يواصل توفيق الحكيم فى رائعته (عودة الروح) الحوار بين مفتش الرى الانجليزى وعالم الآثار الفرنسى ، يواصله وكأنه كتبه اليوم فى أحداث ثورة 25 يناير ، حيث يجدد فيه وبأسلوب أدبى عبقرى أبرز ملامح الشخصية المصرية ، التى تختزن بداخلها (الثورة) بكل معانيها ومعالمها كما تبدت فى ثورتى (1952) و(25 يناير 2011) ، يقول الحكيم : واستوى بعد قليل العالم الفرنسى فى كرسيه ، واشعل لفافة أخرى ، وأرسل نفخة من الدخان فى الهواء ، ثم قال :
- أرى أن قولى لم يفحمك يا " مستر بلاك " ؟ .. فالتفت إليه " المفتش الإنجليزى ، بأدب ، وقال : اعترف بذلك ! ..
فسكت " الفرنسى " هنيهة ثم قال :
- نعم .. لنا العذر ألا نفهم هذا ؟ يقصد (الشخصية المصرية من خلال الفلاح المصرى وقتذاك) .. إن لغتنا نحن الأوروبيين – لغة المحسوسات .. إننا لا نستطيع أن نتصور تلك العواطف التى كانت تجعل من هذا الشعب المصرى كله فرداً واحداً، يستطيع أن يحمل على أكتافه الأحجار الهائلة عشرين عاماً ليبنى الهرم ، وهو باسم الثغر مبتهج الفؤاد ، راض بالألم فى سبيل المعبود . إنى لموقن أن تلك الآلاف المؤلفة التى شيدت الأهرام ، ما كانت تساق كرهاً كما يزعم " هيرودوت " الإغريقى عن حماقة وجهل .. وإنما كانت تسير إلى العمل زرافات وهى تنشد نشيد (المعبود) ، كما يفعل أحفادهم يوم جنى المحصول . نعم كانت أجسادهم تدمى ، ولكن ذلك كان يشعرهم بلذة خفية ، لذة الاشتراك فى الألم من أجل سبب واحد ! ..
وكانوا ينظرون إلى الدماء تقطر من أبدانهم فى سرور لا يقل عن سرورهم برؤية الخمور القانية تقدم قرابين إلى المعبود ! .. هذه العاطفة عاطفة السرور بالألم جماعة .. عاطفة الصبر الجميل ، والاحتمال الباسم للأهوال من أجل سبب واحد مشترك .. عاطفة الإيمان بالمعبود والتضحية ، والاتحاد فى الألم بغير شكوى ولا أنين .. هذه هى قوتهم ! .
ثم ينتقل توفيق الحكيم فى رائعته (عودة الروح) ليقول على لسان عالم الآثار الفرنسى متحدثاً إلى مفتش الرى الإنجليزى أيضاً : هل رأيت فى بلد آخر أشقى من هؤلاء المساكين ؟!.. أنت مفتش رى ، وتعلم جيداً يا " مستر بلاك " أوجدت أفقر من هذا الفلاح المصرى ؟ ولا أهول عملاً ؟ .. إنى أعلم ذلك أنا أيضاً ، فقد اشتغلت بالحفر عن الآثار فى قرى الصعيد ، وخالطت بعض الفلاحين وعلمت كل شىء .. عمل ليل نهار فى الشمس المحرقة والبرد القارس وكسرة من خبز الأذرة ، وقطعة من الجبن مع بعض الأعشاب من السريس وغيره مما ينبت وحده .. تضحية مستمرة صبر دائم، ومع ذلك فها هم أولاء يغنون ! .. اسمع برهة يا " مستر بلاك " .
وسكت " الأثرى الفرنسى " هنيهة ، كأنما يستفسر روح هذه الأغنية التى تأتى مع النسيم ، ثم استطرد يقول :
- أتسمع هذه الأصوات المجتمعة الخارجة من قلوب عدة ؟ . ألا تخالها خارجة من قلب واحد؟ إنى أؤكد أن هؤلاء القوم يحسون لذة فى هذا الكدح المشترك ، هذا أيضاً هو الفرق بيننا وبينهم ؛ إن اجتمع عمالنا على الألم أحسوا جراثيم الثورة والعصيان وعدم الرضا بما هم فيه ، وإن اجتمع فلاحوهم على الألم أحسوا السرور الخفى واللذة بالاتحاد فى الألم ، ما أعجبهم شعباً يصنع الغد !! ..
أسند المفتش الانجليزى يده إلى جبينه لحظة كالمتأمل ، ثم قال :
- ما كنت أحسبك جاداً ، وأنت تفهمنى أن بين مصر اليوم ومصر بالأمس علاقة ! .. فأجاب العالم الفرنسى : وأى علاقة ؟! .. قلت وأقول أيضاً : إن الجوهر باق دائماً ! .. إن هؤلاء الفلاحين الذين يغنون من قلب واحد ، المتعددين الذين تجمعهم العاطفة والإيمان فى واحد ؛ مازالوا يعون بقلوبهم ، ولا يعلمون تلك العبارة التى كان أجدادهم يندبون بها موتاهم فى الجنائز : " عندما يصير الوقت خلوداً ، سنراك من جديد ، لأنك صائر إلى هناك ، حيث الكل فى واحد ! " .
وها هم اليوم الفلاحون الأحفاد من جديد .. يذكرون فى أعماق قلوبهم أن الكل فى واحد ! .. أجل يا مستر " بلاك " .. لا تستهن بهذا الشعب المسكين اليوم ، إن القوة كامنة فيه " .
* انتهت مقتطفات من بستان العمل الإبداعى الخالد لتوفيق الحكيم " رواية عودة الروح " ، وبقيت دلالاتها ونحن نحتفل بالذكرى الأولى لثورة 25 يناير .. تبقى دلالة عظمة هذا الشعب المختزن لقيم الحضارة والثورة منذ آلاف السنين .. ترى هل يدرك قادته من إسلاميين وعلمانيين .. هذه العظمة وتلك " الروح " التى عادت فى 25 يناير !! أم تراهم لايزالون مثل مفتش الرى الانجليزى فى رائعة توفيق الحكيم .. لا يعلمون إلا القشور عن مصر والمصريين ؟! أسئلة برسم !! .
No comments:
Post a Comment