Tuesday 26 September 2017

{الفكر القومي العربي} يحيى حسين: لا تقتلوا الإنسان فينا ,, وفيكم

لا تقتلوا الإنسان فينا .. وفيكم
بقلم المهندس/ يحيى حسين عبد الهادى

كانت التعليماتُ للجندى الأمريكى أثناء حرب فيتنام أَلاَّ ينظر فى عين ضحيته وهو يقتله .. لأنه لو شاهَدَ الرعبَ فى عينيه سيشعر أنه إنسانٌ مثله وليس (شيئاً) لا قيمة لحياته .. وقد يؤدى ذلك لتعاطف الجندى وربما تردده .. فالفكرة الأساسية فى الحرب هى أن تتعامل مع العدو على أنه (شئ) شريرٌ وليس إنساناً .. و(الشئ) يسهل استباحته دون أى وخزٍ فى الضمير .. أما الإنسان فهو مِثلُك .. يخاف ويحزن ويفرح ويبكى وله أسرةٌ وأهلٌ وآمال.
أما الماتادور الأسبانى الشهير توريرو ألفارو مونيرا فقد اعتزل مصارعة الثيران فى عِز تألقه فى منتصف فقرته القتالية مع أحد الثيران .. كان قد أصاب الثورَ إصاباتٍ داميةً دون أن يهاجمه الثور .. وقال فيما بعد واصفاً هذه اللحظة (فجأة نظرتُ إلى الثور .. جميع الحيوانات لديها هذه البراءة فى عيونها .. وجدتُه يتطلع فى وجهى بعد هذا القتال الدامى .. كان ذلك مثل صرخةٍ من أجل العدالة .. وأدركتُ أنه ليس هناك سببٌ لقتال هذا الثور اللطيف) .. وأصبح توريرو مِنْ يومِها من أقوى المعارضين لمصارعة الثيران.
هذا عن القتال مع عدو .. أو حيوان .. فما بالُنا بالتعامل مع المختلفين عنا دينياً أو سياسياً من شركائنا فى الوطن .. إذا نزعنا الإنسانَ مِنْ داخِلِنا سيَسهُلُ علينا تلقائياً أن ننزع نفس الصفة عن المختلفين معنا .. وسيسهل على ضمائرنا أن نعاملهم ككتلةٍ واحدةٍ صمَّاء .. مجرد شئٍ لا قيمة له ولا حقوق ولا مشاعر ولا ثمن لحياته .. سواء كان هذا الشئ جمهورَ النادى المنافس أو أتباع الديانة الأخرى أو أصحاب الأيديولوجيا السياسية المختلفة.
كتبتُ مقالاً منذ أيام عن وفاة المرشد العام السابق لجماعة الإخوان فى مَحبَسِه مريضاً بالسرطان المنتشر فى البنكرياس والكبد والمرارة بالإضافة للفشل الكلوى وهو على مشارف التسعين من عمره .. وقد جاءت معظم ردود الفعل متفقةً .. لكن هالَنى أن قَدْراً لا بأس به من المعلقين (من غير اللجان) أظهروا قدراً كبيراً من اللا إنسانية والتشفى يتنافى مع الحد الأدنى من الفطرة والأعراف التى تربينا عليها فى مصر .. ولم يَسلَم كاتب المقال من رذاذ بعضِ مَنْ اتهموه بأنه يدافع عن الإخوان .. ولستُ بحاجةٍ فى كل مقالٍ لتأكيد انتمائى للتيار المدنى .. المؤمن بدولة القانون .. دولة المواطنة .. ومَنْ يقرأ المقال (والبعض يُعَّلِق دون أن يقرأ) لن يجد أى دفاعٍ عن شخصٍ أو جماعة وإنما هو دفاعٌ عن قِيَمٍ إنسانيةٍ فطرية ظنَنْتُها من البديهيات .. وبقدر ما هالتنى هذه اللاإنسانية إلا أنها لم تفاجئنى .. فهناك حالةٌ من العدوانية والتخوين والتكفير والغِلظة والاحتقان تتنامى فى مصر الطيبة منذ فترة، حتى وصلت إلى داخل الأسرة الواحدة .. قد تكون آخر مظاهر هذه الحالة هى روح التشفى الدنئ من البعض فى موت عاكف .. ولكن سبقها أكثر من حَدَثٍ كاشفٍ لهذا الجنون والانهيار الذى أصاب الطبيعة المصرية .. أذكرُ مثالاً واحداً للتدليل لضيق المساحة .. تعرية سيدةٍ مسيحيةٍ مُسِّنَة فى صعيد مصر دون أن يهتز لذلك إلا الإخوة المسيحيون وقليلٌ من المستنيرين المسلمين .. وهو عارٌ ثلاثى الأبعاد .. الاستئساد على امرأةٍ، وقد كانت للمرأة حصانةٌ حتى فى جرائم الثأر .. فضلاً عن أنها مُسِّنَة، وقد كان للمسنين دوماً توقيرٌ خاص .. والأدهى أن المعتدين كانوا من الجيران، فى بلدٍ كانت روابط الجيرة فيها أقوى من روابط القُربى .. لكن كل ذلك سقط فى اللحظة التى نُظِرَ فيها للآخَر الدينى باعتباره مجرد (شئ) وليس إنساناً له مشاعر وحقوق.
الكل مسؤولٌ عن هذه الهستيريا اللا إنسانية .. بما فيهم النظام الذى يسمح (أو يوعز) لإعلامييه بالدعوة علناً إلى قتل المخالفين خارج إطار القانون .. وللأمانة فإن بعضاً من المنتسبين لتيار المرشد الراحل كان لهم السبق فى الشماتة فى موت كثيرٍ من مخالفيهم من الرموز السياسية والأدبية والفنية .. وإن كانت الأمانة أيضاً تقتضى أن نقول إن كثيرين غيرهم لم ينزلقوا لهذا المستنقع.
من الإيجابيات الجميلة فى موضوع الأستاذ عاكف، أن معظم من لفتوا الأنظار لحالته ومارسوا ضغوطاً من أجل الإفراج عنه، كانوا من المنتمين للتيار المدنى المختلفين بشدة مع تياره السياسى مثل الدكاترة ليلى سويف وعايدة سيف الدولة وماجدة عدلى والكاتبين الصحفيين حمدى رزق وعماد الدين حسين .. وسيكون جميلاً أيضاً لو تصدى عددٌ من محامى الإسلام السياسى للدفاع عن الشباب غير المنتمى لهم والقابع فى غيابات السجون.
وأستأذنُ المفكر القومى الصديق/ محمد عصمت سيف الدولة فى أن أستعير فقرةً كتبها تحت عنوان: فلتختلف معهم ولكن عليك احترامهم .. لعلها تلخص ما أريد قوله (علينا أن نحترم المختلفين معنا وألا نُجَّرِحهم أو نُسَّفِه أفكارهم أو رموزهم، لأننا نعلم جيداً أن لكلٍ من التيارات الأربعة الرئيسية: القومى والإسلامى والاشتراكى والليبرالى أسباباً وظروفاً تاريخيةً أَدَّت إلى نشأته وبقائه واستمراره لعقودٍ طويلةٍ حتى يومنا هذا .. ولكلٍ منها أيضاً أنصاره .. وسيظل شريكاً لنا فى هذا الوطن شئنا أم أبينا .. وأى محاولةٍ مِن أىٍ مِنَّا لاجتثاث أو إنهاء وجود الآخرين سيكون مصيرها الفشل والزج بالبلاد فى دائرةٍ جهنمية مدمرة من الانقسام والاقتتال الأهلى).
وأُضيف أن ثراء مصر فى تعدديتها .. وبهاءَها فى تَحَّضُرِها .. وتاجَ حضارتها إنسانيتُها .. أخى العزيز .. أجمل ما فيك أنك إنسان .. فلا تَدَعْ أحداً يقتل الإنسانَ داخلك.
(البداية- الثلاثاء 26 سبتمبر 2017).

No comments:

Post a Comment