كريمة الروبي
تظل الثقة بالنفس هي المحرك الرئيسي للطموح والسعي نحو الأفضل سواء على مستوى الأفراد أو الشعوب، وفي اللحظة التي يتملك فيها أي شعب الإحساس بالدونية ، فإنه يصبح مهيأً لقبول الغازي الذي سيرى فيه المخلّص والأحق بتدبير شؤونه، وهو ما يتم العمل عليه من قبل محترفي تحقير الذات وتصدير الشعور بالدونية والانسحاق أمام النموذج الغربي، وتروج له صحف وفضائيات ومواقع تواصل اجتماعي جعلت من هذا الأمر هو شغلها الشاغل كي يجد الشعب نفسه محاصراً بفكرة واحدة "نحن أقل قدرة من أن ننجح ونناطح الكبار"، والمدخل الرئيسي لتلك الحملة هو تشويه الرموز الوطنية التي تصدت للاحتلال والتبعية ورفعت شعار الاستقلال والتحرر من قبضة قوى الشر التي لا يرضيها سوى أن تتحكم في العالم، تلك القوى التي لا شك أنها وراء تلك الحملات التي تتبنى تشويه كل من يقف أمام مساعيها في السيطرة على مقدرات الشعوب.
"الديكتاتور، القاتل، المجرم، السفاح،..." هي صفات لا تطلق على زعماء الويلات المتحدة التي دمرت العراق وليبيا وتضرب في سوريا وتحتضن الكيان الصهيوني، ولا تطلق على مجرمي الحرب من الصهاينة ، ولكنها تطلق على كل من وقف في وجه قوى الاستكبار العالمي، كل من قال لا لواشنطن وتصدى لمخططاتها، كل عدو لأمريكا هو بالضرورة سفاح وتنتشر المعلومات "الكاذبة طبعاً" بسرعة الصاروخ على وسائل الإعلام المختلفة ويتداولها الملايين، ولا يحتاج الأمر لقدر عال من الثقافة والمعرفة لملاحظة أنها حملات ممنهجة لا تستهدف سوى أعداء واشنطن و"تل أبيب"، فالإخونج والنيوليبرال لا يدخرون جهداً في تقديم فروض الولاء والطاعة للبيت الأبيض عن طريق تشويه أعدائه، والتشويه هنا لا يطال الأحياء فقط في كوبا وفنزويلا وكوريا الشمالية وبوليفيا وسوريا وغيرهم من الذين مازالوا يتحدّون ويرفضون الخضوع ، بل طال أيضاً الذين رحلوا بأجسادهم ولكن بقيت سيرتهم ملهمة للشعوب الطامحة في الاستقلال، وبالتالي المطلوب هو تحطيم النموذج وما يمثله عن طريق تشويه الفرد.
فعلى الرغم من سقوط الاتحاد السوفيتي إلا أن الحملات ضد زعمائه (وبالأخص جوزيف ستالين) لم تتوقف، ورغم انتهاء دولة يوليو عقب وفاة زعيمها إلا أن حملات التشويه التي طالته مازالت مستمرة وأكثر شراسة، وهو ما يؤكد خوف القوى الإمبريالية من اتخاذ تلك الرموز الوطنية كنماذج تستدعيها الجماهير للخلاص من معاناتها، ففضلت أن تبادر تلك القوى بتحطيم هذه النماذج وتدمير أي أمل للخروج من دائرة التبعية، حتى وصلنا للحد الذي أصبح فيه الدفاع عن التطبيع مع الكيان الصهيوني أسهل بكثير من الدفاع عن الرموز الوطنية.
تقول مجلة التايم الأمريكية عن الزعيم الراحل جمال عبد الناصر أنه "على الرغم من أخطائه وأوجه القصور لديه، أضفى ناصر شعوراً بالقيمة الشخصية والكرامة الوطنية التي كان المصريون والعرب لا يعرفونها منذ 400 سنة"، فالغرب يدرك جيداً أن قوة الرموز الوطنية التي تسعى لتدميرها، نابعة من قدرتها على استدعاء الشعور بالكرامة الوطنية والكبرياء لدى شعوبها مما يجعل الوقوف أمام أية قوى معادية مهما كانت إمكانياتها أمراً ممكناً، والتاريخ القريب شاهد على ذلك من بورسعيد 1956 إلى حرب تموز 2006 مروراً بفيتنام وغيرها من الشواهد التي تؤكد على القوة التي تمنحها الثقة بالنفس والاعتزاز بالكرامة الوطنية.
لذا فكسر الإرادة الوطنية والقضاء على الشعور بالقيمة الشخصية هو التحدي الذي يسعى إليه الغرب عن طريق تجنيد عملاء وإنشاء صفحات ومواقع إلكترونية لترويجه، ويساعده في ذلك إنعدام المقاومة من الأنظمة الحاكمة بل ومشاركة تلك الأنظمة في هذه الحملات لتبرير الخضوع والاستسلام والتبعية.
وبالتوازي مع حملات التشويه لأعداء الإمبريالية، هناك حملات لتسويق النماذج التي ترضى عنها واشنطن ويتم الترويج لها على أنها واحة الديمقراطية وقلعة التقدم ككوريا الجنوبية التي تقدم كنموذج مواجه لجارتها الشمالية التي رفضت الغطرسة الغربية فكان الاتهام بـ"الجنون" هو مصير زعيمها، أي ترويج فكرة أن الوقوف في وجه واشنطن هو درب من الجنون بينما تسليم الإرادة للبيت الأبيض هو القرار العاقل والذي يؤدي لأن تصبح نموذجاً يحتذى به.
كشف هذه الحملات ومن وراءها لا يحتاج لقوة ملاحظة، بل فقط يحتاج لعقل واع يستطيع تمييز الأمور وتحديد البوصلة، فكل ما هو في صالح الويلات المتحدة وشركائها هو بالتأكيد ضد مصالحنا، ومن ترضى عنه واشنطن عدو، ومن تعاديه صديق.