أين إسرائيل مما يحدث في سوريا؟
د. فوزي الأسمر*
تقديم لندوة في "مركز الحوار العربي"- 21/3/2012- عن "التأثيرت الخارجية في الأزمة السورية" بالإشتراك مع الدكتور داود خيرالله.
هناك عوامل كثيرة، خارجية وداخلية، تؤثر في الصراع الدائر الآن في سورية. وسوف أركّز على العامل الإسرائيلي، مع محاولة عرض لدوافعه الأساسية.
ولكي نفهم البعد الإسرائيلي في هذا الصرع فلا بدّ من إعطاء خلفية مقتضبة عن الإستراتيجية الإسرائيلية/الصهيونية، وتقييمها للأمور في المنطقة. فالصهيونية لم تعترف، ولا تزال كذلك، بوجود شعب عربي واحد في منطقة الشرق الأوسط، بل كانت ترى سكان المنطقة مجموعة من الطوائف الدينية والأقليات العرقية، وبالتالي فإن إسرائيل تشجع الإنقسام الطائفي والعرقي بالمنطقة، وتساهم بتشويه القومية العربية.
ولتنفيذ هذه الإستراتيجية أقامت الحركة الصهيونية في نهاية الثلاثينات من القرن الماضي مركز أبحاث ترأسه أحد أقطابها، موشيه شاريت، لدفع فكرة "وحدة الأقليات في منطقة الشرق الأوسط " في مواجهة "الأغلبية السنية". وألأقليات، كما تراها إسرائيل، هي مجموعات يمكن سلخها عن المحور الأساسي أي المحور القومي العربي. فكان الحديث في سراديب هذه الحركة يدور أولاً حول المسيحيين بطوائفهم المختلفة، وعمودهم الفقري هي الطائفة المارونية في لبنان على أساس أنها منظمة في إطار سياسي وهو حزب الكتائب. ثم الدروز والشيعة والأقباط والعلويين، ومن ثم بعض الأقليات القومية مثل الأكراد والآرمن والشركس وغيرها. وخلقت إسرائيل داخل كيانها قومية جديدة أطلقت عليها لقب "الدرزية" فأصبح التعامل مع الدروز في إسرائيل على أنهم ينتمون لقومية درزية "مثلما اليهود بنتمون لقومية يهودية"، وفرضت على إبنائها الخدمة العسكرية بالجيش الإسرائيلي.
وبقيت هذه الفكرة مستمرة حتى عام حرب 1982، عندما إجتمع رئيس وزراء إسرائيل مناحم بيغين (سبتمبر أيلول 1982 ) مع الرئيس اللبناني المنتخب في حينه بشير الجميل (وكان دافيد كمحي قد سبق والتقى الجميل في باريس فرتب اللقاء بينه وبين بيغين)، ويقال أن بيغين طلب من الجميل إعلان قيام الدولة المارونية، وتوقيع إتفاقية سلام مثل الإتفاقية الموقعة مع مصر والتحالف مع إسرائيل، الشيء الذي رفضه الجميل، فخرج بيغين غاضبا من اللقاء وهو يقول " لقد زودناكم بالسلاح من أجل هذا الهدف". وعندها فقط نعت وسائل الإعلام الإسرائيلية فكرة وحدة الأقليات .
لكن فكرة إقامة كيانات طائفيه وعرقية تجزيء الدول العربية بدون إتحاد بينها، إستمرت في العقلية الصهيونية، لأن مثل هذا العمل هو الضمان الأساسي لبقائها. ويجب أن نبقي في تصورنا أن العدو الأساسي لإسرائيل هي القومية العربية وما تفرزه من حركات مقاومة تتبنى بعضا من أفكارها. فإسرائيل تدرك ان "القومية العربية" تعني جعل الصراع معها ممتداً لعموم البلدان العربية، وتعبئة لكل شعوب المنطقة ضدها، وإعطاء زخم عربي واسع للقضية الفلسطينية.
وبنظرة فاحصة للمسيرة السياسية في المنطقة خلال السنوات الأخيرة، يمكن رؤية أثار العمل الدؤوب للإستراتيجية الإسرائيلية والذي بدأت ثماره تظهر في أكثر من مكان. ولا مجال هنا للخوض في تفاصيل الأمور، لكننا نشير إلى ما حدث في لبنان والعراق والسودان ومصر وغيرها من حوادث طائفية ومذهبية وعرقية لم تكن إسرائيل بعيدة عنها.
وفي حديث للجنرال ويسلي كلارك قال أنه أثناء عمله في وزارة الدفاع الأمريكية، وبعد حوادث الحادي عشر من أيلول / سبتمبر 2001، علم بأن وزير الدفاع الأمريكي وزع مخططا لتغيير النظام في العراق . وفي اليوم التالي جاء ضابط كبير إلى مكتبه وقال ان الأمر لا ينحصر بالعراق فحسب، بل وضعت أمريكا مخططا للإطاحة بأنظمة كل من سوريا ولبنان وليبيا والصومال والسودان وإيران . وها نحن نشاهد اليوم تحقيق بعضا من هذه الأهداف، ولا تزال الدورة مستمرة.
إن إسرائيل مرتاحة جدا من هذا الوضع الراهن في المنطقة إذ وجدت نفسها في موقف متناسق مع معظم قادة الدول العربية، خصوصا الخليجية منها، ومع مواقف معينة لجامعة الدول العربية، وطبعا مواقف معظم الدول الغربية وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية، وإلى حد كبير مع تنظيم القاعدة. فإذا كانت إتفاقية "ساكيس/بيكو " قد قسمت الوطن العربي إلى دويلات، فإننا نشهد الآن محاولة لتجزئة الدول العربية (أو كما قال لي صديق بأنها عملية فتفتة)، وارتفعت شعارات الطائفية والتي تحولت إلى صراعات، ولم يعد البعد القومي هو الأساس، وجرى تفجير نصب أحد رموزه في بني غازي بليبيا، وهذا ما تتمناه وتسعى إليه إسرائيل، حيث أصبحت المشكلة الفلسطنية ثانوية لدى القادة العرب، وتتحدث جريدة "الرياض" (13/12/2011 ) في مقال لرئيس تحريرها تركي عبدالله السديري عن بزوغ عروبة جديدة هي " العروبة الخليجية ". ويكفي أن نشير إلى عنوان المقال " الخليج وعروبة واضحة " كي تكتمل الصورة. ويجب أن نسأل أنفسنا من المستفيد من ذلك؟ هل سيكون عندنا عروبة خليجية وعروبة مغربية وعروبة شرق أوسطية مثلا؟
للأسف، فإن الأمور تسير في هذا الإتجاه، وهذا فيه مصلحة للغرب وإسرائيل معاً. لقد إخترق هذا الصراع الطائفي حدودا كثيرة وخطيرة. فقد تلقيت شخصيا العديد من الرسائل إلا أن إحدى هذه الرسائل كانت ملفتة للنظر، وأثارت عندي الكثير من التساؤلات. فالكاتبة وهي عراقية وعضو معنا في "المؤتمر القومي العربي"، ونشيطة جدا في المجال القومي وأحترم تفكيرها. فبعد أن قرأت أحد مقالاتي أرسلت لي الرسالة الألكترونية التالية:
"فوزي ما مصلحتك، وبالتالي مصلحة العرب في الدفاع عن طوائف ولاءها لفارس مثل الشيعة في البحرين وعلويي سوريا؟ هل تريدون عودة زمن القرامطة والحشاشين والإمام الحاكم بأمر الله ؟ ما بال القوميين العرب قد صاروا قوميين فرس دون أدنى حرج وكأنهم لم يطنطنوا بـ ( العروبة ) إلى درجة الإملال ؟ لن تستقيم أمور المنطقة حتى يظهر من هو مثل صلاح الدين فيقطع دابر تلك الطوائف المتشرذمة قبل أن يستطيع القضاء على حلفائها اليهود ... والقومي الذي يجد من الصعب عليه أن يقرأ التاريخ فليرحنا من اطروحاته وليستريح. تحياتي لك وتحية للشعب السوري الذي يخوض الآن وحده معركته ليقطع ذراع إيران في المنطقة بعد أن قطعها العراق فأعادتها أمريكا وإسرائيل" .
ثم نسمع من أحد قادة حماس صلاح البردويل تصريحا يقول أن الحركة لن تشترك في حرب إذا ما وقعت بين إيران وأسرائيل، والسبب الذي عرضه هو: "إنهم شيعة ونحن سنيون" (القدس العربي 8/3/2012).
من منا خطر بباله إبان حرب 2006 أن الذين يقاتلون إسرائيل هم شيعة؟ وهل صحيح كما تعتقد الصديقة العراقية، أن القضاء على الشيعة والطوائف الآخرى أهم من الإنتصار على إسرائيل؟ ليس لدي مشكلة في أن تؤيد الصديقة المعارضة السورية ولا أن يقول قائد من حماس أن حركته لن تشارك في الحرب ضدّ إيران، ولكن المشكلة هي في النظرة الطائفية والقبلية والعنصرية التي تكتنف مواقفهما ومواقف من يتبنى مثل هذا الفكير.
وأسمحوا لي الآن أن أعود إلى الموقف الإسرائيلي، معتمدا على ما نشرته الصحف الإسرائيلية ، ولن أخوض في غمار بعض الأخبار غير الموثقة المتعلقة بتزويد إسرائيل المعارضة السورية بالأسلحة مثلا، أو أن المخابرات الإسرائيلية قد إخترقت هذه المعارضة وتقوم بتوجيهها.
لقد اعتقد البعض ، بوجود إنقسام في الحكومة الإسرائيلية لجهة الموقف من احداث سوريا. فرئيس حكومتها بنيامين نتنياهو رفض أن تعلن إسرائيل تأييدها الرسمي للمعارضة السورية ، في حين أصر وزير خارجيتها، أفيغدور ليبرمان، الرجل القوي، الخروج علنا بالتأييد. والواقع أن لا خلاف بينهما، فنتنياهو كما فسر موقفه لاحقا، ينبع من خوفه ان يستغل النظام السوري الموقف الإسرائيلي الرسمي، مما يلحق الضرر بالمعارضة. ( هآرتص 16/2/2012 ) .
لكن وزير الخارجية الإسرائيلي ليبرمان لم يتنازل عن موقفه ، فقام حسب ما تقول صحيفة " هآرتص" ( 11/3/2012 ) بإعداد حفل أغاني يحييه أحد كبار مغني الروك في إسرائيل " أركادي دوتشين " بحيث يخصص ريعه للمعارضة السورية.
وطالبت صحيفة " يدعوت أحرونوت " ( 5/3/2012 ) الحكومة الإسرائيلية أن تقدم المساعدات الإنسانية للمواطنين السوريين . وتضيف :" إذا كنا نحن تحديدا الأقرب جغرافيا والأقوى عسكريا والذين يصدمنا القتل الذي يجري على مقربة منا، لا يمكننا التدخل، فمن يستطيع أن يتدخل فيما يجري في سورية.... على الحكومة الإسرائيلية ، إلى جانب التعبيير عن أسفها على آلاف القتلى... وتوجيه الإتهامات إلى الأسد، أن تتحرك على الصعيد الإنساني .... وتقوم بقديم المساعدات الطبية والإنسانية لكل مواطن سوري يرغب في ذلك".
اليس غريبا أن نسمع مثل هذا الكلام من إسرائيلي؟ من أقرب لإسرائيل سورية أم غزة ؟ القتل في سورية يصدم كاتب المقال أما المذابح في غزة فهي شيء طبيعي!! .
وتخرج صحيفة "هآرتص" ( 4/3/2012 ) المعتدلة بإفتتاحية عنوانها "يجب وضع حدٍ للأسد" هاجمت فيه كل من الصين وروسيا لإستعمالهما حق النقض ( الفيتو) في مجلس الأمن ضدّ مشروع إدانة ومعاقبة النظام السوري، وهي تعلم حق العلم أن الولايات المتحدة تتصدى لإي مشروع في مجلس الأم ( وغيره ) يدين إسرائيل، ونحن نعلم أن الكل يعمل لمصلحته أولا.
ويكتب أوري أفنيري ، رافع شعار السلام، مقالا نشر على موقع " غوش شلوم " (كتلة السلام) (3/3/2012) يقول فيه أنه يعتقد أن على الحكومة الإسرائيلية إرسال الجيش الإسرائيلي إلى سورية وطرد الأسد من دمشق وتسليم البلاد للمعارضة السورية أو للأمم المتحدة. أما أبرهام بورغ المعروف بإعتداله أيضا، فقد طالب في مقال مطول له في صحيفة "هآرتص " (9/2/2012 ) بإقامة مدينة لللاجئين على مرتفعات الجولان لإستيعاب اللاجئين السوريين الذين يهربون من نظام الأسد، وقال :" أننا كدولة يهودية يتحتم على إسرائيل التصرف حسب كُتبها المقدسة القائلة لا تتجاهل دم قريبك". وغريب أن ينطبق ذلك على سورية وليس على غزة.
ولا أريد أن استمر في هذه الإقتباسات، وهي كثيرة ، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هو: لماذا كل هذا الإهتمام الإسرائيلي وماذا تغير منذ إتخذ مناحيم بغين موقفا من الحرب العراقية ــ الإيرانية ؟ يقول جدعون ليفي في مقال بصحيفة "هآرتص" ( 26/2/2012) أنه "في عام 1981 عندما نشبت الحرب بين العراق وإيران تمنى مناحيم بغين رئيس وزراء إسرائيل في حينه النجاح للطرفين"!! .
فقد كان بالإمكان إعتبار هذه المواقف الإسرائيلية مجرد كلام لو لم نسمع مواقف معينة من بعض قادة المعارضة السورية. فعلى سبيل المثال تصريح عضو المجلس الوطني السوري الإعلامي رياض معسعس لصحيفة " تونيسيا لايف" (24/2/2012 ) قوله:" إن هدف الثورة السورية هو الإطاحة بالدكتاتور وليس إقامة حكومة معادية لإسرائيل أو لمهاجمتها". ناهيك عن اللقاءات التي أجرتها بعض أقطاب المعارضة مع مسؤولين إسرائيليين ، وفي مقدمتهم السيدة بسمة قضماني، والمقابلات المستمرة لرئيسها برهان غليون، وتعهده في مقابلة مع صحيفة " وول ستريت جنرال" (2/12/2011 ) بأن النظام الجديد في سورية " سيقطع العلاقات الإستثنائية مع إيران وستنتهي أمدادات الأسلحة للمجموعات المسلحة في الشرق الأوسط مثل حزب الله وحركة حماس".. أليست هذه مطالب إسرائيلية/أمريكية، وتتناقض مع فكرة القومية العربية التي يتبناها الشعب السوري بغض النظر عن حكامه؟!.
لقد قلنا في أكثر من مناسبة أنه يجب على النظام السوري تغيير الدستور بحيث يمنح الحريات السياسية ويحقق إصلاحات جذرية، تفسح المجال للتعددية الحزبية، وهي مطالب شرعية. لكن التنازل عن مبادئ أساسية، خصوصا القومية منها، وطلب التدخل الأجنبي لتحقيق ذلك فهو أمر مرفوض من غالبية السوريين والعرب.
صحيح أنه من المؤلم جداً رؤية صور القتلى والجرحى والدمار، لكن عندما نضع الصورة كاملة ونرى الأبعاد الحقيقية والأهداف المركبة لما يحدث، فإن النظرة تكون اوضح. وهذا ما عبّر عنه الشاعر تميم البرغوتي في مقاله القيم (7/3/2012) في جريدة السفير اللبنانية، فقد كان مؤيدا للمعارضة السورية ولكن بعد دراسة الوضع كتب تميم يقول: " لا يمكن للإنسان أن يؤيد الطرح السياسي للمجلس الوطني السوري المعارض لأنه يضع نفسه في حلف واضح مع الولايات المتحدة، ورئيس المجلس وعد الأمريكيين علنا، وأكثر من مرة، بخنق المقاومة اللبنانية وفك الحلف مع إيران وقصر علاقتها مع ( م .ت . ف. ) فقط بدون حركة حماس".
*(كاتب وصحافي فلسطيني مقيم في العاصمة الأميركية)
=============
No comments:
Post a Comment