وتأثير اكتسبها من بعض تجارب له فى التمثيل، فأكد المؤكد وهو أنه يبنى بالفعل قصوراً، وهو ما كان معلوماً للجميع ولم يكن بحاجة لتأكيد رئاسى، ولا هى كانت فيديوهات المقاول/الفنان قد جاءت بجديد فى هذا الشأن كان يجهله المصريون، اللهم إلا بعض التفاصيل التى أضافت جرعة من الإثارة والتشويق على مواقع التواصل الاجتماعى !
الجديد حقاً، مما لم يرد حتى فى الفيديوهات المتداولة على مواقع التواصل الاجتماعى، هو ما قاله السيسى نفسه - بخفة أو باستخفاف لا نظير لهما - من أنه سيبنى قصوراً غير ما يبنيه من قصور، وأنه ينافس فى ذلك محمد على (والى مصر ومؤسس دولتها الحديثة) مبرراً ذلك بأنه يبنى دولة جديدة ستنافس قصورها قصور محمد على !!!
لست طبيباً نفسياً، ولا أنا أدعى علماً معمقاً بالطب النفسى يتجاوز العلم العام، لكننى وجدت نفسى وأنا أستمع للرجل وكأننى أمام حالة فريدة تمتزج فيها أعراض جنون العظمة بأعراض الشعور بالنقص، وهى فى تصورى حالة خطيرة إذا ما ترافقت مع غيبوبة تاريخية واضحة، ومع غياب كامل للإحساس بالواقع فضلاً عن الإحساس بالزمن؛ ولا أعرف - والحال هذه - كيف نجح المرشح الرئاسى عبد الفتاح السيسى فى اجتياز الاختبارات النفسية التى سمحت له بالترشح للرئاسة؟!
الرجل لا يدرك الفارق الزمنى بين النصف الأول من القرن التاسع عشر، الذى حكم خلاله محمد على مصر، وبين النصف الأول من القرن الحادى والعشرين الذى يحكم هو فيه مصر ! ... الرجل لا يدرك أن مصر التى كانت ولاية عثمانية يحكمها الباشا قد تحولت منذ نحو مئة عام إلى ملكية دستورية، وأنها تحولت بعد ذلك إلى جمهورية منذ ست وستين سنة ! ... الرجل لا يدرك أن بناء القصور هو تقليد ملكى لا جمهورى، ولا هو يدرك أن بناء القصور لم يكن هو ما أنشأ الدولة المصرية الحديثة التى أقامها محمد على، ولا هو ما سيبنى دولة جديدة يتحدث عنها السيسى ولا نعرف ما هى ملامحها، ولا ما هى الرؤية التى تقود هذا البناء؟!
لم يبدأ محمد على حكمه ببناء القصور كما يفعل السيسى، وإنما بدأه بتنظيم دولاب العمل الحكومى، وهذا التنظيم الحكومى، الذى نجح فيه بمعايير عصره وظروف نشأة دولته، هو ما مكنه لاحقاً من تنظيم بناء الجيش، وتنظيم شبكة الرى، وتنظيم التعليم والبعثات التعليمية، ولم يتحدث أحد من المؤرخين عن أن بناءه القصور هو ما مكنه من بناء دولته الحديثة !
بعض المعلومات التاريخية أيضاً يبدو ضرورياً لأولئك الذين يصفقون للرجل وكأنه "جهيزة" التى قطعت قول كل خطيب؛ فمحمد على باشا لم يبدأ حكمه بإقامة القصور الفخمة التى تستنزف موارد دولته، وإنما كان يسكن القلعة التى كانت مقر الحكم فى مصر منذ الدولة الأيوبية، وإن كان محمد على قد أمر بعد سنوات من حكمه، الذى استمر أربعة عقود، ببناء قصر شبرا الذى استغرق بناؤه ثلاثة عشر عاماً، ولم يأمر بالبدء فى بناء قصر رأس التين بالأسكندرية إلا بعد مرور ثلاثة عقود على حكمه، وبعد أن بلغت مصر مستويات قياسية من القوة العسكرية والسياسية والاقتصادية، ولم ينته العمل بالقصر إلا بعد وفاته؛ أما قصر عابدين وقصر القبة فقد أمر ببنائهما الخديوى إسماعيل الذى أمر حفيده عباس حلمى الثانى ببناء قصر المنتزه، بينما قامت ببناء قصر الطاهرة الأميرة أمينة ابنة الخديوى إسماعيل، ثم ورثه عنها ابنها محمد طاهر باشا قبل أن يشتريه منه الملك فاروق ليهديه لزوجته الأولى الملكة فريدة ... هى إذن قصور عائلة "ملكية" حكمت مصر لمدة قرن ونصف القرن، فكيف يتخيل السيسى أنه يمكنه منافسة هذه العائلة ببناء القصور فى ظل نظام "جمهورى"، وفى ظل اقتصاد منهك أرهقته الديون، وفى مدة لا تتجاوز بضع سنوات هى مدة حكمه وإن طال؟!
لماذا لا يحاول السيسى - وهو رئيس لا ملك - أن ينافس محمد على فى رؤيته التاريخية والجيوستراتيجية والتنظيمية؟ لماذا لا يهتم مثله بأحوال مصر لا بأحوال مدينته الفاضلة التى لا شأن للمصريين بها، ولماذا لا يقرأ كتاباً واحداً فى التاريخ عله يعرف منه أن أحداً من أسرة محمد على الذى يريد أن ينافسه - أو أن ينافس عائلته وسلالته - لم ينشئ لنفسه مدناً تنفصل عن مصر بحجة أنه يبنى دولة جديدة، وعله يتعلم - إن كان ثمة مجال للتعلم - أنه لا دولة جديدة يبنيها أى حاكم ببناء القصور، وإنما هى تُبنَى الدول الجديدة ببناء الرؤى التاريخية الجديدة، والرؤى الحضارية الجديدة، والرؤى الجيوسياسية والجيوستراتيجية الجديدة ... فما هى يا ترى هذه الرؤى التى اعتمدها السيسى قبل أن يحدثنا عن دولته الجديدة التى تصور فى حديثه بالأمس أنها ليست إلا عاصمته الجديدة التى سينبهر بها العالم بأكمله؟!!
يؤسفنى القول - وما كنت أود أن يدفعنا الرجل لهذه الخاتمة - أن تفكير أى رئيس دولة فى "القصور" كحل لمعضلات دولته هو فى حقيقته "قصور" فى التفكير، ونذير انحطاط الدولة وتخلفها وانهيارها، لا بشير رفعتها وتقدمها واستقرارها، فما بالنا ورئيس الدولة يعدنا بمزيد من القصور : قصور يعانى من بنائها اقتصاد البلاد، وقصور يعانى منه التفكير فى أن مصر ستبنيها هذه القصور !
======================
No comments:
Post a Comment