مقاربة لجغراسياسية مكان-( الخروج من عباءة البداوة)
صباح علي الشاهر
ما المقوصد (بنحن)؟
المقصود بـ( نحن) القوم أو الأقوام الذين عاشوا ويعيشون على هذه البقعة من الأرض الممتدة ما بين الماء والماء، والواقعة على قارتين، والمطلة على قارة، والمحاطة بأمم ذات تاريخ عريق، الفرس من الشرق، والترك من الشمال، والأحباش من الجنوب، قوم يتصلون عبر بحارهم، وشواطئهم وموانئهم بالعالم كله، دون وسيط، وعبر مسالك برية بالعالم القديم كله، الأغلبية المطلقة منهم عرب، عرب مسلمون، ومسيحيون، ويهود، وصابئة، وديانات ومذاهب شتى، وفيهم قوميات وأقوام عديدة كالكرد، والأمازيغ، والتركمان، والأفارقة، والشركس، والبلوش، وغيرهم، وكلهم يستظلون بخيمة ثقافية مُتجانسة، وقيم مُتشابهة، وأرض واحدة، وتأريخ واحد، ومصالح مشتركة، جذورهم الأقدم سومرية، وأكدية، وآشورية، وبابلية، وآرامية، وعبرية، وكنعانية، وقبطية، وبربرية، تنوعهم هذا كان وما يزال سبب قوتهم، لا ضعفهم، وسبب غناهم الروحي لا فقرهم، ولكن هناك من يريد أن يكون هذا التنوع سبباً لشيء آخر، ومدعاة للفرقة، والإحتراب، والتناحر الذي لا طائل من ورائه، ولا يؤدي إلا إلى الخراب والدمار والموات.
نظرة سريعة إلى تأريخ هذه الأمة، البعيد والقريب، تؤكد بما لا يدع مجالا للشك، أن كل أقوام هذه البقعة الجغرافية، على شتى إنتماءاتهم الدينية والمذهبية، وعلى إختلاف ألسنتهم، وتنوع أصولهم، قد أسهموا في تشيّد هذا الصرح الثقافي والمعرفي، في شتى الميادين الإبداعية واللغوية والعلمية، الدينية والفقهية والفلسفية، والأدبية، وليس ثمة حاجة لذكر هؤلاء الأعلام الذين سوف لن يستوعبهم أي بحث مهما إتسع، وقطعاً أنك ستجد بينهم العدد الوفير من العرب الأقحاح أو المستعربين، لكنك سوف لن تجد إلا ما ندر إعرابياً ( بدوياً).
من ذا الذي أوهمنا أننا أمة بداوة، مع أن البدو لا يشكلون سوى نسبة ضئيلة بيننا، وكيف شاع أن البدو هم أس أو مادة الإسلام، رغم أنهم كانوا على خلاف هذا، وقد كان الإسلام نقيض قيم البداوة والعصبية القبيلية، قال الله تعالى: ( الأعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنزلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ . وَمِنَ الأعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ .) التوبة/97-98 .
هم لا يعلمون حدود الله، وهذه حقيقة أقرها القرآن الكريم، فأنّى لهم بإقامة هذه الحدود أو الدفاع عنها، اللّهم إلا إذا أرادوا إقامة حدودهم هم لا حدود الإسلام الذي لم يعرفوه على حقيقته، يقول سبحانه وتعالى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} . سورة الحجرات آية - 14 -
لم يظهر الإسلام في صحراء النفوذ، والدهناء، ومشارف الربع الخالي، ولا بين البدو الرحل، وإنما ظهر في الحواضر الحجازية ( مكة والمدينة )، وبين المُتحضرين من العرب، لا الأعراب، وانتشر وأزدهر في حواضر العرب، البصرة، والكوفة، ودمشق، وبغداد، والقاهرة، والمدن الزاهرة في الشمال الأفريقي، وحواضر غير العرب ري، وخوارزم، وبخارى، وسمرقند، وغرناطة، وغيرها.
لم تنتج الصحراء علماً وفقهاً، وفلسفة، لأنها غير مؤهلة لهذا، لكنها قدمت وعبر حقب التأريخ المتتالية التكفيريين القساة، والمخربين، وصناع الموت والدمار، بدءاً بالخوارج، وصولاً إلى القاعدة ( إحنه تنظيم إسمنه القاعدة، نقطع رقاب ونقيم الحدود). نعم، قطع الرقاب هذا ما يتقنونه، وهذا ما تربوا عليه، هؤلاء الغلاظ، القساة القلوب، الذين لم تتنور أعماقهم برحمة الإسلام، ولا اهتدوا بهديه، والعجب أنهم يريدون إقامة الحدود التي لا يعرفونها كما أخبرنا القرآن الكريم، لقد أصبح شغلهم الشاغل قطع رقاب العباد الأبرياء، وتحويل حياة الناس إلى جحيم، وتدمير المدنية التي بنتها جهود البشر، كل البشر، على مدى الدهور والأزمان .
إننا أمام ثقافة قطع الرؤوس التي لها تأريخ، وعلينا أن نقر بهذا، فهذا البدوي الجاهل، يستلهم المثل ممن حسبهم قادة الأمة والمسلمين، أولئك الذي إذا غضبوا من شخص طلبوا إحضار رأسه، وإن كان على بعد آلاف الفراسخ، وإذا لم يعجبهم قول أحدهم، أمروا سيافهم، الذي ومن عجب، كان يرافقهم في حلهم وترحالهم، وحتى في لهوهم وسمرهم، أمره بقطع رأس ذاك المغضوب عليه لأتفه سبب. قطع رؤوس العباد، كان ومايزال أقصر طريق لتوطيد هيبتهم وسطوتهم، ومن دونما قاض ولا محكمة. كانت مهمة الحكام لفترة طويلة من الزمن قطع الرؤوس بحجة حماية الناس والدين، في حين أنهم لم يكونوا يحمون سوى عروشهم، اما قيم الدين ومثله فقد كانت تُنتهك، وأول ما تُنتهك في قصورهم، وقصور حواشيهم وأتباعهم.
كل الشرائع السماوية تنطلق من منطلق أساسي، ومقصد مركزي، ألا وهو جلب المنافع للناس ، ودفع الضرر والضرار عنهم، وصون حياتهم، يقول نبي الرحمة " لأن تُهدم الكعبة حجراً على حجر أهون عند الله من قتل أمريء بغير حق". أليس هذا هو الإسلام المحمدي الذي عرفه الناس وآمنوا به، فألى أين ينتمي إسلام قطع الرؤوس هذا؟
ثمة تجهيل يستهدف الناس بأسم الدفاع عن الإسلام وحمايته من أعدائه المتخيلين أو المفبركين، وثمة تأجيج للكراهية والحقد، تقوم به مؤسسات لاحصر لها ولاعد يُنفق عليها لا ملايين الدولارات بل ملياراتها، وثمة من يسعى لإدامة محرقة ومثرمة بشرية إن إستمرت فإنها سوف لن تبقي ولاتذر، ومثلما كانت الكنيسة في عصور الظلام تبيع صكوك الغفران لمن يضحي بنفسه من أجل الكنيسة، فإن البعض يمنح المغفلين مسكن في الجنة مع حور العين لمن يقتل مخالفاً، وربما يتسنى له الغداء مع النبي الأكرم إن قتل عشرة!
من هذا الذي جعل شبابنا لقمة سائغة لأمثال هؤلاء المخبولين والمهووسين؟
من جعل أجساد شبابنا القاتل منهم والمقتول، وسيلة لتمرير أجندات مشبوهه، هي في حقيقتها على الضد من مصلحة شعوبنا، وعلى خلاف ما يأمر به ديننا الحنيف، وعلى الضد مما أمرنا به نبينا، نبي الرحمة؟
أليس المسؤول عن هذا تعليمنا وتربيتنا، ومناهج مدارسنا، وحكامنا، وقادتنا، وأحزابنا، ومنابرنا، وتأريخنا المشوه المزيف، وصمت نخبنا الثقافية عن قول الكلمة التي عليهم الجهر بها بأعلى صوت؟
أليست مسؤولة عن هذا وسائل إعلامنا، صحافتنا، وإذاعاتنا، وقنواتنا الفضائية والأرضية؟
لماذ استقالت المدنية والتحضر، وتُركت البداوة تتغوّل، وتُحدد لنا نمط عيشنا في القرن الحادي والعشرين؟
قبل أن نفكر في الإتجاه شرقاً وشمالا وجنوباً، علينا أن نحسم قضية بالغة الأهمية، ألا وهي بأي وجه نتجه للعالم، وما هي بضاعتنا؟
مثلما لنا نحن العرب أعرابنا ( بدونا) فكذلك الأمم الأخرى، إنطلاقاً من صحراء ( غوبي) في منغوليا، وصحراء( قرة قرم) و( كايزل كوم) في أواسط آسيا، وصحراء ( لوط) في إيران، وصحراء (الرمال العظمى) في إستراليا، و (شيهو هوان) بين أمريكا والمكسيك، وصحراء (موجان) و(وادي الموت) في كاليفوريا، وصولاً إلى صحراء (كلهاري) في جنوب أفريقيا.
ومثلما لكل هؤلاء صحاريهم وبدوهم، فلنا صحارينا وبدونا أيضاً، الذين هم جزء من نسيجنا، ولكنهم ليسوا المعبرين عنا ولا الناطقين باسمنا، وبالأخص المنغلقين والمتعصبين والمتشددين منهم، وبالتحديد قاطعي الرؤس الذين لا يقرون أننا متنوعين، ولا يقبلون بالتنوع والإختلاف، ولا يعترفون بحق الآخر في العيش في هذا الوطن، إلا إذا أصبح إعرابياً صفرياً، يحرم كل ما أحل الله.
الفرق بيننا وبين خلق الله أجمعين، أنهم تحضروا بعد بداوة، أما نحن فيراد لنا أن نكون بدواً بعد أن كنا مُتحضرين، نفاخر بتحضرنا قبل الإسلام، وتعمق تحضرنا وتبلور إنسانيتنا بعد الإسلام، وبفضل الإسلام .
لسنا عرب فقط، ولا مسلمين فقط، وإنما نحن شعوب كل هذه الرقعة الجغرافية التي إتسمت بثقافة موحدة، ومن أجل أن ننفتح على العالم ينبغي أن ننفتح - باديء ذي بدء- بعضنا على بعض، وقبل أن نقترح التعاون على من هو خارجنا، علينا أن نتعاون بعضنا مع بعض، وأن نشيع التسامح بيننا، وأن ننبذ شهية إقصاء وتهميش الآخر، وأن نعترف بالتنوع والإختلاف، فهو سر الخلق كله.
لا خيار أمامنا، سوى الخروج من عباءة البداوة، التي يراد إلباسها لنا عنوّة .
- يتبع-
No comments:
Post a Comment