Friday 26 June 2015

{الفكر القومي العربي} يحيى حسين: المُثَقّفُ المِثال .. عبد الوهاب المسيرى

 


المُثَقّفُ المِثالُ .. عبد الوهاب المسيرى
بقلم المهندس/ يحيى حسين عبد الهادى
(الأهرام 27/6/2015)

قد تستطيع آلة الفلول الإعلامية المُمَوّلَة تشويه بعض الشُرفاء، لكن سيبقى من التاريخ المُباركى الأسود ما لن تستطيع نفسُ الآلة أن تغسله ولو استخدمت أطناناً من المساحيق .. مِن ذلك ما جرَى عصر السابع عشر من يناير 2008 حينما قامت قوات الوزير (المُبَرّأ) حبيب العادلى باختطاف العالِم الموسوعى السبعينى المُصاب بالسرطان الأستاذ الدكتور عبد الوهاب المسيرى وزوجته الأستاذة الدكتورة هدى حجازى من ميدان السيدة زينب وألقت بهما فى ذلك المساء القارس البرودة فى صحراء التجمع بلا موبايلات، إلى أن التقطهما سائق مقطورة لا يعرفهما وأنزلهما عند بداية العُمران .. أُصيب المسيرى فى هذه الليلة بالتهابٍ رئوىٍ حاد قاوَمَه قَدر استطاعته إلى أن أسلم الروح بعد أقل من ستة شهور فجر الثالث من يوليو من نفس العام (تحل ذكراه الجمعة القادمة).
كان المسيرى قبل ذلك قد أنفق من عمره ثمانية عشر عاماً ليُخرج للبشرية موسوعته الخالدة (اليهود واليهودية والصهيونية)، وبعد أن انتهى من عمله الكبير لم يتفرغ لجَنْى الثمار وجوائز الدولة، وإنما نَزَلَ بِقامته العالية من بُرجه العاجى وذاب مع شعبه فى معاركه .. لو لم يكُن للمسيرى من إسهامٍ إلا هذه الموسوعة لَكَفَاه إسهاماً، ولكنه أبَى أن يظل فى صومعته بينما مصرُ تُنازعُ قُوى الاستبداد والفساد، فما ترك جبهةً فى هذه المعركة المقدسة إلا وكان فى صدارة مقاتليها .. كان فى صدارة المقاتلين دفاعاً عن لغة الضاد، وعندما قَدّمَه وفدُ القوى الوطنية المصرية للسفارة الأمريكية بالقاهرة لِيُلقى بيان الاحتجاج على الغزو الأمريكى للعراق باللغة الإنجليزية بصفته أستاذ أساتذة الأدب الإنجليزى، أَصّر المسيرى على إلقاء بيانِه بِلُغَةٍ عربيةٍ سليمةٍ، رافضاً أن يتحدث من القاهرة إلا بالعربية ومُرغِماً مُترجمَ السفارة على أن يقوم بعمله .. وفى جبهة استقلال الجامعات كان ضمن الرعيل الأول المُنشئ لحركة 9 مارس .. كما كان من أوائل النُبلاء المؤسسين للحركة المصرية من أجل التغيير (كفاية) .. وعندما أرادت كفايةُ أن تستظلَ به سقفاً عالياً، وافق دون ترددٍ على تكليفها له مُنَسِقاً عاماً لها (بعد انتهاء فترة منسقها الأول المناضل جورج إسحق) .. وكان ذلك بمثابةِ صفعةٍ على وجه مثقفى السلطان .. كان مَنطِقُهُ بسيطاً (أليس هذا نظاماً مُستبداً وفاسداً؟ إذن لماذا أترُكُ مُقاومَتَه لغيرى؟!) .. كان يقول ما هو مؤمنٌ به وتتسق أقواله مع أفعاله، وهو سر سعادة المرء كما قال غاندى، ولعل ذلك كان سر ابتسامته الدائمة (آخرُ كُتُبِه التى لم تكتمل بِوفاته كانت عن النُكتة المُقاوِمة).
وتَحَمّلَ بروحه العذبة وابتسامته التى تختصر روح مصر الكثير من سفالات ورذالات الصغار فى نظامٍ يتهاوى، وستظل صورته الشهيرة وهو فى السبعين وجحافل الأمن تكاد تسحقه وقد سقطت زوجته على الأرض، تُلَخّصُ عصراً بأكمله وتُدينُه أيضاً .. .كان يقف بيننا ويهتف ونُرددُ وراءه (سلمية .. سلمية) وعندما كان الشبابُ يتشككُ فى إمكانية سقوط هذا النظام الغاشم سلمياً كان يقول بابتسامة الواثق (إذا نزل مائةُ ألف مصرىٍ مُسالِمٍ إلى ميدان التحرير سيسقط النظام) وقد صَدَقت نُبوءتُه بعد أقل من ثلاث سنوات ..
أوضح المسيرى عملياً أن الفارق بين المُتعلم والمثقف هو الموقف، فليس كُلُ متعلمٍ مهما نال من شهاداتٍ أكاديميةً مثقفاً ما لم يكن صاحبَ موقفٍ من السلطة إجمالاً، ومِن السلطان الغاشم على وجه الخصوص … يُعَدِدُ المفكر الفلسطينى العالمى الراحل الدكتور إدوارد سعيد فى كتابه (المثقف والسلطة)، صفات المُثَقّفَ كما يلى: (المُثقف إنسانٌ يَنهضُ بِدورٍ فى الحياة العامة فى مجتمعه، ولا يختزل نفسه فى صورةٍ مهنيةٍ أو أكاديميةٍ بلا هوية) و(المُثقف هو فردٌ يصعب على الحكومات أو الشركات أن تستقطبه ويمارسُ دَورَه على أساس أن أى انتهاكٍ لحق الأفراد فى الحرية والعدل لا يمكن السكوت عليه بل لا بد من محاربته بشجاعة) و(إن المثقف الحقيقى هو القادر دائماً على قول الحقيقة للسلطة، وهو ما لن يتيح له أن يحظى بأيات التكريم الرسمى، ومن ثَمّ يجد نفسه فى عُزلة .. ولكن هذه العُزلةَ خيرٌ من الصُحبةِ التى تعنى قبول الأوضاع على ما هى عليه).
كان إدوارد سعيد يتحدث فى المُطلق وكأنه يتحدث عن عبد الوهاب المسيرى .. رَحِمَ اللهُ المُثَقّفَ المِثالَ الطاهر النقى عبد الوهاب المسيرى، ورَحِمَ مصر التى أنبتته وأَحَبّها وعَشقها .. وأقالَها من عثرتها لتنعم رُوحُه بالرضا بين الصِدّيقين والشهداء والأبرار وحَسُنَ أولئك رفيقاً.

No comments:

Post a Comment