-
From: shawki akl <shawki2375@yahoo.com>
From: shawki akl <shawki2375@yahoo.com>
النيران الزرقاء (إلى جيكا ومحمد الجندي ومحمد كريستي وسيد خالد، ولألاف استشهدوا مثلهم) تقول القصة: عاشت قبيلة مسالمة سعيدة في أرض مليئة بالخيرات وطبيعة فياضة معطاء، ارض سهلية تحوطها من ثلاث جهات غابات كثيفة لاينجو منها احد اذا دخلها، حتى غزتها قبيلة مقاتلة شرسة وطردتها من أرضها، لم تجد القبيلة سوى الفرار إلى الغابة المظلمة المليئة بالأفاعي والمستنقعات والحشرات والأشجار العالية الحاجبة لأشعة الشمس والهواء النقي، جاهد الناس وسط المستنقعات دون جدوى، كانوا يسقطون قتلى الأمراض والروائح السامة، مرت الأيام وهم وسط هذا البؤس والقسوة حتى نمت بينهم فكرة خافتة خجولة أول الأمر لم تلبث أن علت بها الأصوات تنادي بالعودة وتقديم حريتهم للعدو مقابل حياتهم، اصبحت العبودية لديهم ارحم من الموت، ولكن "دانكو" الشاب الوسيم الجريء ظهر وأنقذ الجميع، قال لهم دانكو: - لكل شيء في الدنيا نهاية ، ولهذه الغابة نهاية أيضا! نظروا اليه فرأوا عيناه تبعثان عزيمة وقوة، رأوا فيها النار تتقد. آمنوا به وساروا خلفه زمنا دون أن يبدو في الأفق نهاية لكل هذا الألم، والضحايا يتساقطون والنساء تبكي احبائها.. في ليلة ماطرة عاصفة حالكة الظلمة اشتدت فيها قسوة الغابة ولم يتوقف فيها المطر والبروق، أيقنوا أن لا فائدة، أصابهم اليأس، لم يستطيعوا المضي خلفه. التفتوا إلى قائدهم، حاكموه واتهموه بأنه السبب فيما هم فيه، قرروا قتله. نظر إليهم وهم متحلقين حوله، التهبت روحه من الغضب منهم ومن الاشفاق عليهم، ولكن محبته لهم أشعلت قلبه بالخوف عليهم، لأنهم سيهلكون بدونه، وفجأة شق صدره بيديه وأنتزع منه قلبه، ورفعه فوق رأسه عاليا! سطع القلب كسطوع الشمس، بقوة المحبة العظيمة للناس. صعقوا وهم يرون النور الهادي ينبعث من قلبه المحترق بنيران زرقاء، مضوا خلفه وقد أنيرت الغابة المظلمة، لم يوقفهم الموت والمستنقعات ولدغ الأفاعي، حتى أنفرجت الغابة أمامهم عن بحر من ضوء الشمس الغامر والهواء النقي المندى بقطرات المطر المنعش. سقط دانكو ميتا بعد أن ألقى نظرة فخور فرحة على الأرض الفسيحة وعلى قومه الذين أصبحوا احرارا، لم ينطفئ قلبه بعدها أبدا، في كل مساء كانت الشرارات الزرقاء المنبعثة من قلبه الفخور تضيء الأفق، فتحكي القبيلة عنه، لا تنساه. كنت اقرأ هذه القصة وأنا بعد صغير فتلتهب مشاعري، أتخيل دانكو فأرى الفارس المحب الفخور المحلق عاليا. وكانت مصر تمضي ابعد فأبعد في أعماق مستنقع الفساد والضعف والذل، وشيئا فشيئا يختفي "دانكو" بعيدا في زاويا باردة مظلمة مع بقية أحلامنا بالخلاص والحرية، وتتآكل أراوحنا تحت سحابة ثقيلة سوداء، وهواء خانق جاثم كزنزانة سجن مظلم رطب لا باب فيه ولا نافذة، ونمضي جميعا أسرى للهزيمة الموجعة: كسرت أرواحنا وسلبت أحلامنا قبل أن يتم أسرنا في بئر مظلم من الكلمات المجترة المعادة والذكريات الباهتة المملة عن الأيام التي حلقنا فيها التي نلوكها كلما التقينا في مناسبة ما، عزاء صديق رحل قبل الاوان أو حفل خطابي تسقط فيه الكلمات كما الأمطار الجافة، لا تروي ظمأ ولا تنبت زرعا. حتى أتي يناير ومعه البشرى التي يأسنا من أن تأتي، وجاء المطر مدرارا حتى أصبح سيلا جارفا، وكنت اتلفت حولي مبهورا مندهشا، كنت سعيدا فرحا لأني مُنِحتُ عمرا جديدا، ولأني رأيت احلامي تتجلى أمامي. وأخذت المشاهد تتالى: من الاسكندرية يقف شابا أمام البنادق المصوبة كاشفا صدره مادا يده إلى جانبيه صالبا إياها مع جسده النحيل، محلقا غير مبالي، فيقتل كي لا يصبح مثلا، فيسقط جسده ويبقى المشهد ماثلا مضيئا لا يخبو، ويحوله قتله - رغم القتلة- مثلا لا يضيع ولا ينسى. وتتالى المشاهد، وتتالى الصور متلاحقة لشهداء مقاتلين حالمين كالشعراء، لا يرون أمامهم إلا حلما لحياة حقيقية كاملة، يحول بينها وبينهم لحظة فارقة قد تكون هي الموت أو العبور إليها، وتأتي صورهم جميعا فرحين سعداء بما يرونه لحظة التحقق، لم يعرف احد ما رأوه، ولكنه سحر العشق وسره الكامن ونشوة الحب. وتأتي الصورة الأخيرة عن آخر شهداء اليوم، انه يحتفظ في جيبه بقصاصة ورق، انه يطلب في ورقة كتبها على عجل، تحت سحب الدخان الخانق وأصوات طلقات القناصة، أن يسير لحظة وداعه لمثواه الأخير وسط حشد ممن أحبهم، فيشير لهم إلى طريق الخلاص، الفداء ثمنا لمحبة عظيمة ولوطن حر، كان ذلك حلمه الكبير . لم أكن أتخيل يوما أني سأرى ما فعله "دانكو" في قصة حسبتها يوما خيالا، لم أكن أتخيل أني سأشهد كيف وقف أمام الظلام والعفن والأفاعي معريا صدره، ممسكا قلبه المضيء بيده، كاشفا بضوئه الساطع طريق الخروج من اسر الغابة المظلمة الفاسدة. |
No comments:
Post a Comment