مع حفظ الألقاب!
صباح علي الشاهر
ليس ثمة من يجادل في إختلاف الناس، شكلاً ولوناً، لساناً وفكراً، ولكن ليس ثمة من يصل به الجهل في زماننا هذا إلى إنكار حقيقة كون الناس جميعاً (متساوون)، لا لشيء إلا لكونهم بشرا. باتت هذه مسلمة لا يختلف إثنان لا فيها ولا عليها، ويمكن القول أن الكل يزايد في تبنيها والدفاع عنها إن صدقاً أو كذباً، عن إقناع أومُدارة، وليس ثمة دين سماوي أو وضعي ، لم يجعل المساواة بين الناس واحدة من أهم وأبرز منطلقاته العقائدية، أما الأحزاب والحركات السياسية الليبرالية والثورية فحدث ولا حرج.
لم تصبح هذه المسألة من البدهيات بسبب رغبات هذا المصلح أو ذاك، وإنما تكرّست عبر دروب الآلام، وإنهار الدماء، والتضحيات التي لاتُحصى، حتى أصبحت شيء كالبداهة.
لكن بعيداً عن المزايدات نجد أن الجميع يسعى للتمايز، حتى الأحزاب التي تدعي الثورية إبتدعت لقب ينادي به بعضهم بعضاً، بالنسبة للأحزاب الشيوعية واليسارية، والبعثية، (رفيق) مثلاً، أو (أخ) إذا كانت الأحزاب إسلامية أو دعوية، ولا يحسبن أحداً أن أمثال هذه المفردات لا يُراد بها التفاضل والتمايز، فهي في جوهرها عين التفاضل والتمايز، فالرفاق بالنسبة للأحزاب الثورية شيء آخر غير من هم ليسوا برفاق، والإخوان بالنسبة للإسلاميين شيء آخر غير أولئك الذين هم ليسوا بإسلاميين ولا دعويين، وفي أعماق الرفيق إنه لا يمكن أن يساوي بين من هو رفيق ومن هو ليس برفيق، وكذلك الإخواني لا يمكن أن يساوي بين من هو من الإخوان ومن هو من غير الإخوان . وتلكم مُسلمة، ( لا يتساوى الرفيق بغير الرفيق، ولا الأخ بغير الأخ، ومع أخذ المستجدات بعين الإعتبار لا يتساوى المجاهد مع غير المجاهد)، وكل قول غير هذا يندرج في مجرى المغالطة والنفاق، وإستطراداً نقول لا يساوي العربي بين العربي ومن هو غير عربي، ولا الكردي بين من هو كردي وغير كردي، ولا يساوي المسلم بين من هو مسلم وغير مسلم، ولا يساوي السني بين من هو سني أو غير سني، ولا يساوي الشيعي بين من هو شيعي وغير شيعي، مع التأكيد بأن مثل هذا القول لا يؤخذ على وجه الإطلاق والتعميم، فثمة من يساوي ولا يميز بين من ذكرنا، وهم يشكلون نسبة يُعتد بها، إذ ما أكثرالمتنورين، والإنسانيين بحق في مجتمعاتنا، ومما يُفرح أنهم في تزايد مستمر.
من يؤمنون بهذا التمايز ويجسدونه في أعمالهم وأقوالهم، لا تربطهم أية رابطة بالمساوة ، ولا بالعدل، ولا يرتجى منهم خيراً للبلد.
هذا النزوع نحو التمايز يتمدد داخل مجتمعاتنا وينغرز في العمق، بحيث يُراد له أن يصبح شيئاً مُسلماً به، ولا مندوحة عنه. لقد إستمعت مُشفقاً على أحد المتحدثين في أحدى القنوات الفضائيه، وهو مُرتبك، حيث لم تسعفه ذاكرته أو حافظته في إيراد الألقاب المناسبه لمحدثيه الذين كانوا بين وزير، ونائب، ومدير عام، وفريق ركن، فتفتق ذهنه عن جملة ( مع حفظ الألقاب)، فقد ضاع بين معالي، وسعادة، وسيادة، فإذا إضفنا من يشملهم الحديث ولم يكونوا موجودين، فيمكن إضافة دولة، وفخامة، وسماحة. يتذكر العراقيون أن بعض هذه المفردات كانت موجودة في مرحلة ما قبل ثورة الرابع عشر من تموز1958، وإن الثورة أسقطتها، وأكتفت بمفردة واحد، وهي (السيد) ، السيد رئيس الوزراء، السيد رئيس الجمهورية، السيد الوزير، السيد المدير، السيد الفراش. الكل سيد في مجتمع الأسياد. لقد زال مجتمع الأسياد والعبيد، ومجتمع النبلاء والعوام، واصبح نسياً منسياً، يُقرأ في بطون الكتب فحسب، فما بال ساسة هذا الزمن يعودون القهقرا، ويحاولون إحياء الرمم؟
أني لأعجب لمثقف يردد كالببغاء ما يريده ساسة قصيرو النظر، وأعجب لمثقف يتردد أو يرتبك، فلا فخامة، ولا دولة ولا معالي، فقط سيد، ومن يعجبه بهرج الألقاب فليخاطب نفسه بها، أما المثقفون فينبغي أن لا ينساقوا للجهل والتجهيل، ولمن يريد فرض التمايز بين الناس، بجعلهم مراتب وأصناف، لكل مرتبة وصنف منهم لقب يخاطبون به. الألقاب مهما علت لن ترفع من لا ترفعه أعماله، ومفردة سيد تليق بالعراقي، أنّى كان في السلم الإجتماعي، وفي الوظيف العمومي، فلا أحد فوق (سيد) العراقية، ولا أحد أدنى منها.
كانت مفردة ( الحجي ) وإلى فترة قريبة تشير إلى التدين وإكمال المُتدين للفروض الواجبة، لكنها أصبحت فيما بعد وجاهة تتفوق على غيرها، بات من حج بيت الله حريص على لقب الحجي، وربما يغضب إن لم يسبق أحدهم إسمه بهذا الوصف، ومع أن الحج خامس الفروض، ومع أن الصلاة مُتقدمه عليه، إلا أن المُصلي، حتى لو صلّى ليله ونهاره لا يلقب بالمُصلي، في حين يُلقب من حج بيت الله بالحجي. الصلاة يفعلها الجميع، الغني والمُعدم، لكن الحج لا يقدر عليه إلا من إستطاع إليه سبيلاً، والإستطاعة هنا لا تشمل الصحة فقط، بل الإقتدار والتمكن المالي، لذا فقد إتصف الحجيج عموماً، بالأخص في زماننا هذا بكون أغلبهم من المُقتدرين، وبمعنى آخر ممن وسّع الله في رزقهم، ومع الأيام أصبحت هذه الشعيرة بالنسبة للبعض من مُستلزمات الوجاهة والمكانة المرموقة، وأضحت مع مزيد الأسف وسيلة للتمايز، مع أن الحج شعيره مساواة كونيّة بين كل البشر، سوداً وبيضاً وصفراً، ومن مختلف الأجناس والأعراق، فإذا كانت الصلاة التي لا تنهى عن الفحشاء والمنكر والبغي ليست صلاة، فإن الحج الذي لا يكرّس قيم المساواة ليس سوى سياحة، وسيكون مثل الحجي في هذه الحالة كمثل الصائم الذي ليس له من صيامه سوى الجوع والعطش .
ليست المساواة قول يُقال، أو شعار يرفع، وإنما هي ممارسة وتطبيق على أرض الواقع، ومن يريد للمساواة أن تعم فعلاً عليه باديء ذي بدء أن يزيل كل الممارسات والأفعال والأقوال التي تكرّس ما هو بالضد منها، ويسن ويشرعن كل ما يؤكد ويعزز المساواة بين المواطنين.
يعلموننا بأن ( الناس سواسية كأسنان المشط) ، لكنهم يُميّزون أنفسهم بالفخامة والمعالي والسيادة والسعادة ، فبئس ما يقولون ويفعلون .
أخي المثقف، لا تتردد، ولا ترتبك، لا تقل ( مع حفظ الألقاب)، بل تحفظ على هذه الألقاب إن كنت غير قادر على رفضها، فهذه كما يقال ما أنزل الله بها من سلطان، وإنما هي من وحي الهيمنة وعشق الصولجان .
No comments:
Post a Comment