Thursday 1 January 2015

{الفكر القومي العربي} مستقبل مصر ريفا وحضرا وملامحه في المرحلة الحالية

بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على الحبيب المصطفى ورسل الله أجمعين، وبعد: سُئِلت من بعض الأحبة الأصدقاء لماذا توقفت عن الكتابة السياسية؟  فكان ردي أنه بعد كتابة 285 مقالا منذ اندلاع ثورة يناير حتى اعتلاء السيسي كرسي رئاسة الجمهورية، وبعد أن أنقذنا الله برحمته من أنياب الوحش الإخواني لم تعد هناك حاجة ماسة من أمثالي لمثل هذه المقالات، بالإضافة إلى انخراطي في كتابة مؤلف باللغة الإنجليزية لطلاب القسم الإنجليزي بكلية الزراعة جامعة الإسكندرية بالشاطبي مع أحد زملائي بقسم التنمية الريفية أ.د.محمد العزبي. وفيما يلي أقدم خاتمة هذا المؤلف حيث أنها تخلو إلى حد كبير من المصطلحات التخصصية وتميل إلى النظرة الشمولية فيما يتعلق بمصير مصرنا الحبيبة ريفها وحضرها على السواء، مع الشكر والتقدير، بالإضافة للاعتذار عن الطول النسبي لتلك الخاتمة.

مستقبل المجتمع الريفي المصري[1]
أ.د. محمد نبيل جامع      أ.د. محمد ابراهيم العزبي
قسم التنمية الريفية، كلية الزراعة جامعة الإسكندرية بالشاطبي
يمثل مستقبل المناطق الريفية التي تمثل 57% من سكان مصر مستقبل معظم المصريين. يتحدد هذا المستقبل ويتشكل بصورة أساسية بواسطة عقلية السلطات المركزية وما تضعه من سياسات للتنمية. ومن ثم فيمكن الادعاء بأن مستقبل الريف المصري بالرغم من خصوصيته إلا أنه يمكن أن يعتبر نسبيا هو مستقبل مصر بكليتها. هذا ويعطي بعض الدارسين من الناحية الإحصائية انطباعا بأن المجتمعات الريفية المحلية هي على وشك الانقراض. إلا أن الحقيقة المؤكدة والواضحة وضوح الشمس هي "الثبات المستمر لنسبة المجتمعات الريفية المحلية، وهذا ليس في مصر فقط وإنما في العالم كله (أنظر جدول 1 في ملاحق الكتاب أدناه)."
ومن البدهيات المنطقية ارتباط الماضي بالحاضر الذي بدوره يرتبط بالمستقبل. ومن البديهي أيضا أنه لولا تدخل البشر وفعل الإنسان على الأرض لاستمرت أحوال الماضي إلى الأبد. ومن ثم فإن تدخل البشر بالإضافة إلى تأثير الظروف الخارجية لأي نظام على سطح الأرض هما اللذان يؤديان للتغير البشري والاجتماعي عبر التاريخ. وكانت دائما رؤية الإنسان لمستقبل مجتمعه الإنساني ذات دور رئيسي في تشكيل مستقبل هذا المجتمع. هذا وقد أضاف كل من العلم والتكنولوجيا ومعارف العلوم الاجتماعية إضافات جوهرية لرشادة الرؤى المستقبلية المجتمعية والتي أدت بدورها إلى بناء الحضارات والمدنيات الإنسانية عبر التاريخ.
بيت القصيد، إذن، هو أن رؤية المجتمع التي تتشكل بواسطة السلطات المركزية وأصحاب السطوة والنفوذ في المجتمعات المركزية كجمهورية مصر العربية هي التي غالبا ما تشكل مستقبل المجتمع بافتراض التطبيق الفعلي لهذه الرؤية. وفي النهاية، فإن ما نراه ونفعله اليوم سوف يقودنا إلى ما سوف نكون عليه في الغد. فعلى سبيل المثال، شُكلت مصر في عهد عبد الناصر (ما قبل حرب 1967) بواسطة الرؤية التنموية لجمال عبد الناصر ورفاقه الصائبة نسبيا عام 1952، أما مصر عام 1981 فقد شكلتها رؤية السادات ورفاقه ذات التوجه الغربي وصاحبة سياسة الباب المفتوح وذلك بعد وفاة الزعيم عبد الناصر عام 1970. وفي النهاية كانت مصر حتى ثورة يناير 2011 نتيجة للرؤية البائسة لمبارك ورفاقه عام 1981 تمر في مرحلة أحداث كان عنوانها إما الجمود أو التخريب لا البناء أو التنمية مما أدى إلى المعاناة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية والنفسية أينما كان الفرد المصري سواء في ريف بلاده أم في حضرها.
قال العلامة العظيم أوتيس دادلي دانكين Otis Dudley Duncan:
"We need to know where we may be going in order to understand where we are (Ford, 1978: 211)".
يقول  "أننا نحتاج لمعرفة ما قد نكون مقبلين عليه حتى نتمكن من فهم ما نحن عليه الآن."  في الواقع لا ندري إذا ما كنا متكاملين مع دانكين أم أننا نتناقض مع مقولته السابقة حيث أننا نميل لمقولة مختلفة مؤداها  "إننا نحتاج لمعرفة ما نحن عليه الآن حتى نتمكن من معرفة ما قد نكون مقبلين عليه."
كيف نواجه التأثير الطاغي للسلطات المركزية وأصحاب النفوذ والسطوة في تشكيل مصير مجتمعنا؟ نعتقد في أمور خمسة: التفكير والإقناع المنطقي، الإيمان بالعلم والنهوض به وتأسيسه (جعله مؤسسيا) ، حكمة معارف العلوم الاجتماعية، التأثير في تشكيل الإرادة السياسية الفعالة من خلال التواصل مع عقلية نخب السلطات المركزية، وأخيرا كشف دور القطط السمان المترفين الطفيليين وتحالفهم الزواجي مع السلطات السياسية المركزية. لا شك أن هذه التوجهات مجتمعة يمكن أن تساعد في تشكيل رؤية حيوية فعالة لمستقبل الريف المصري وحضره على السواء.
إنه لمن الصعوبة بمكان أن نحدد بكل دقة ما نفعله اليوم حتى نتمكن من توقع المستقبل. ومن ثم فبينما يبقى تحديد المستقبل لغزا أو معضلة حقيقية إلا أننا يمكن أن نتلمس كثيرا من أسراره من خلال توقع البدائل الأكثر احتمالا لما يمكن أن يكون عليه. هذا هو ما سوف نحاول فعله بقدر ما  وذلك فيما يتعلق بالريف المصري. وقبل الخوض في تلك البدائل ربما يكون من الصواب ذكر مقولة تتعلق بالأحكام القيمية الذاتية، إذ يتعلق الأمر بالتفاؤل أو التشاؤم. لقد كان صديقنا العزيز المرحوم الأستاذ الدكتور كينيث ولكنسون Kenneth Wilkinson أستاذ علم الاجتماع بجامعة ولاية بنسيلفانيا متفائلا عندما حاول تصور مستقبل المجتمعات الريفية الأمريكية حين قال:
The scenario I should like to promote is one which says that reason will prevail, that an expanded knowledge base, to which sociologists can contribute, will lead to mass realization of the human significance of what is being lost in the discarding of old-fashioned terms such as love and community; that the attractions of human scale in life settings, unlimited by the deprivations and bondages therewith connected in the past, will become widely known; that technology and formal organization will become tools for the good of people, making it possible for the profound as opposed to the extraneous benefits of modern life to be made available in all localities; that metropolitan expansion will in fact become decentralization; the Warren's famous criticism of the belief that one can have local autonomy, local viability and widespread local participation in a complex society will be proven, on the future evidence, to be invalid (though it is apparently valid now); that lives of people in communities will interpenetrate as they deal together with the full range of human issues; that freedom and peace will be achieved. Mine is, of course, a value-based scenario. I place great value on community and see a rural setting as most likely for its realization (Wilkinson, 1978: 124-125).
توقع البروفيسور ولكنسون أن العقل والرشد والصواب سوف يسودون، أن المعرفة ستزداد بما فيها معرفة علماء الاجتماع بما سوف يؤدي إلى تحقيق الكرامة الإنسانية ومشاعر الحب والتعاون الاجتماعي، وأن مباهج الحياة الإنسانية سوف تنتشر، وستصبح التقنية والتنظيم الرسمي خادمين حقيقيين لرفاهية كافة البقاع الإنسانية، وسيتحول التمدد الحضري إلى لا مركزية، وسيزداد الاستقلال المحلي والحيوية المحلية والمشاركة الاجتماعية، وأن الحياة الاجتماعية للناس سوف تتعاضد وتترابط، وستتحقق الحرية ويسود السلام. كل هذه التحولات يراها البروفيسور ويلكنسون في مستقبل الحياة الريفية الأمريكية.
أما في حالة مصر فإذا حاولنا تصور مستقبل قطاعها الريفي، ربما لن يكون الإنسان بنفس القدر من التفاؤل الذي عبر عنه البروفيسور ولكنسون بالنسبة للريف الأمريكي. فكما ذكرنا من قبل نحن نحتاج إلى أن نعرف أين نحن، وماذا نحن فاعلون اليوم من أجل أن نلقي بعض الأضوا ء على طريق المستقبل حتى يمكننا أن نتوقع المستقبل نفسه. ومن أجل فعل ذلك دعنا بصورة مختصرة نحاول تحديد بعض أكثر التغيرات الظاهرة في حالة المجتمع الريفي المصري اليوم.
أولا: التزايد الهائل لحجم وكثافة المجتمعات الريفية: إحصائية وحيدة بسيطة دامغة توضح بشكل قاطع هذا الادعاء، ألا وهي مقارنة بين معدل الزيادة السكانية المصرية مقابل معدل الزيادة في مساحة الأرض المصرية المأهولة بالسكان. زاد السكان المصريون بمعدل 940%  أي من 10 مليون نسمة إلى 94 مليون نسمة وذلك ما بين عامي 1900م  و 2014م، هذا في الوقت الذي زادت مساحة الأرض المأهولة بالسكان في نفس الفترة بنسبة 50% فقط ، أي من حوالي 4% إلى 6% فقط. وقد أدى هذا الوضع إلى كل مما يلي:
1.    تناقص نصيب الفرد من الأرض الزراعية وانحسار دور الاقتصاد الزراعي.
2.    تزايد دور الاقتصاد غير الزراعي بجانبيه من السلع والخدمات.
3.    تزايد الضغوط على الخدمات والمرافق الريفية المتدهورة بالفعل.
4.    معايير صادمة للصحة البيئية والمناخية (الأرض، ماء الشرب ومياه الري، الهواء، والضوضاء ... إلخ.)
5.    عدم التكيف الفعال مع الحرمان المتزايد للسكان الريفيين نتيجة للفجوة المزمنة بين تنمية الريف وتنمية الحضر.
6.    الفقر المتزايد والحرمان الإنساني المنتشر في الريف المصري.
7.  تغير قوة وطبيعة تيارات الهجرة بحيث أصبحت الهجرة من الحضر إلى الحضر هي الأكبر، يليها الهجرة من الحضر إلى الريف، ثم الهجرة من الريف إلى الحضر، وأخيرا نجد أقل تيارات الهجرة يتمثل في الهجرة من الريف إلى الريف. وربما تكون الإحصائية المتعلقة بالهجرة من الحضر إلى الريف هي الأكثر بروزا حيث زادت هذه النسبة بدرجة كبيرة من 6.5% فقط (من مجموع المهاجرين) عام 1967م إلى 22.6% عام 1996م.
8.  زيادة الغربة الإنسانية anonymity وانخفاض المودة والألفة والمؤانسة في طبيعة العلاقات الاجتماعية والمشاعر المجتعية المحلية.
9.  تزايد كثافة رأس المال الاجتماعي نظرا لزيادة حجم التفاعل الاجتماعي المرافق للزيادة والكثافة السكانية، وتزايد أعداد وأنواع المنظمات الاجتماعية القروية (الكتلة المنظمية)، وتعدد المهن والوظائف اللازمة لاحتياجات مجتمع ريفي يزداد تعقيدا بصورة مطردة.
ثانيا: تزايد العلاقات التكاملية الأفقية بين القرى والمجتمعات المحلية بالتوازي مع تزايد التكامل الرأسي بين السلطات الإدارية المحلية والعلوية: يتماشى هذا القول مع مقولة وارين Warren حول المدن الأمريكية الصغيرة حيث بدأت المؤسسات المحلية في تلك المجتمعات تعتمد بصورة كبيرة على مصادر خارجية للسلع والموارد المختلفة لمقابلة الاحتياجات المحلية، ومن ثم فقد انخفضت استقلالية اتخاذ القرارات على مستوى المجتمعات المحلية، ذلك ربما يرجع إلى أن منظمات اتخاذ القرار نفسها قد أصبحت ذات طبيعة تخصصية ومعقدة كما هو الحال في المجتمعات أو المدن الكبيرة.
ثالثا: ترهل أو تفتت العمل الجمعي للسكان القرويين: لقد أدت المركزية الطاغية في مصر مع العقيدة المركزية لأهل السلطات العليا منذ عهد الفراعنة إلى تمزق وهشاشة العمل الجمعي والجهود الذاتية والمشاركة الشعبية المحلية للسكان الريفيين. ومن ثم فنحن في حاجة إلى ثورة ضد هذه المركزية، بمعنى ضرورة تطبيق اللامركزية تطبيقا جديا سليما من أجل إحياء القدرات الكامنة ودفع الطاقات الهائلة لشعب كان في يوم من الأيام يسمى "المصريون العظماء".
رابعا: تفشي وباء التطرف الديني وزيادة سطوة "الإسلام السياسي": نتج هذا الوباء عن تدهور التعليم وغياب التنوير الديني وذلك من بين الأمراض الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي أفرزتها فترة الحكم المظلم للرئيس مبارك ناهيك عن السنة الأكثر ظلاما لحكم الرئيس مرسي و "الإخوان المسلمين." ومن سوء الطالع أنه بالرغم من المبادئ الديمقراطية والإنجيلية، والتي من المفترض أن يكون الغرب هو بيتها وبوقها إلا أن هذا التطرف الديني كان يُدعم وتُؤجج نيرانه بواسطة التدخل الغربي في محاولة من هذا الغرب لإعادة بناء الشرق الأوسط  ولتشكيل ما أطلقوا عليه "مشروع الشرق الأوسط الجديد."
وهكذا تمثل النقاط السابقة عرضا موجزا لما نحن عليه اليوم. ما نحن بصدد عمله موضوع آخر. مرة أخرى وبإيجاز كلي، ما نقوم به الآن هو أدنى بكثير من الحد الأدنى لما يمكن عمله. ماذا نتوقع من عملنا الحالي إذا لم يكن لدينا استراتيجية تنموية محددة المعالم لتقود جهودنا وأجهزتنا وحكوماتنا دائمة التغيير؟ ماذا نتوقع من ثمار للتنمية إذا ما كانت أفعالنا إن هي إلا قصيرة المدى وليست أكثر من ردود أفعال تأقلمية فاشلة في مواجهة مشكلات عميقة راسخة؟ فعلى سبيل المثال، في مجال التعليم العالي نركز على قضايا مكتب التنسيق، وفي الزراعة نركز على العدوان على الأراضي الزراعية، وفي التعليم العام نركز على الدروس الخصوصية والمباني المدرسية، وفي مجال مواجهة الإرهاب نركز على الحلول الأمنية، كل ذلك أمثلة فقط للحلول الجزئية المتناثرة والمسكنات العاجزة عن مواجهة المشكلات الراسخة العتيقة.
إن مستقبل كل من الريف والحضر المصريين على السواء يتحدد في تقديرنا بدرجة كبيرة بمدى جودة أدائنا في كل من المجالات ذات التأثير المضاعف التالية، بجانب أمور أخرى بطبيعة الحال:
أولا: التنشئة الدينية: في ظل أزمة القيم الحالية، قد حان الوقت أن تتضمن المناهج التعليمية على الأقل حتى مستوى الثانوية العامة برامج محكمة البناء للتنوير الديني وتطبيق المبادئ الدينية وتعليمها. والغرض هنا ليس فقط مواجهة صارمة للتطرف الديني والإرهاب اللذين يدمران عالمنا العربي، وإنما الأهم من ذلك هو بناء الثروة العظمى وهي رأس المال البشري، أي الشخصية المصرية بفكرها واتجاهاتها وقيمها وسلوكها، حيث أن الإنسان المستنير دينيا والملتزم بدينه بحق هو أعظم عناصر الإنتاج الوطني وأكثرها إنتاجية، ذلك لأن ثمرات هذه الثروة الدينية تمتد خارج الشخصية الفردية وتصل لمجال التكامل والوحدة والصلابة الاجتماعية والعمل الجمعي، ثم إلى مجال الكفاءة الاقتصادية من خلال العمل الجاد والتدبير، ثم إلى مجال الأمن الوطني بجوانبه المتعددة الجنائية والاقتصادية والعسكرية والاجتماعية والنفسية، ثم إلى مجال الصحة البيئية. الرجل المتدين يعشق الطبيعة بعد عشقه لخالقها سبحانه وتعالى، حيث يقوم هذا الرجل ببناء مجتمع مندمج مع البيئة وليس في معاداة معها، مجتمع يتبادل المنفعة مع البيئة يأخد منها ويدعمها. ليس معنى ذلك أن الشر سيزول ولكنه سيبقى دائما مستضعفا مغلوبا على أمره.
ثانيا: العلم والتعليم والثقافة: بائس هو بالفعل حال كل من العلم والتعليم والثقافة المصرية الآن. ألا نعلم أن هذه الموارد الثلاثة هي ينابيع المعرفة. المعرفة في العصر الحاضر خاصة باتت نقطة البدء الحتمية لأي إنجاز إنساني. فقر المعرفة هو أساس جميع أنواع الفقر الأخرى. الاستثمار في العلم والتعليم والثقافة مجزٍ للغاية عندما يأتي الأمر لصناعة المستقبل.
ثالثا: الالتزام باللامركزية: لقد قيل الكثير والكثير عن اللامركزية في هذا الكتاب (راجع البابين الخامس والعاشر) وفي غيره، إلا أننا نريد في هذه الخاتمة أن نؤكد على الحاجة الماسة إلي ثورة في تطبيق اللامركزية بجوانبها المالية والسياسية والإدارية والمكانية والتقنية. اللامركزية الأصيلة الحقة سوف تخلصنا من عقم البيروقراطية وتليف "الدولة العميقة" وعدم كفاءتها، وتضخم الحكومة وترهلها. اللامركزية الحقة سوف تنشر السكان المسجونين في زنزانة الدلتا والوادي وتطلقهم في رحابة الصحراء والمحافظات والمدن والقرى الجديدة، وفي نفس الوقت سوف تفتح فوهة مصباح علاء الدين لتنطلق وتحيى قدرات المارد المصري وإمكاناتة الإبداعية والابتكارية.
رابعا: العدالة ومحاربة الفساد وإنفاذ القانون: هذه الملفات الثلاثة المترابطة المتداخلة يجب أن تعتبر مجلدا واحدا Three files of one folder. كل من هذه الملفات الثلاثة ذو تأثير مضاعف هائل يشابه تماما تأثير كل من اللامركزية والمعرفة. لقد أكدت معارف العلوم الاجتماعية والخبرات الدولية بوضوح قاطع المنافع اللامحدودة بالنسبة للتنمية والمتحققة عن تطبيق كل من هذه الفضائل الثلاث.
خامسا: الابتكار المؤسسي للنهوض بالتصنيع الريفي والمنشآت الصغيرة والمتوسطة: تمتلك مصر كميات هائلة من الموارد بداية بمناجم الذهب حتى القمامة المنزلية. وفي الوقت نفسه، يُستغل هذا البلد الخصيب بواسطة بارونات الاستيراد وعتاة التصدير لإشباع حاجات كاذبة لمواطنين ضحايا من خلال توفير الرخيص من السلع الصينية وبتصدير مواد خام مانعين بذلك أية قيمة مضافة تنتج عن التصنيع المحلي ولو حتى مجرد التعبئة والتغليف الجذابين. إلا أنه بانطلاق المشروعات الوطنية الجديدة التي يتبناها الرئيس السيسي ربما تكون هناك فرصة ممتازة لإعادة توزيع السكان ومعها لامركزية الصناعات القائمة وبناء الجديد منها في مناطق جديدة محسنٍ اختيار مواقعها. هذا ولابد من بدء الإجراءات التشريعية من أجل تنظيم التصنيع الريفي والوطني بوجه عام. ففي الحقيقة قامت دول كثيرة بجهود هائلة لتوجيه الصناعة في المناطق الريفية المتخلفة. فعلى سبيل المثال، أنشئت التشريعات التالية بطريقة أو أخرى بالولايات المتحدة لتشجيع الاستثمارات الرأسمالية في المناطق الريفية:
1.    قانون الفرصة الاقتصادية لعام 1964.
2.    قانون الأشغال العامة والتنمية الاقتصادية لعام 1965.
3.    قانون التنمية الإقليمية الأبيلاشية لعام 1965.
4.    قانون التنمية الريفية لعام 1972.
كما تجرى حاليا دراسة تشريعات مماثلة بواسطة لجان في الكونجرس الأمريكي والهيئات الحكومية، مما سوف يضيف إلى كمية الأموال الهائلة التي وجهت من قبل بالفعل إلى لامركزية التصنيع في الولايات المتحدة.
المشاهد المستقبلية المحتملة للريف المصري: آخذين في الاعتبار كلا من المعلومات والتحديات المذكورة أعلاه، ومن خلال تقييم حالة أداء الجهود التنموية المصرية اليوم هل يمكننا توقع بعض المشاهد المحتملة لمستقبل الريف المصري بعد 25 سنة من الآن؟ الإجابة ستكون بالضرورة محملةً بالتحيز القيمي كما يمكن أن تعتبر موردا معرفيا يساعد في ترشيد توجهاتنا وخططنا التنموية. وفي الوقت نفسه، فإن مجرد التفكير في هذه المشاهد يمكن أن يدفعنا إلى العمل نحو البديل أو المشهد الأفضل والأكثر تفاؤلا، كما يمكن أن يحذرنا من الوقوع في المشهد التشاؤمي المناقض. وفيما يلي عرض موجز لهذ المشاهد الثلاثة المحتملة:
أولا: مشهد المجتمع الريفي المتحضر: ماذا يحدث لو افترضنا أننا لا، ولن نقدم الكثير من جهود التنمية عامة والتنمية الريفية بخاصة؟ ستستمر الأحوال الحالية على حالها مع تدهور مستمر. وحيث أن تعريف "الريفية" من خلال معيار التقسيم الريفي الحضري للمجتمعات المصرية يعتمد على الوضع الإداري وليس على نسبة الممتهنين للزراعة فلن تتغير نتائح التقسيم الريفي الحضري تغيرا ملحوظا بالرغم من استمرار التضخم السكاني للقرى الأصغر والتضخم الأكبر للقرى الأكبر وعواصم المراكز واقتراب الجميع نحو الخصائص الحضرية لعواصم المحافظات. وبالتالي يمكن أن نتصور عشوائيات حضرية تنتشر في جسد المجتمعات الريفية المصرية مما يترتب على ذلك من تحضر زائف قميء هو في حقيقة الأمر تخلف حقيقي.
ثانيا: مشهد المجتمع الريفي الديناميكي المتطور: هذا هو مشهدنا التفاؤلي الذي يفترض نجاحا ملحوظا لجهود التنمية الريفية المعاصرة. ولقد أطلقت الحكومة الجديدة للرئيس السيسي عددا من المشروعات القومية (الوطنية) مثل المشروع القومي للطرق ومشروع قناة السويس ومشروع المحافظات الجديدة (العلمين والواحات ووسط سيناء) وغير ذلك من مشروعات أخرى. وربما يكون الملمح الرئيسي المشترك لهذه المشروعات هو كلمة "الخروج"، أي خروج السكان من أحشاء الدلتا والوادي المكتظة إلى رحابة الصحراء. لقد أشار قاموس أكسفورد للاقتباسات إلى تنصيصة هوريس جريلي في مؤلفه "تلميحات نحو الإصلاح Hints Toward Reforms (1850)"، والتي تقول: "غربا أيها الشباب وارتقوا مع وطنكم Go west young man and grow with your country". ونادى من بعد ذلك الرئيس الأمريكي ثيودور روزفلت الشباب: "غربا أيها الشباب وقفزاتكم العظمى إلى الغرب". نتمنى نداءًا مماثلا للرئيس السيسي: "إلى الصحراء أيها الشباب وارتقوا بمصركم الحبيبة". إن مثل هذا الاتجاه الهائل نحو اللامركزية المكانية (الإيكولوجية) يجب أن يصاحبه ثورة في اللامركزية القانونية والتنظيمية والمؤسسية. هنا، وعندئذ، يمكننا أن نتصور بزوغ مجتمع ريفي ديناميكي متطور ذاتي الدفع. في مثل هذا المجتمع ستكون صناعة المستقبل دائما تحت المجهر وبطريقة مؤسسية. الالتزام هو خاصية المجتمع المتطور، وهو ليس التزاما تقليديا وإنما هو التزام ديناميكي يتسم بالتكيف الواعي للظروف المتجددة. المجتمع المتطور يشجع قيمة مشاركة الأفراد في القرارات المؤثرة في حياتهم. المجتمع المتطور سوف يشجع الحركة المستمرة للسكان والخروج من المناطق الحضرية المكتظة بالسكان، ومن ثم فسوف تنخفض حدة الهيمنة الحضرية على الريف بالإضافة إلى إحياء المدن الصغيرة والمجتمعات القروية. المجتمع المتطور سوف يكون دائما معملا لابتكار التقنيات الجديدة والآلات والتقنيات الحيوية والتقنيات الاجتماعية (هندسة النظم الاجتماعية وإدارتها). ستكون المجتمعات المحلية في المجتمع المتطور مترابطة متداخلة متشابكة تقويها الصلابة الاجتماعية والارتباط الأفقي وليس الهيمنة الهيراركية السلطوية التدرجية، كما سوف تتمتع هذه المجتمعات بدرجة أعلى من الاكتفاء الذاتي. سوف تنتشر الصناعات الصغيرة والمتوسطة في المجتمع المتطور مع المشروعات الصغيرة بوجه عام. المجتمعات الريفية في المجتمع المتطور تمثل بيئة مثالية للتجريب والاختبار للعديد من الأشكال والنظم التقنية والتنظيمية والمشروعات الجديدة. سيكون المجتمع المتطور في موجز القول مجتمعا مرنا متنوعا متعددا بطريقة أصيلة بنائية تجعل من الحياة وجودا ذا معنى لجميع سكانه. وأخيرا، وليس آخرا، سوف تكون الشراكة أو المشاركة بين الحكومة المركزية وفروعها الوسطى والمحلية والقطاع الخاص والمجتمع المدني ملمحا حيويا للمجتمع المتطور (أنظر جدول 2 في الملاحق لملاحظة هذه الخاصية فيما يتعلق بتمويل الحكومات المحلية.)
ثالثا: مشهد المجتمع الريفي المحكوم بقانون الغابة: هذا هو المشهد التشاؤمي لمستقبل المجتمعات الريفية. المتوحشون النبلاء الذين كانت تحكمهم قوانين الطبيعة لم يرتكبوا أنواع السلوك الوحشي التي أصابت الإنسان وانتقلت إليه بواسطة مدنيته التي صنعها بذاته. لقد فشلت الأخلاق والآداب في كبح جماح عدوان الدولة على مواطنيها وعدوان مواطنيها على بعضهم البعض. الجشع والأنانية والتطرف الديني والرغبات والطموحات غير المحدودة للرجل العصري قد أبقت الأبواب مفتوحة دائما على مصراعيها للمنافسة والصراع والأنواع الوحشية من السلوك العدواني. الفساد وهشاشة الضبط القانوني ملمحان راسخان مؤسسان اليوم لدرجة كبيرة على مستوى السلوك الفردي وجميع مستويات المنظمات والمؤسسات، خاصة كانت أم عامة أم طوعية. إذا استمرت إدارتنا الوطنية وجهودنا التنموية على هذا التدهور الفاشل سوف يزداد الفساد وينهار الضبط القانوني مما سوف يؤدي على مدار خمس وعشرين سنة قادمة إلى مجتمع يحكمه قانون الغابة. المتشائمون اليوم يرون لسوء الحظ بزوغا فعليا لمثل هذا المجتمع في دول كالعراق وليبيا وسوريا. حينئذ سوف يشهد التاريخ فقط لحكمة كارل ماركس وأنصار نظرية الصراع.


[1] المقال الحالي هو ترجمة لخاتمة كتاب باللغة الإنجليزية تأليف كل من الأستاذ الدكتور محمد نبيل جامع والأستاذ الدكتور محمد ابراهيم العزبي الأستاذين المتفرغين بقسم التنمية الريفية كلية الزراعة جامعة الإسكندرية بعنوان:
Gamie, Mohamed Nabil and Mohamed Ibrahim Elezaby. Principles and Perspectives of Rural Sociology. Alexandria, Egypt: Dar Al Tibaa' Al Horra, 2014, pp.338.


 
Prof. Mohamed Nabil Gamie
Department of Rural Development, College of Agriculture,
Alexandria University, Al-Shatby, Alexandria, Egypt
mngamie@yahoo.com
01227435754



No comments:

Post a Comment