Saturday, 26 January 2013

{الفكر القومي العربي} article

 
رأيت كما يرى النائم
صباح علي الشاهر
 
 
رأيت كما يرى النائم، شارع الرشيد وقد رُصفت أرضيته بحجر الكرانيت، فيما رُصفت أرصفته بالمرمر..
إنطلقت من من الباب الشرقي ( جسر الجمهورية) ، من مدخل الرشيد. كانت الشجيرات قد رُصفت بعناية، ووفق تصميصم هندسي رائع، والأزهار موزعة بذوق رفيع على جانبي الشارع، وفي وسطه أحياناً، حيث خُصص الشارع للمارة والمتسوقين، والراغبين في الدخول إلى أحشاء بغداد، كانت المصاطب التي تفنن الصُناع المهرة في صنعها، تنتظر المُتعبين، والمتأملين، والذين أخذوا كفايتهم  من التسوّق، والراغبين بأخذ قسط من الراحة إستعدادا لمواصلة متعة السير والتأمل، أو البحث عن مقهى بغدادي في زحمة المقاهي، التي يفوح منها عبق التأريخ. ليس من السهل إختيار مقهى لقضاء بعض الوقت، وإحتساء الشاي المهيّل المُخدّر على مناقل الفحم، وسط هذا الكم الهائل من المقاهي ( مقاهي وليس كافتيريات) التي عكس ديكورها تأريخ بغداد، والتي تسمت كل منها بأسم عظيم من عظماء بغداد، فهذه مقهى (إبن مقلة)، وقد تزينت بنماذج من خطوطه العبقرية، مقابلها مقهى ( هاشم الخطاط) ، وقريب منها مقهى ( الموصلي) وقد إمتلأت جدرانها بصور أهل الموسيقى والطرب، على إمتداد تأريخ بغداد، من زرياب إلى رشيد القندرجي، ومحمد القبانجي، وتلكم القريبة من سينما ( الشعب) التي أعيد لها مجدها الغابر، تحمل أسم ( النواسي) ، وقد تفنن الرسامون في إستلهام مقاطع شعرية من أشعاره الخالدة، وتحويلها إلى لوحات وتشكيلات فنيّة مُبهرة، ومُثيرة للتأمل، وهذه قاعة (بشار بن برد) للشعر والشعراء، وقد تزينت بنصب (أبو تمام الطائي)، و(أبو العتاهية)، و(العباس بن أحنف)، و(المتنبي)، و(الشريف الرضي)، و (البحتري )، و ( مهيار الديلمي)، في حين إنتصب في وسط الشارع نصب مهيب، لأبن منظور، وهو يتكيء على لسان العرب، بمواجهة نصب أصغر لشيخ المترجمين ( حنين بن أسحق)، وهو يُشير إلى ( ثابت بن قرّة) وكأني به ينقل له خبرته في ترجمة الألسن الغريبة، أما ( الجاحظ) فقد إلتصق بجدار وإلى جواره (عبد الحميد الكاتب) ، و(ابن العميد)، و(عبد الله بن المقفع ) بقلنسوته المتعددة الألوان، وهو يحمل بيد ( كليلة ودمنه)، وبالأخرى ( الأدب الكبير والأدب الصغير).
وهذا المبنى على هيئة القبة الفلكية يحمل إسم (أبو الحسن الصوفي)، ولأمر ما وقف في واجهة المبنى( الأصمعي )، وهو يشير إلى  رقعه، كتب عليها( إدخلوها من باب اللغة والأدب) .
وهذا البيت البغدادي العراقي، الذي حافظوا على شكله العام مع بعض التطوير والتحسين، وحوّل إلى متحف يضم كل ما كان يُستعمل في البيت البغدادي، من آثاث، وأوان، وفرش وإحتياجات منزلية أخرى، كدنا ننسى الكثير منها، فهذه ( نرماده) وهذه ( زقفاله) و( هذه زلاقة) ، وهذا (حِب)، وهذا (ناقوط)، وهذه  (مصخنه) ، وهذه (مهبشه)، وهذه ( سوبايه)، وهذا ( هاون) ، وهذا ( جاون)، وهذه ( رحى).
قطعت الثلث الأول من الرشيد، فواجهني نفق يخفي تشويهات الشارع الذي أحدثه إمتداد جسر السنك، حيث رصعّت جدرانه بإعمال ( إبن الهيثم) الفيزياوية ، وتخطيطاته الرائدة، التي سبقت تخطيطات (دافنشي) بقرون.
وهذه ساحة حافظ القاضي، وقد تحوّلت إلى مكان للراحة والمتعة، وقد توزعت تماثيل ( أبو بكر الرازي) و( أبو القاسم الزهراوي)، و( إبن سينا)، و( ابن النفس)، وكل منهم يحمل بيدية عدّة البحث والعمل، في حين كان الزهراوي الجرّاح يحمل مشرطه بيد، ومغرزه باليد الأخرى .
وما كان يُسمى ( سينما رويال، وسنترال سينما)، في الزمن الغابر، أعيد بناؤهما على الطراز البغدادي، بشناشيله، وزجاجه المُعشق، وأصبحت الأولى تسمى قاعة الرصافي ، والأخرى قاعة الجواهري. إختصت القاعة الأولى بعرض كل ما كتبه الرصافي، وما كتب عنه، وأختصت القاعة الثانية بعرض كل ما كتبه الجواهري، وكل ما كُتب عنه.
وبعد جامع مرجان، وخان مرجان، تطالعنا مدرسة شماس اليهودية، إلى جانب جامع المرادية ..
رأيت جزءا من شارع الرشيد، الذي قيل لي أن ما رأيته منه ليس سوى النزر اليسير ..
رأيت قلب بغداد ينبض ، بغداد العلم ، والأدب ، بغداد الثقافة ، بغداد التي إنغرس إسمها عميقاً في الوجدان ..
نعم رأيت بغداد...  رأيتها كما يرى النائم .. 
 

No comments:

Post a Comment