Monday, 31 July 2023

{الفكر القومي العربي} الجاسوسةُ الإسرائيلية زيفُ البحث وحقيقةُ الاختراق

الجاسوسةُ الإسرائيلية زيفُ البحث وحقيقةُ الاختراق

بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي

خذوا حذركم من كل باحثٍ أو باحثةٍ أجنبية، يهتم بشؤون الشرق الأوسط، ويعنى بالصراع العربي الإسرائيلي، وينشغل بهموم شعبنا وحاجاته، ويقلق على مصيره ومستقبله، ويحذر من مشاكله وأزماته، ويتابع تفاصيل قوى المقاومة ويومياتها، ويسلط الضوء على أنشطتها وفعالياتها، ويحاول الوصول إلى قادتها ورموزها، ويدعي أنه يدافع عنها ويصد الشبهات التي تدور حولها، ويريد أن يكتب عنها ويوضح مواقفها ويبين عدالة قضيتها، ويشرح للرأي العام الغربي حقيقة أزمة الشرق الأوسط وأسبابها، ونتائجها وتداعياتها، وسلبيات إهمالها ومخاطر عدم التوصل إلى حلولٍ عادلةٍ بشأنها، وخطورةٍ الصمت على معاناتها وجراحها.

 

قد تبدو هذه الأهداف إيجابية جداً ومحل تقديرٍ وشكرٍ واحترامٍ، ولا تستدعي الإدانة والاستنكار، فأصحابها وهم في غالبيتهم ينشطون في منطقتنا العربية بصفة كتابٍ وصحفيين وإعلاميين وباحثين، يظهرون ودهم، ويحرصون على إبراز تضامنهم وبيان تعاطفهم مع شعوب المنطقة العربية، ويؤكدون أنهم يتكبدون الصعاب ويتجشمون عناء السفر، ويعانون من مشقة الإقامة والعيش بعيداً عن أهلهم وأوطانهم، رغبةً منهم في تقديم المساعدة لشعوب المنطقة، وتخفيف تداعيات الأزمة التي تستنزفهم، والمساهمة في الوصول إلى حلولٍ سلميةٍ تنهي الصراع وتوقف الحروب، وتؤمن حياة السكان برفاهية،  وتساهم في رخاء عيشهم وازدهار اقتصادهم.

 

لو كان الأمر كذلك لهان الأمر كثيراً، وكنا رحبنا بالوافدين والمبتعثين، والطلاب والباحثين، والأساتذة والإعلاميين، وكنا قدمنا لهم كل سبل الراحة، وهيأنا لهم كل وسائل الإقامة الآمنة والعمل الناجح، وفتحنا لهم أبواب بيوتنا ومؤسساتنا، وجامعاتنا ومعاهدنا، وربما كنا ساهمنا معهم في الأبحاث، وسهلنا عليهم جمع البيانات والمعطيات، وتطوعنا معهم في العمل، وكنا سنقيم لهم حفلات تكريمٍ وتقديرٍ، ونوزع عليهم الجوائز والهدايا، تقديراً لجهودهم، وعرفاناً بعطاءاتهم، قبل أن نودعهم بحفاوةٍ شاكرين، وكنا سنعاقب كل من يعترض طريقهم، أو يعطل عملهم، ويتسبب في أي أذى لهم.

 

لكن الحقيقة التي نغفل عنها كثيراً ولا ننتبه إليها دائماً، لطيبةٍ فينا وبساطة، أو لجهالةٍ فينا وسذاجةٍ، أو لخلقٍ فينا وشهامةٍ، أن الكثير ممن يدعون صفات البحث العلمي والدراسة، ويعملون في بلادنا العربية تحت غطاء الصحافة وتقديم المساعدات الخيرية والإنسانية، وينشطون في مجالات الطب والإغاثة، ويجهدون في البحث عن الأدلة والقرائن، ويكتبون في الصحف وينشرون في وسائل الإعلام، ويظهرون لنا حسن نيتهم وصدق طويتهم، يتخذون هذه المهام الإنسانية والمدنية ستاراً لأعمالهم الدنيئة ومهامهم المشبوهة، ويخفون وراءها أهدافاً عدوانية وأنشطة تخريبية.

 

هؤلاء في الأغلب الأعم يعملون جواسيس لصالح العدو الإسرائيلي، وينشطون في المجالات التي تحددها لهم الجهات الأمنية المختصة بأعمالهم والمسؤولة عن مهامهم، وقد اعترف كثيرٌ منهم بالمهام التي قاموا بها، وكتبوا عن أدوارهم التي كلفوا بها، والساحات التي عملوا فيها، وسجلوا نجاحاتٍ كثيرةً، والشواهد على ذلك كثيرة جداً، إذ أن عيوننا لا ترقبهم وحدسنا لا يكشفهم، وقوانين بلادنا العربية الرسمية تحفظهم وتحميهم، وتشجعهم وتغريهم، وتؤمن لهم الغطاء وتحاسب كل من شك فيهم أو اعترض طريقهم.

 

إلا أن المقاومة أخيراً غدت قادرة على التعرف عليهم وفضح مهماتهم والكشف عن هوياتهم، وباتت ترصدهم وتتابعهم، وتشك فيهم وتترصدهم، ولا تثق فيهم ولا تبتعد عنهم، ولا تتردد في إلقاء القبض عليهم واعتقالهم، الأمر الذي جعل من عملهم في بلادنا العربية مغامرة، ودخولهم إلى عواصمنا مجازفة، ولعل قادة الموساد الإسرائيلي باتوا يدركون يقيناً أن عيون المقاومة مفتوحة، وأذانهم صاغية، وذراعهم طويلة، وسواعدهم قوية، وأنهم باتوا يستطيعون التنبؤ والاستدراك، والمبادرة والإحباط، ومنافسة العدو وبزه، والتغلب عليه وفضحه.

 

وقد نجحت قوى المقاومة في كشف الجاسوسة الإسرائيلية اليزابيت تسوركوف واعتقالها، وفضحت أمرها وأظهرت حقيقة مهمتها، علماً أنها ليست الأولى في عالم التجسس والاختراق بحجة البحث العلمي والدراسة، والعمل الصحفي والكتابة، وقد لا تكون الأخيرة، فقد سبقها الكثيرون ممن نجحوا في اختراق عالمنا العربي والإسلامي، والوصول إلى نسيج المقاومة ومؤسساتها التنظيمية وهيئاتها العسكرية.

 

لكن العدو الذي أنكر ابتداءً عملها معه ومسؤوليته عنها، تراجع واعترف، ولان خطابه ورق كلامه وهو يستجدي الدول والحكومات لمساعدته في استنقاذها من أيدي خاطفيها، وتسهيل مغادرتها العراق، حمل الحكومة العراقية المسؤولية عن حياتها، وطالبها عبر الولايات المتحدة الأمريكية بالبحث عنها وكشف مصيرها وحمايتها، وهدد الجهات التي ظن أنها المسؤولة عن اختطافها وإخفائها.

 

الحمد لله أنه كُشف أمرها وفُضحت مهمتها وعُرفت جريمتها، ووقعت في شر أعمالها، واعترف العدو بمسؤوليته عنها، وباتت بين أيدي الشعب العراقي، فلا تأخذكم بها رحمة أو شفقة، ولا ترأفوا بها أو تحزنوا عليها، فقد كانت تنوي إيذاءكم، وكانت تعمل ضدكم، ولا تريد الخير لكم، وقد استغلت طيبتنا وأساءت إلينا، واستظلت بكرمنا وأصيل أخلاقنا، فاستحقت ما نزل بها، فالعدل أن تنال عقابها، وأن تلقى جزاء عملها، لتكون لغيرها عبرة ولمشغليها درساً. 

بيروت في 31/7/2023

moustafa.leddawi@gmail.com

--
You received this message because you are subscribed to the Google Groups "الفكر القومي العربي" group.
To unsubscribe from this group and stop receiving emails from it, send an email to alfikralarabi+unsubscribe@googlegroups.com.
To view this discussion on the web visit https://groups.google.com/d/msgid/alfikralarabi/CA%2Bk3Ojhqikxbu5_%2BKytX4JcmKSbywBPYyhmgxEqnUjR2XDHM3g%40mail.gmail.com.

Saturday, 29 July 2023

{الفكر القومي العربي} الفرح حرامٌ على الفلسطينيين والبهجة ممنوعة عليهم

الفرح حرامٌ على الفلسطينيين والبهجة ممنوعة عليهم

بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي

يستكثر الإسرائيليون على الفلسطينيين فرحهم وسرورهم، ويغتاظون من بهجتهم وسعادتهم، ويشتكون من احتفالاتهم ومهرجاناتهم، ويرفضون كل معاني الفرح ومظاهر البهجة، وأشكال الزينة وألوان الإضاءة، ويطلبون من جيشهم وأجهزتهم الأمنية التنغيص على الفلسطينيين، وخنق الفرحة في صدورهم، وطمس البسمة من على شفاههم، واغتيال إرادة الحياة في قلوبهم، وإطفاء بريق الأمل في عيونهم، وتسميم عيشهم، وتكدير حياتهم، والتضييق عليهم واجتثاثهم من أرضهم، وانتزاعهم من بين أهلهم، وحرمانهم من بعضهم، لتموت في نفوسهم عقيدة الثبات وروح الاستعلاء ويقين البقاء.

 

ويغتاظون من الفلسطينيين في أيام أعيادهم ومناسباتهم الوطنية والدينية، فتغص قلبوهم وتضيق صدورهم وتختنق أرواحهم عند حلول شهر رمضان الفضيل، فيعلنون حكومةً ومستوطنين الاستنفار العام، ويضيقون على الفلسطينيين عيشهم، ويخنقونهم في مناطقهم بالحواجز الأمنية والمداهمات اليومية والاجتياحات المتكررة، ويزجون في مناطقهم المحاصرة بألوية جديدة وكتائب عديدة، تكون مهمتها التشديد على الفلسطينيين، ومنعهم من صلاة العشاء والتراويح في مساجدهم، أو التجمع والاحتشاد في باحاتهم وساحاتهم العامة، وإزالة اليافطات وشطب الشعارات التي تستفزهم وتثير حنقهم.

 

إلا أنهم يغتاظون أكثر من المساجد العامرة، وبيوت الله المأهولة، ومكبرات الصوت التي تصدح بالآذان ونداءات الله أكبر، التي تخترق الآفاق وترتفع نحو الجوزاء، وتتكرر على مسامعهم في اليوم والليلة خمس مراتٍ وأكثر، فترتعد فرائصهم عند سماعها، وترتجف قلوبهم خوفاً منها، ويشعرون وكأنها صيحات الموت يحدق بهم، ووعود الهلاك تتربص بهم، ما يجعلهم يهرعون إلى حكومتهم، ويطالبون جيشهم وأجهزتهم الأمنية، بقطع الكهرباء عن المناطق الفلسطينية، أو إجبارهم على عدم رفع الآذان عبر مكبرات الصوت، والاكتفاء به داخل المساجد، ومعاقبتهم في حال إصرارهم على رفعه، وقد أظهر المستوطنون انزعاجهم الشديد من صوت الآذان، وطالبوا الجيش ومجالس المستوطنات بالعمل على منعه، ذلك أن مستوطناتهم تقع داخل المدن والبلدات الفلسطينية، ما يجعل صوت الآذان قريباً وعالياً.

 

وقبل أيامٍ قليلة ظهرت نتائج امتحانات الثانوية العامة في كل المناطق الفلسطينية، فأظهر الطلاب الناجحون فرحتهم، وعبروا وأهلهم عن سعادتهم، وأطلق بعضهم الرصاص في الهواء فرحاً وابتهاجاً، رغم أن هذه الظاهرة غير مستحبة ومرفوضة، ويدينها الفلسطينيون ويستنكرونها، ويتمنون أن يتخلصوا منها وأن يدخروا الرصاصات العزيزة التي يمتلكونها لمواجهة العدو وقتاله، إلا أن المستوطنين الإسرائيليين اشتكوا إلى حكومتهم وجيشهم، أن مظاهر الاحتفالات تزعجهم، وصوت إطلاق النار يرعبهم، وتمنوا على حكومتهم لو أنها تستطيع إسكات الفلسطينيين وإخماد أصواتهم، ومنعهم من الخروج إلى الشوارع والطرقات وإطلاق العنان لأبواق سيارتهم تعبيراً عن فرحتهم وسعادتهم.

 

لا يريد العدو لشعبنا أن يفرح بعودة غائبيه، ولا بحرية أسراه، ويستنكر احتفاء شعبهم بهم وحسن استقبالهم لهم، ويطالب بفض التجمعات وتفكيك السرادقات والامتناع عن ترديد الشعارات والأهازيج الوطنية، ويرفض دائماً تنظيم جنائز للشهداء، وفتح بيوت العزاء بهم، ولهذا فإنه يحتجز جثامينهم ويرفض تسليمهم، إلا أن يلتزم ذووهم بدفنهم بصمتٍ وهدوء، وبمشاركة محدودةٍ من أهله وعائلته، وهو ما لا يناله أو يحققه، فالشعب الفلسطيني يصر دائماً على وداع شهدائه والعزاء بهم، وليرضى العدو أو يغضب، فهذا عهدهم مع شهدائهم ووفاؤهم معهم الذي لا يتخلون عنه ولا يفرطون فيه.

 

أما أكثر ما يغيظ الإسرائيليين ويقهرهم، ويضاعف غضبهم ويزيد في حنقهم، فهو ابتهاج الفلسطينيين بالعمليات العسكرية الناجحة التي تقوم بها مقاومتهم، وتنجح في قتل بعض المستوطنين وإصابتهم، وتلك التي يبدي فيها المقاومون براعةً واستبسالاً، وقوةً وشجاعةً، ويسجلون فيها ضد العدو نصراً واضحاً، يكشفون بها عيوبه ويفضحون بها عجزه، ويظهرونه مضطرباً يتخبط، وضعيفاً يتعثر.

 

ويغتاظون كثيراً مما لحق بهم وأصابهم، ويحاولون إخفاء نكستهم والتعتيم على خيبتهم، لكن الفلسطينيين يفضحونهم ويهتكون سرهم، ويكشفون حقيقة ما أصابهم، وينشرون الصور والمشاهد التي تكذبهم، ويخرجون إلى الشوارع والطرقات، ويتجمعون في الساحات والباحات، وينادون بمكبرات الصوت الجوالة، وتصدح المساجد بالتهليل والتكبير، ويوزعون السكاكر والحلويات على أنفسهم والمارة، ويتبادلون التهاني والمباركات، فيغضب الإسرائيليون ويجنون، ويصاب مستوطنوهم بالهستيريا والهلع، وتطالب حكومتهم السلطة الفلسطينية وبعض الحكومات العربية، بمنع الفلسطينيين من القيام بهذه المظاهر التي تزعجهم وتغيظهم، وغالباً ما تتدخل الإدارة الأمريكية لدى المسؤولين الفلسطينيين وتضغط عليهم لمحاربة هذه الظواهر والحد منها.

 

كثيرةٌ هي المظاهر والمشاهد التي يرفضها العدو الإسرائيلي ويغتاظ منها، ويحاول محاربتها والحد منها، ويرفع الصوت أمام المجتمع الدولي شاكياً منها ومستنكراً لها، فهو يخشى من مظاهر التيه والفخر والإشادة والتقدير التي يبديها الفلسطينيون تجاه الشهداء وكبار المقاومين، الذين ينفذون عملياتٍ نوعيةً، ويثأرون بأرواحهم لدماء إخوانهم وينتقمون لهم ممن قتلهم واعتدى عليهم، وتزعجه صورهم المرفوعة في الشوارع، وتلك التي تطغى على صفحات الفيس بوك ووسائل التواصل الاجتماعي، ويغيظهم أكثر الأسماء التي يسمي بها الفلسطينيون مواليدهم، التي تطغى عليها أسماء الشهداء وكبار المقاومين.

 

يعرف الفلسطينيون ما يغيظ عدوهم ويزعجه، ويعلمون ما يؤلمه ويوجعه، وما يربكه ويقلقه، وما يخيفه ويرعبه، ويعلمون أن هذه المظاهر هي أحد أشكال المقاومة، التي يحاول العدو وأدها والتخلص منها، لذا فهم يصرون عليها ويتمسكون بها، وسيواصلون العمل بها وتعمد إظهارها، فهم يؤمنون بقول الله عز وجل "قل موتوا بغيظكم"، ويوقنون بأن هذا اليوم الذي يموت فيه العدو غيظاً وكمداً سيأتي لا محالة، مهما حاول أن يؤخره بظلمه وعدوانه، وبطشه وإرهابه، فهذا الشعب الذي يقبض على الجمر والواثق بالنصر سيبقى يفرح  ويبتهج، ويشيد بالمقاومة ويحتفي بالأبطال، ويستبشر بالغد ويترقب الوعد.

 

بيروت في 29/7/2023

moustafa.leddawi@gmail.com

--
You received this message because you are subscribed to the Google Groups "الفكر القومي العربي" group.
To unsubscribe from this group and stop receiving emails from it, send an email to alfikralarabi+unsubscribe@googlegroups.com.
To view this discussion on the web visit https://groups.google.com/d/msgid/alfikralarabi/CA%2Bk3OjisbrnNf3oXQxHpd%2BYKtdd2-ZqyR99vCKJ8Do8iFpHYXg%40mail.gmail.com.

Monday, 10 July 2023

{الفكر القومي العربي} جولةُ السفراء في جنين طبخةُ بحص أم خطةُ عمل

جولةُ السفراء في جنين طبخةُ بحص أم خطةُ عمل

بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي

ليست المرة الأولى التي ينظم فيها بعض سفراء الدول الأوروبية وغيرها جولةً على المناطق الفلسطينية المنكوبة جراء العدوان الإسرائيلي عليها، الذي يخلف وراءه دماراً واسعاً وخراباً كبيراً، فقد اعتادوا بعد كل اجتياحٍ أو قصفٍ على تنظيم جولاتٍ ميدانية، يطوفون فيها على المدن والبلدات والمخيمات الفلسطينية المتضررة، ويصطحبون معهم وسائل إعلامية محلية وعالمية، ومندوبين عن مؤسساتٍ دولية وهيئات رقابةٍ أممية، إلا أنهم لا يصدرون مواقف إعلامية، ولا ينددون بالممارسات الإسرائيلية، ولا يستنكرون عدوانهم، ولا يحملون سلطات الاحتلال المسؤولية عما أصاب المناطق الفلسطينية وأهلها، ويكتفون –كما يقولون- برفع تقارير خاصة إلى مرجعياتهم في بلادهم، التي تقوم بتقدير الموقف واتخاذ القرارات المناسبة.

 

وقد سبق لهم القيام بجولةٍ واسعة على بلدة حواره في نابلس، بعد قيام قطعان المستوطنين باجتياحها وإشعال النار في بيوتها وسيارات أهلها، وحرق أشجار البلدة وإتلاف حقولها ومحاصيلها، وإحداث دمار مهولٍ فيها، وقد قدرت الخسائر المادية في حينها بأكثر من مائة مليون دولار، وأعلن السفراء خلال جولتهم أن ما رأوه جريمةً ضد الإنسانية، ودعوا حكومات بلادهم إلى اتخاذ مواقف صارمة، وتوجيه تحذيرات وإنذارات مباشرة إلى الحكومة الإسرائيلية، التي تسمح للمستوطنين بالعبث والتخريب، وتقوم بحمايتهم والدفاع عنهم، ولا تحاول منعهم أو صدهم ومواجهتهم كما تفعل مع الفلسطينيين، الذين تستخدم ضدهم القوة المفرطة وتتعامل معهم بخشونةٍ كبيرة، بينما تكون لطيفة مع المستوطنين وتسكت عن جرائمهم وتقوم بحمايتهم.

 

كانت زيارة مخيم جنين بعد العدوان الإسرائيلي الأخير عليه، هي آخر الجولات التي قام بها سفراء بعض الدول المعتمدين لدى الكيان الصهيوني، وكان قد سبق لهم زيارة المخيم نفسه أكثر من مرةٍ، كما زاروا مخيم بلاطة ومدينة نابلس، وهما إلى جانب مخيم جنين من أكثر المناطق الفلسطينية تضرراً، التي تتعرض دائماً لعمليات اجتياح ومداهمة، وقد رأوا عياناً حجم الدمار الذي خلفته قوات الاحتلال في المخيم، الذي تعرض للقصف من الجو بواسطة الطائرات الطوافة والمسيرة، واستمعوا إلى شهادات السكان وشكوى المواطنين الفلسطينيين وجلهم من اللاجئين، الذين أجبر عددٌ كبير منهم على مغادرة المخيم، ولمس السفراء حجم المعاناة الإنسانية التي يكابدها ويعاني منها سكان المخيم.

 

من المؤكد أن سلطات الاحتلال الإسرائيلي غير راضيةٍ عن جولة السفراء، ولا تريد أي تعاطفٍ منهم مع الفلسطينيين، ولا تتمنى أن تصدر منهم مواقف تدينها وتحملها المسؤولية عما يتعرض له الفلسطينيون، أو تستنكر عمليات الجيش والأجهزة الأمنية في المناطق الفلسطينية، وهي تحاول دائماً عرقلة جولاتهم، ولا تمنحهم الإذن بالقيام بها بسهولة، وتتذرع دائماً بخطورة الأوضاع الأمنية، وأنها تخشى على حياتهم وسلامتهم الشخصية، إلا أنها تخضع غالباً لرغبة السفراء الذين يتمتعون بالحصانة ولديهم بعض السيادة التي توفرها لهم القوانين الدبلوماسية المعمول بها والمتعارف عليها.

 

بالمقابل تلجأ قوات الاحتلال الإسرائيلي إلى القيام بجولاتٍ معاكسة، تقوم بتنظيمها وزارة خارجية الكيان، بالتعاون مع الأجهزة الأمنية والمؤسسات الإعلامية، وتدعو إليها سفراء الدول الأجنبية لزيارة مستوطنات الغلاف والاستماع إلى شكاوى المستوطنين، والوقوف على ظروفهم الأمنية والتعرف على حالتهم النفسية، وتوظف مع الجولة فريقاً كبيراً من المرافقين الإعلاميين والأمنيين، الذين يوجهونهم ويسهلون تعميم ونشر مواقفهم، خاصةً تلك التي تبرز مواقفهم الإنسانية المؤيدة للمستوطنين، وتلك التي تتفهم السياسات والمخاوف الإسرائيلية بسبب التهديدات الفلسطينية لهم.

 

لا يبدو أن جولات السفراء المتعددة على المناطق الفلسطينية المنكوبة تجدي نفعاً، أو تثمر عن مواقف دولية صارمة ضد الحكومة الإسرائيلية، بدليل أن الجرائم الإسرائيلية تتكرر بصورة بشبه يومية، واعتداءات المستوطنين الإسرائيليين لا تنتهي ولا تتوقف، بل أصبحت تتزايد بصورةٍ لافتةٍ وتنتقل من منطقة إلى أخرى، كما أن حملات سلطات الاحتلال الأمنية والعسكرية لا تتوقف، بل تتواصل وتشتد، وتوغل أكثر في الدماء الفلسطينية، وتتمادى في سياسات الاعتقال والقتل والاغتيال والحصار والتضييق والهدم والمصادرة.

 

إلا أنه ينبغي عدم التقليل من هذه الجولات أو الاستخفاف بها، بل يجب العمل على تنظيم المزيد منها، وتفعليها واقتراح البرامج لها، وتسهيل جولاتها وتنظيم اللقاءات الشعبية لها، وتوفير الصور والوثائق الشواهد التي تؤيد الرواية الفلسطينية وتدعمها، فهذه الجولات وإن كانت تبدو منحازة وغير منصفة، وتوالي العدو وتحابيه، وتؤيده وتتفهم مخاوفه، وقد لا يكون جدوى منها ولا خطة عمل ترتجى منها، إلا أنها أحياناً إزاء حجم وفداحة العدوان الإسرائيلي، لا تملك إلا أن تقف مع الشعب الفلسطيني، وتتعاطف معه وتؤيده في مواقفه، وتحمل الحكومة الإسرائيلية المسؤولية عن سياساتها وسلوكيات مستوطنيها الموغلة في التطرف والعنصرية.

 

وهو ما يغيظ الإسرائيليين ويزعجهم، ويفضح سياساتهم ويحرجهم، وقد سبق لهم أن قاموا باستدعاء عددٍ من سفراء بعض الدول الأجنبية المعتمدين لديهم، وسلموهم مذكرات استنكار وشجب لمواقفهم وتصريحاتهم التي يرونها تسيء إليهم وتحملهم المسؤولية عما يلحق بالفلسطينيين من أذى، ولعلنا نستطيع البناء على مواقف بعض الدول الأوروبية التي يبدو أنها تستطيع الخروج ولو نسبياً عن النمط القديم والإطار الأمريكي الغاشم الظالم المنحاز ظلماً للكيان الصهيوني.

بيروت في 10/6/2023

moustafa.leddawi@gmail.com

--
You received this message because you are subscribed to the Google Groups "الفكر القومي العربي" group.
To unsubscribe from this group and stop receiving emails from it, send an email to alfikralarabi+unsubscribe@googlegroups.com.
To view this discussion on the web visit https://groups.google.com/d/msgid/alfikralarabi/CA%2Bk3Ojh%3DpvKz4sVEgOpvbueMW%3DDO2KDP5Y0_DAW8p1Ac2aZ6FQ%40mail.gmail.com.

Wednesday, 5 July 2023

{الفكر القومي العربي} اليوم التالي لانتهاء العدوان الإسرائيلي على مخيم جنين

اليوم التالي لانتهاء العدوان الإسرائيلي على مخيم جنين

بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي

ربما كان الفلسطينيون يعلمون أن العدو الإسرائيلي سيوقف حملته العسكرية على مخيم جنين، وأنه لن يستطيع الانتظار طويلاً والاستمرار في مواجهة قوى المقاومة في المخيم، والصمود أمام مقاتلين صناديد هيأوا أنفسهم للمقاومة ونذروا أرواحهم للشهادة، وأعدوا ما استطاعوا من قوةٍ وسلاحٍ لمواجهته والتصدي له، وأنه سيجد نفسه مضطراً للخروج منه وسحب جميع قواته من أرجائه قبل أن يجد نفسه مضطراً للموافقة على هدنةٍ من الطرفين، ومناشدة القوى الدولية والإقليمية للتوصل إلى وقفٍ لإطلاق النار، والقبول بشروط المقاومة لوقف العمليات العسكرية بينهما، تماماً كما يحدث معه غالباً في قطاع غزة، التي تنهي عدوانه بإخضاعه إلى شروطها وإلزامه بضوابطها.

 

انسحبت قوات العدو من مخيم جنين ومحيطه، وأثناء انسحابها حاولت الاعتداء على مناطق مختلفة من مدينة جنين، وكأنها تحاول أن تسري عن نفسها عما أصابها ولحق بها، وتوهم نفسها بالقوة والغلبة، وتستدرك بعض ما فاتها، وتحقق شيئاً من أهدافها الوهمية التي تتشدق بها، لكن قيادتها كانت تعلم أنها تخرج من المخيم وهي تجر أذيال الخيبة، وتغطي وجهها خجلاً من نفسها، وهروباً من عيون مستوطنيهم، الذين أدركوا أنهم أصبحوا في وضعٍ أخطر مما كانوا عليه من قبل، فجيش كيانهم لم يتمكن من تحقيق أهدافه التي كان يرجو منها تأمين مستوطنيه، وبينما كان يقوم بعدوانه على المخيم، قام فدائيٌ بطل من مدينة خليل الرحمن متنكراً ببزةٍ عسكريةٍ إسرائيلية، بالانتقام لأهله في مخيم جنين، فأصاب عشرة مستوطنين بجراحٍ مختلفة، قد نسمع بموت بعضهم قريباً.

 

خرج جيش العدو من المخيم، تاركاً وراءه بيوتاً مهدمة، وجدراناً منقبة، وشوارع محفورة، وسياراتٍ محطمة، ومباني مدمرة، وأسراً مشردة، ومستشفياتٍ معطلة، ورجالاً وسيارات إسعافٍ ورجال دفاعٍ مدني معتدى عليهم، واثني عشر شهيداً نصفهم من الأطفال، وأكثر من 150 جريحاً، جراح عشرين منهم حرجة، وحالة دمارٍ شبه كاملٍ في أزقة وشوارع المخيم، سببتها أكثر من مائتي آلية عسكرية إسرائيلية، تتقدمها جرافاتٌ ضخمةٌ وعربات نقل جندٍ مصفحةٍ، وآلياتٌ ثقيلة كاسحة للألغام وأخرى مضادة للعبوات والمتفجرات الجانبية والمزروعة في الطرق والشوارع التي تعبرها آليات جيش الاحتلال.

 

انسحب جيش العدو من المخيم فخرج مئات المقاتلين الفلسطينيين من مكامنهم، وانتشروا في الشوارع والطرقات، وصعدوا على أسطح المنازل وخرجوا من أزقة المخيم، وهم يحملون أسلحتهم التي قاتلوا بها وصمدوا، ويرفعون رؤوسهم عاليةً التي لم تتطأطأ، ويتبخترون بتواضعٍ أمام أهلهم وحاضنتهم الكريمة، وبكبرياء في مواجهة عدوهم اللئيم، وهم يقولون لأهلهم بكل الحب والولاء، ها نحن أولاء معكم أرواحنا المعنوية عالية، ونفوسنا مطمئنة، وأسلحتنا جاهزة وإرادتنا صلبة، بينما يقولون لعدوهم بكل قوةٍ وعزمٍ، ورباطة جأشٍ وثبات، أن إياك أن تفكر بالعودة من جديد، فنحن لكم هنا بالمرصاد، ومن أفلت منا هذه المرة فإنه لن يفلت في المرة القادمة، ومن نجا من بأسنا هذه المرة ورأى ما رأى، فلا نظن أنه سيعاود الكرة من جديد ويغامر بحياته معنا.

 

خرج جنود الاحتلال من المخيم وهم يتعثرون في خطواتهم، ويتحصنون في عرباتهم، ويتقدمون كراديس ومجموعات مسربلة بالخزي والعار، تحميهم العربات المصفحة والجرافات، وتحلق فوق رؤوسهم الطائرات والمسيرات، وهم يعلمون يقيناً أن المقاومة الفلسطينية ستنبعث من تحت الركام الذي خلفوه وراءهم، وأنها ستلاحقهم وستنال منهم، وستكون أقوى مما كانت عليه وأشرس، وستعود من جديد تنظم الكتائب وترسل السرايا، وتبعث المقاومين وتجهز المقاتلين، وتؤوي المناضلين وتحميهم، وتكون ملاذهم وحصنهم، فهذا العدوان لم يكسر ظهرهم، ولم يوهن عزيمتهم، ولن يضعف إرادتهم، بل إنه يشحذ هممهم ويوقد نار ثأرهم ولهيب انتقامهم، وقد ذاق العدو طرفاً من غضبهم وبعضاً من غيرة أهلهم عليهم وتضامنهم معهم.

 

صبيحة الانسحاب الإسرائيلي الذليل من مخيم جنين كان صباح عزةٍ وكرامةٍ للفلسطينيين والعرب في كل مكان، فقد رفعت المقاومة رؤوسهم، وبيضت وجوههم، وأظهرت عزتهم، وأكدت لهم أنها بخير، وأن العدو لن ينال منهم ولن ينتصر عليهم، ولم يحقق شيئاً مما ادعى تحقيقه، فلا هو استطاع الوصول إلى معامل إعداد المتفجرات وصناعة الأسلحة، ولا تمكن من القضاء على البنى العسكرية للقوى والفصائل المقاتلة، وقد عجز عن تفكيك مجموعاتهم ونزع أسلحتهم، وبقيت جنين ومخيمها حصناً وقلعةً ودرعاً وسنداً، يلجأ إليها المقاومون، وينطلق منها المقاتلون، فابتهج الفلسطينيون في الوطن وخرجوا في مسيراتٍ حاشدةٍ في مدنهم وبلداتهم، وأطلقوا العنان لمكبرات الصوت في مساجدهم تهلل وتكبر فرحاً وابتهاجاً، كما فرح المتضامنون العرب والمسلمون مع أهلهم الفلسطينيين في بلادنا العربية وفي شتات الأرض ومغترباتهم كلها.

 

لن يكون هذا اليوم هو اليوم التالي الوحيد أو الصباح اليتيم الذي يحتفي به الفلسطينيون وتبتهج له أمتنا العربية والإسلامية، بل سيكون قريباً بإذن الله صباحٌ آخر ويومٌ تالي جديد، صباحٌ يسوء فيه وجه العدو ويشرق به وجه كل عربيٍ وفلسطيني، يوم أن يندحر العدو ويتفكك كيانه، ويرحل مستوطنوه ويزول وجوده، وهذا يومٌ لم نعد نراه بعيداً أو مستحيلاً، بل بتنا إليه أقرب وبه أكثر يقيناً وإيماناً، وحينها سنستعيد أرضنا ونحرر وطننا ونطهر مقدساتنا، ويومها سيسود الفرح وسيعم السلام وستعلو رايات المحبة وقيم العدل وقواعد الحق الأصيل.

 

سلاماً لجنين وأهلها، وألف تحيةٍ لفلسطين ومقاوميها، وشكراً للمتضامنين معهم والمساندين لهم، وإننا وإياهم لعلى موعدٍ مع النصر القريب بإذن الله.

 

بيروت في 5/7/2023

moustafa.leddawi@gmail.com

--
You received this message because you are subscribed to the Google Groups "الفكر القومي العربي" group.
To unsubscribe from this group and stop receiving emails from it, send an email to alfikralarabi+unsubscribe@googlegroups.com.
To view this discussion on the web visit https://groups.google.com/d/msgid/alfikralarabi/CA%2Bk3Ojj%3D8OPcpi7nBuaTcXPaqYY%2BCkoeRPV8opxzQoMmuu%2BTfg%40mail.gmail.com.

Tuesday, 4 July 2023

{الفكر القومي العربي} مخيمُ جنين صداعٌ مزمنٌ وكابوسٌ مرعبٌ

مخيمُ جنين صداعٌ مزمنٌ وكابوسٌ مرعبٌ

بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي

إنها حالة الكيان الصهيوني مع جنين ومخيمها منذ أكثر من عشرين عاماً، فهو لا ينفك يعاني من شمال الضفة الغربية عموماً ومن جنين خصوصاً، التي أضنته وأتعبته، وآلمته وأوجعته، وقتلت جنوده وفجرت عرباته، وكسرت أنفه وحطمت كبرياءه، وصمدت في وجهه وقاومت عدوانه، وضمدت جراحها وعمقت جراحه، وصبرت على تضحياتها وكبدته أثماناً أرهقته، واستقطبت المقاومين وأقلقته، وآوتهم وحمتهم، وكانت حاضنتهم وحصنهم، وقلعتهم التي فيها يقاتلون وإليها يلجأون، وجعلت كتيبتها وهي الأولى عنواناً للمقاومة ورمزاً للصمود، فاحتذت بها غيرها، وقلدتها مدن الضفة ومخيماتها، ونسقت معها وتعاونت، ونافستها وساعدتها، وخففت عنها وساندتها.

 

لم تتوقف سلطات الاحتلال الإسرائيلي يوماً عن التفكير في معاقبة مخيم جنين وتأديب أهله، وتفكيك خلاياه العسكرية وبنيته التنظيمية، واعتقال مقاوميه أو قتلهم، ونزع سلاحهم وفض الناس من حولهم، وعزلهم عن بيئتهم وحرمانهم من حاضنتهم، فقد أعياه المخيم كثيراً وأعجزه، وسبب له صداعاً مزمناً عانى منه طويلاً وشكى منه أكثر، وتمنى أن يخلص منه وينجو من براثنه، وقد حاول كثيراً تحقيق حلمه وتسكين جراحه، فاجتاح المخيم مراراً ونجح في اعتقال بعض المقاومين وقتل آخرين، ودمر بيوتهم وعاقب أهلهم، لكن المخيم بقي عصياً متمرداً، قوياً شامخاً، يقاتل بكبرياء، ويصمد بشمم، ويرسل مقاوميه إلى كل مكان يباغتون العدو ويهاجمونه وينالون منه ويؤلمونه، كما أصبح ملجأ المقاومين وملاذهم، وحصنهم الذي يلوذون إليه ويحتمون فيه.

 

لكن صداع الاحتلال قد تفاقم واشتد، وكثرت نوباته وطالت فتراته، وتعذر علاجه وفشل في السيطرة عليه، وخشي أن يتحول مخيم جنين مع الأيام إلى كابوسٍ يرعبهم وموتٍ يلاحقهم، وأن يتحرر من قيوده وينتصر على الحصار، ويقوى أكثر ويتسلح، وتنتقل عدواه وتنتشر بين الفلسطينيين تجربته، ويصبح مثل قطاع غزة في الجنوب، بعد أن أصبح مقاوموه يفكرون في صناعة الصواريخ ونصب المنصات واستهداف المسيرات وتفجير العبوات، وإن تجاوزت جنين ومخيمها العتبات الأمنية والعسكرية التي تعترضها، فإنها ستكون أخطر عليه من قطاع غزة، فهي تقع في القلب وتجاور المدن والمستوطنات الإسرائيلية، ويقع مخيمها قريباً من حيفا ومن جبال الكرمل التي ينتمي الكثير من سكانه إليها ويتطلعون إلى العودة إليها.

 

تقل مساحة مخيم جنين الذي بني في العام 1953 عن نصف كيلو متر مربع، ويسكن فيه قرابة 27 ألف فلسطيني، ويعتبر ثاني أكبر المخيمات الفلسطينية في الضفة الغربية بعد مخيم بلاطة في نابلس، إلا أن هذا المخيم الصغير الذي ينتمي إلى مدينة جنين القسام وفرحان السعدي، ويحتضن أجساد الشهداء العراقيين الذين استبسلوا في الدفاع عن المدينة، ورث عنهم وعن أجداده وعن عز الدين القسام الذي استشهد فيها، والأبطال الذين قاوموا معه وقاتلوا واستشهدوا، معاني القوة والعزة والكرامة، فعزمت المدينة ومخيمها على مواصلة الطريق ومتابعة النهج المقاوم، وراكمت القوة وجهزت المقاتلين، وأسست الكتائب وخاضت المعارك، وأرسلت المدد أفواجاً والمقاومين تباعاً إلى عمق فلسطين وأطرافها.

 

هذا المخيم الصغير مساحةً والقليل سكاناً والعظيم إرثاً والتليد مجداً، تجتاحه قوات الاحتلال الإسرائيلي للمرة الثانية بأكثر من 1200 جندي وضابط، معززين بالطائرات الحربية والطوافة والمسيرة، والدبابات والعربات المجنزرة وناقلات الجند، والجرافات الضخمة وكاسحات الألغام الثقيلة، وتقدم لهم العون والمساعدة الفنية والتقنية والمادية أجهزة التصوير والمتابعة الجوية الدقيقة، التي ترسل الصور، وتحدد الاحداثيات وتوجه الجنود وتضبط المواقيت وساعات الهجوم والمباغتة، والقصف والاقتحام وغير ذلك مما يجعل مهمة الجنود المحصنين في عرباتهم، والمحميين خلف جرافاتهم، سهلة وميسرة وبعيدة عن المغامرة ودفع الكلفة.

 

إلا أن المخيم الذي جمع السلاح وأعد القوة، ودرب الرجال واستعد للمواجهة، قرر الصمود في وجه العدوان الإسرائيلي الواسع للمرة الثانية، غير آبهٍ بقوة العدو وآلياته، ولا بسلاحه وعتاده، وتصريحاته وتهديداته، فهو يعلم أن العدو يشكو منه ولا يستطيع التخلص منه، ويعاني منه ولا يستطيع الانتصار عليه، ولو أنه كان يستطيع ذلك ما كرر عدوانه للمرة الثانية بعد عشرين عاماً على عدوانه الأول، الذي دمر فيه المخيم وجعل بيوته ومنازله ركاماً وشوارعه حفراً وأخاديدَ، إلا أن المخيم خرج من تحت الرماد واتقدت جمرته واشتعلت، رغم أن العدو لم يتوقف على مدى السنوات الماضية كلها، الفاصلة بين الحملتين العسكريتين الكبيرتين، عن عمليات الاجتياح والمداهمة والقتل والتصفية والإعدام والهدم والنسف والتخريب.

 

قد ينجح العدو في تحقيق بعض الأهداف التي أعلن عنها، كمداهمة معامل تصنيع العبوات الناسفة، وقتل واعتقال بعض المقاومين، وتخريب المخيم وهدم بيوته وطرد وتهجير أهله، لكنه يعلم يقيناً أنه لن يتمكن من إخماد نار المقاومة أو إطفاء جذوتها، ولن يتمكن من كي وعي سكانه والفلسطينيين عموماً، ولن يستطيع أن يخدع نفسه طويلاً وينام ملء جفنيه مطمئناً.

 

سيبقى العدو يشكو من الصداع، وسيستمر ألمه ووجعه، وستقفز صورة غزة في وجهه كالكابوس المرعب، وهي التي شن عليها أكثر من خمسة عشر حرباً ومعركة، وحاصرها سنين طويلة وعاقبها، إلا أنها نهضت وتعافت، ووقفت على أقدامها وواجهت، وتصدت لكل التحديات وانتصرت على كل الصعاب، حتى غدت رعباً يخيفه وكابوساً يلاحقه، يحرمه النوم وينغص عليه عيشه، وكذا ستكون جنين ومخيمها، وكل مدن فلسطين وبلداتها، الذين يتجهزون ليوم الحرب الأخيرة والمعركة الخاتم، التي نستبشر بها ونتوق إليها ويخشاها العدو ويحسب حسابها، فلا يحلمن أبداً بكسر شوكتها ولا بِكَيِّ وعيها وَوَهْيِّ عزيمتها وَلَيِّ عنقها.

 

بيروت في 4/7/2023

moustafa.leddawi@gmail.com

--
You received this message because you are subscribed to the Google Groups "الفكر القومي العربي" group.
To unsubscribe from this group and stop receiving emails from it, send an email to alfikralarabi+unsubscribe@googlegroups.com.
To view this discussion on the web visit https://groups.google.com/d/msgid/alfikralarabi/CA%2Bk3OjjwmfYyMKCLgD51H8k0O%3DPd6Pm%3DEiDL4FRge88s30k%3DvQ%40mail.gmail.com.

Sunday, 2 July 2023

{الفكر القومي العربي} ساريةُ المقاومة خيمةٌ وعمادُها قوةٌ ورمزها وطنٌ

ساريةُ المقاومة خيمةٌ وعمادُها قوةٌ ورمزها وطنٌ

بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي

عندما تكون سارية الخيمة عاليةٌ وعمادها متينة وأوتادُها قوية وجلودُها سميكة وأوبارها كثيفة، وبناتها مهرةٌ، ونُصَّابُها أصحاب تجربة وأهل خبرة، وحراسها فرسانٌ ذوو شهامةٍ ونخوة، لا تهزها الرياح، ولا تسقطها العواصف، ولا تجرفها السيول، ولا تحرقها النار، ولا يشعر سكانها بالبرد، ولا يشكو من يأوي إليها من القيظ، ولا يجوع من لجأ إليها، بل يأمنُ من دخلها، وينام ملء جفنيه من قضى ليله فيها، ويشبع ملء ماضغيه من أكل فيها، ويستمتع السامرون فيها، وترتفع عقيرتهم بأغاني وأهازيج شعبية، وتطرب آذانهم بجميل الشعر وبديع النثر، ويرفع سيدها رأسه فيها عالياً، يباهي كل من حوله وينظر إليه أنه السيد المطاع والبطل المهاب، صاحب الكلمة الأولى واليد العليا، الحصيف الرأي السديد القول، الحكم الفصل إذا أمر أو نهى.

 

تلك هي خيمة المقاومة الإسلامية في لبنان، العالية العماد، السامقة السارية، العميقة الأوتاد، الوارفة الظلال، المتينة البناء، المطلة على السماء، القوية السلاح، الحصينة الجدران، المحمية بالرجال، والمصانة بالوعد، والمخيفة بالرد، التي لا يقوى العدو على المساس بها أو الاعتداء إليها، ولا يستطيع هدمها أو إنزال ساريتها، ولا يقوى على التهديد بتقويضها أو التلويح بحرقها، بل إنه يخشى الاقتراب منها أو التحريض عليها، وينأى بنفسه عن تهديد أصحابها أو ترويع أهلها، ويبرأ من كل عملٍ أو تصريحٍ يُساءُ فهمه أو يخطئ البعض في تفسيره، فهو يخشى المواجهة ويخاف من ردة الفعل، ويحسب ألف حسابٍ لمن أمر ببنائها وأكد على بقائها.

 

إنها الخيمة الرابضة على أرض جنوب لبنان، والمنصوبة فوق ترابه الوطني، والمتشامخة في سمائه بكبرياء، والمتعالية على حدوده بعزةٍ، التي بنتها المقاومة الإسلامية في وضح النهار، وتحدت بها العدو الإسرائيلي أن يمسها أو يحاول الاقتراب منها، فهي مشادةٌ على أرضهم السيادية، وداخل حدود بلادهم الوطنية، وبإرادة أبنائهم الأحرار، فلا يحق للعدو أن يتدخل فيها أو أن يعترض عليها، وعليه أن يكف عن الشكوى والأنين، ورفع الصوت والجأر بالصراخ، وطلب الوساطة ومناشدة الآخرين، فإن هذه الخيمة ما نصبت لتقوض، وما رفع عمادها لتسقط، وما بنتها المقاومة لتفككها، مهما هدد العدو وتوعد، أو أرغى وأزبد.

 

أدرك العدو الإسرائيلي أنه وقع في مأزقٍ خطيرٍ، وبات محشوراً في زاويةٍ ضيقةٍ، وبدا كفأرٍ يتخبط في المصيدة، وقد حارت به السبل وضاقت عليه الدنيا، وعجزت قوته عن تحقيق أهدافه وإرهاب أعدائه، وبات لزاماً عليه أن يجد حلاً ينقذ به نفسه، ويمكنه من حفظ ماء وجهه والنزول من على الشجرة التي صعد إليها بغباء، ولجأ إليها بغطرسةٍ وكبرياء، حتى بات ينشد حلاً من كل الوسطاء، ويبحث عن طوق النجاة عند كل الفرقاء، فقد غدا كمن يبلع السكين، فلا هو يستطيع إزالة الخيمة بنفسه، ولا يقوى على إجبار المقاومة على تفكيكها، وهو بين المستحيلين حائرٌ، وبين الحلين المعدومين خاسرٌ.

 

بالمقابل يشعر اللبنانيون بالنشوة والفرح والبهجة والسعادة، وتتشامخ رؤوسهم عزةً وكرامةً، وتعلو أصواتهم تيهاً وفخراً، فقد كشفوا بما قاموا به عجز العدو وأظهروا ضعفه، وأكدوا له ولمن يتحالف معه، أنها أرضهم اللبنانية وسيادتهم الوطنية، وأن أحداً لا يستطيع منعهم من بسط سيادتهم على ترابهم الوطني، فهذا حقهم المشروع الذي تحفظه القوانين وتصونه الشرائع وتؤكد عليه كل المواثيق الدولية، وسيخطئ العدو إن لجأ إلى القوة، واستهان بالمقاومة وغامر، حينها سيكون ثمن المغامرة كبيراً، وسيكون الرد عليها صاعقاً وسريعاً، فقد وعدت المقاومة أنها سترد على أي اعتداء على أرضها، وستواجه العدو بالقوة نفسها.

 

تلك هي معايير القوة ومعادلات الردع، ومصداقية الرد والوفاء بالوعد، التي بات العدو يدركها ويخشى منها، فلولا القوة التي تملكها المقاومة، والحزم الذي تبديه، والجاهزية التي لا تخفيها، والقدرة لا يشك فيها، لما تمكنت من القيام بما قامت به، فهي تعرف نفسها، وتدرك قدراتها، وتفهم عدوها، وتدرس مواقفه، وقد حددت هدفها ورسمت مسارها، وعلمت يقيناً أن الزمن الذي كان فيه العدو يخيف ويرعب، ويغير ويقصف، ويستخدم ذراعه الطويلة في تأديب الدول العربية وتدمير مرافقها ومنشأتها، وتسكت عنه وتصمت، وتعجز عن الرد عليه وتخاف من التهديد، قد ولى وأصبح من الماضي، وبات يحسب كل خطواته بدقةٍ، ويخشى من تصريحات قادته ومسؤوليه، التي قد تورطه وتكلفه وتسيء إليه ولا تنفعه.

 

ما أجمل الحق عندما تصونه القوة وتحفظه الكرامة، وتردع عنه الأطماع السيوفُ، وتصد عنه الأعداء المنعةُ، وتعلي أسواره الإرادة، ولولاها لوأد العدو الحق كما قتل في تاريخه رسل الحق وأنبياء السلام، ولطغوا في الأرض وبغوا وأكثروا فيها الفساد، لكن المقاومة العزيزة قالت كلمتها، وأعلنت موقفها، وقالت له ولحلفائه معه، إنها ليست مجرد خيمةً، وليست بيتاً من الشعر نصبته، بل هي عنوان للسيادة ورمز للوطن، وهي رايةٌ وعلمٌ، وجبينٌ وشامةٌ، وقدسٌ وحرمٌ، فألف تحيةٍ لصناع الكرامة وحراس المجد.

 

بيروت في 2/7/2023

moustafa.leddawi@gmail.com

--
You received this message because you are subscribed to the Google Groups "الفكر القومي العربي" group.
To unsubscribe from this group and stop receiving emails from it, send an email to alfikralarabi+unsubscribe@googlegroups.com.
To view this discussion on the web visit https://groups.google.com/d/msgid/alfikralarabi/CA%2Bk3OjgNNRNCz-z_BJCvoLZMw5ZLYiUs_RWFaAvjbmpi%3D4HkzQ%40mail.gmail.com.