Saturday, 25 August 2012

{الفكر القومي العربي} article

ظاهرة البرلماني التلفزيوني
صباح علي الشاهر
 
 
 
شرّق وغرّب، إبحث في أرجاء المعمورة، تأفرق وتأسيا، وتأورب، وتأمرك.. تابع بكل ما استطعت أخبار البرلمانات والبرلمانيين في العالم، نساءاً ورجالا، منذ إنشاء أول برلمان وإلى يومنا هذا، وخبرنا- يرحمك الله!- هل ستجد برلمانا كبرلماننا، وبرلمانيين كبرلمانينا؟.
هل رأيت أو سمعت برلمانياً في أي مكان في هذا العالم، يطل على المشاهدين في يوم واحد أكثر من عشرين مرّة، وعلى قنوات مختلفة، وبأوقات مختلفة من اليوم، وهو يتقيأ تصريحات مُكررة ومُعادة، ولا معنى لها؟
برلمانينا يحفظه الله، يطلق التصريحات من زاويته في كافتيريا البرلمان، أو من مقر إقامته، وجلسات البرلمان مُنعقده، وهو يخدم الناخبين على طريقته الخاصة، إذ بدلا من حضور هذه الجلسات ومزاولة مهمته التي إنتخب من أجلها، وهي مهمة التشريع والمراقبة، نراه قد نصّب نفسه مُعلقاً وياليته يحسن التعليق، ومحللا وياليته يفقه التحليل،  ومنظراً وياليت له نصيباً ولو من (طرطشات ) التنظير والمنظرين، والطامة الأكبر أن السيد أو السيدة لا هم بلغاء فنطرب لبلاغتهم، ولا فصحاء فننتشي بفصاحتهم، ولا مفكرين فنسوح مع فكرهم، وفوق هذا وذاك فهم يستفزوننا عبر إهانة لغتنا الجميلة، من كثرة فحش الأخطاء التعبيرية والنحوية، ولا نخال سيبويه إلا وهو يتملل في قبره.
برلمانيونا يبدون كمن لا شغل لهم ولا مشغلة، فهم لا يتواجدون حيث ينبغي أن يتواجدوا، وقت لا يكونون تحت قبة البرلمان، بين ناخبيهم وناسهم، يستمعون لهمومهم ومشاكلهم، ومتطلباتهم، ويتفقدون عمل السلطة التنفيذية، ويتابعون حسن سير تنفيذ المشاريع على قلتها، وعلى ما يبدو فهم ليسوا مصابين بلوثة الثقافة والمعرفة، لذا فهم لا يعطون من وقتهم حيزاً للتثقف والتعلم، ولا يعقل أن يتصوروا، أو يتصور بعضهم، أنهم تجاوزوا هذه المرحلة، واضحوا مُعلمين لا مُتعلمين، ليس في السياسة وشؤنها، وإنما في كل شيء، لذا أصبح ظهورهم المتكرر ( الإسهالي) على شاشات التلفزة، وسيلة لتثقيف وتنوير الأمة!.
إن ظهور البرلماني على شاشات التلفزة من دونما سبب قلّة أدب، وعندما لا يكون عنده ما يقوله، فخير له أن يتحدث عن هواياته، هذا إذا كان له هوايات أصلاً، ليسمعنا شعره ونثره ، وفنه، وليمتعنا بثقافته، أو ليسرد على مسامعنا تأريخه النضالي، إن كان له تأريخ نضالي، أو ليكرمنا بسكوته ويحترم عقولنا ويذهب إلى عمله، الذي هو المعيار لكونه نائباً جيداً أم لا، أما التهريج فهو ليس مهنة الذين هم تحت قبة البرلمان، وإنما مهنة من هم تحت قبة السيرك.
لم ننتخبكم لتعظوننا، أو تعطوننا دروساً في السياسة والعمل السياسي، ولا الإقتصاد والإجتماع، ولا في أي شيء، وإنما إنتخبناكم لتشرعوا لنا القوانين التي تنظم حياتنا، وتحمينا، ولنجعلكم مراقبين لسير عمل السلطة التنفيذية، بحيث تكونوا عيون الشعب الساهرة، والراصدة للحكومة، تصوبونها إذا أخطأت، وتحاسبونها إن أساءت، وتعززون إيجابياتها إن وجدت، ومُنحتم الحصانة لتقولوا أي شيء يخدم الناس، لا أن تسمعوننا وتسمعوا أطفالنا أقذع السباب والقذف والتشهير لمن تختلفون معهم، ليس داخل قبة البرلمان، وإنما على شاشات التلفزة، إنكم بهذا التصرف المُشين والمُتخلف، تعطون لأطفالنا المثل السيء في الإختلاف، ولغة الخطاب.
إذا خاصمت فخاصم بأدب، وإن إختلفت فإختلف بفروسيّة، ومثلما لا يستعمل القصّاب عدّة الشغل في الخصام، فليس من حقك أن تستعمل عدّة البرلماني، وهي الحصانة، أداة في خصوماتك شخصيّة كانت أم عامة. مُباح لك الإنتقاد بكل أشكاله، وصنوفه ودرجاته، وغير مُباح لك القذف والسب والتشهير، فهو يجعلك تحت  طائلة القانون، ويسقط عنك الحصانة بداهة، تلك الأداة التي لم تحسن إستعمالها، فخرجت عن أخلاق المهنة كخروج القصّاب الذي يستعمل عدّة الشغل في خصوماته.
إنتشرت محطات التلفزة الخاصة في العراق إنتشار الفطر.. كل من إمتلك المال والجاه فتح فضائيّة، والفضائية تحتاج إلى كادر، والكادر الإعلامي العراقي المدرب والمهني غير قادر على تغطية هذا العدد من الفضائيات، لذا دخل عالم الفضائيات كل من هبَّ ودب، بعضهم عبر دورات قصيرة، وبعضهم من دون هذا حتى، وهؤلاء يريدون إدامة البث، فليس أسهل من الإتصال بالسادة النواب لإملاء ساعات البث، ولا يعني هذا أن الفضائيات العراقية لا تملك الإعلاميين الجيدين، كلا فالإعلام العراقي زاخر بطاقات خلاقة، مشهود لها ويُشار لها بالبنان، وبرامج هذا النمط من الإعلاميين المميزة تلاقي قبولا متزايداً من المشاهدين، ولسنا بصدد ذكر هؤلاء الإعلاميين الناجحين، ولا ذكر برامجهم المميزة، كي لا نتهم بالمحاباة، ولكن أغلب المشاهدين يعرفون إلى من نشير، فالنجاح أولا وآخراً يفرض نفسه ، أما الحشو والتهريج فيذهب جفاءاً كما زبد البحر.
ظاهرة النواب القوالين، نتاج حالتين، تواجدتا، فنشأت ظاهرة البرلماني التلفزيوني، وهما ظهور عدد كبير من القنوات التلفزيونية، وإلإعلاميين غير الموهوبين، وغير  المهنيين، مع الحاجة الماسة لتغطية ساعات البث من جهة، والفقر الفني والأدبي والثقافي العراقي في المرحلة الحالية، والذي هو ليس بنتيجة إنعدام المثقف أو المفكر أو الأديب، أو الشاعر أو الفنان، أو المبدع، وإنما بسبب تغييب هؤلاء وتجاهلهم وسيطرة الجهل والجهلاء أو عديمي الموهبة، كما لم يتأت من عدم وجود القضايا الهامة التي يمكن أن يبحث فيها، والتي تفتح آفاقاً معرفية واسعة، ولا متناهية، وإنما الأمر على العكس من هذا تماماً فالواقع العراقي الراهن يُثير أسئلة وقضايا، لم تثر عبر كل تأريخه القديم والحديث، وهي أسئلة تحتاج إلى إجابات، وقضايا تستلزم البحث، ولا يجوز التقاعس عن الخوض فيها، ولكن الذي يحدث عندنا مع مزيد الأسف، هو أننا نترك المهم ونذهب لا للأقل أهمية وإنما لمن لا أهمية له، وبذا نضيّع الجهد والوقت، فيقطعنا الزمن بدل أن نقطعه.
والحالة الثانية التي أنتجت ظاهرة ( البرلماني التلفزيوني) هي دخول برلمانيين إلى قبة البرلمان من دون فهم حقيقي لمهمة البرلماني، ربما لأن أغلب هؤلاء البرلمانيين جاء عن طريق الإستعراض، والقوائم الكبيرة، التي كان الإعلام هو وسيلتها الأولى والأخيرة للوصول إلى الناس، وليس عن طريق الإتصال بالمنتخبين المعنيين في بيئة تواجدهم الحقيقية، وعند العديد من البرلمانيين أن الظهور المتكرر للبرلماني على شاشات التلفزة دعاية مبكرة ومجانية للنائب، ولذا فهو يحرص على هذه الوسيلة أكثر من حرصه على التواجد تحت قبة البرلمان، حتى ليبدو أن حضرة النائب المحترم ينبغي أن يكون له تعليق على كل حدث، أو إجراء، أو موقف، عراقياً كان هذا الإجراء أو الحدث، أو الموقف، أو غير عراقي، حتى ليبدو أحياناً أن السيد النائب سيرتدي جبة المفتي ليفتينا في كل شيء، بدءاً من ماء الوضوء، حتى منظومة التقاطع الصاروخي، والبرلماني في هذه الحالة يضيّع المشيتين، فلا هو بمستوى الإفتاء ليفتي، ولا هو برلماني يزاول مهامه البرلمانية المحددة.

No comments:

Post a Comment