Wednesday 21 September 2022

{الفكر القومي العربي} التداعيات الفورية العالمية للتعبئة الروسية الجزئية

التداعيات الفورية العالمية للتعبئة الروسية الجزئية

بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي

لم تكد تمض دقائق قليلة على خطاب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في موسكو يوم أمس، الذي كان خطاباً استثنائياً وغير عادي، حتى بدأت تداعياته الكبيرة تنعكس على العالم كله، فقد دعا إلى التعبئة الجزئية في صفوف الجيش الروسي، والتي تعني استدعاء ثلاثمائة ألف جندي من مختلف الوحدات العسكرية، وتغيير خطة المعركة واسمها، لتكون حرباً حقيقية شامل ضد أوكرانيا، التي انقلبت حكومتها على التفاهمات، ورضيت بأن تكون أداةً بيد الولايات المتحدة الأمريكية والغرب، واستخدمت –بغباء- الشعب الأوكراني ليكون "علفاً" وقوداً للحرب على مذبح المصالح الغربية.

 

ويندرج تحت التعبئة الجزئية الروسية تجهيز الأسلحة الاستراتيجية الفتاكة، وفتح بوابات الترسانة النووية المدمرة، والتلويح باستخدامها، رداً على التهديدات الأمريكية والأوروبية، وتدخلهم في الحرب لصالح أوكرانيا، وتزويدهم لها بالسلاح النوعي والمعلومات الدقيقة، وانخراطهم الفعلي بالقتال من خلال خبراء عسكريين ومتطوعين من كبار الضباط المتقاعدين، على أمل استنزاف الجيش الروسي، وتكبيد الخزينة الروسية خسائر كبيرة، إلى جانب العقوبات الاقتصادية المرهقة التي فرضت على شخصياتٍ وقطاعات اقتصادية روسية فاعلة.

 

التعبئة الجزئية الروسية يوم أمس تعني بكل وضوح وصرامة أن هزيمة روسيا غير ممكنة، وأن انتصار أوكرانيا مستحيل، وأن كرامة موسكو يجب أن تحفظ، وأن إهانتها لن تقبل، وأن الحصار عليها لن يفرض، وعلى دول أوروبا أن تدفع ثمن عنجهية حكومتها وتبعيتها للإدارة الأمريكية، وأن تتحمل كامل المسؤولية عن قراراتها الطائشة، ورهانها الخاطئ، وتخليها عن الجار القريب والأمن الحقيقي، لصالح حليفٍ بعيدٍ وأمنٍ زائفٍ.

 

التعبئة الجزئية تعني أن بوتين لن يسمح بانكسار بلاده أو ضعفها، ولن يقبل بإطالة أمد الحرب واستنزاف بلاده، ولن يوافق على أنصاف الحلول والتفاهمات الملغومة، ولن يعود من الحرب قبل تحقيق أهدافه، كما لن يسمح لأوكرانيا بأن تكون مخلب الغرب ضد بلاده، ولا جبهةً مفتوحةً في مواجهة جيشه، ولا ساحةً للعبث والتهديد الأمريكي المستمر لأمن وسيادة بلاده.

 

ألقى خطاب بوتين بظلاله القاسية على الأسواق العالمية، فاهتز عرش الدولار الأمريكي كما لم يضطرب منذ عشرين عاماً، وسجل اليورو تراجعاً كبيراً ليسجل أدنى سعر له مقابل الدولار الأمريكي، وهبطت أسهم البورصات الأوروبية، وتراجعت قيمة أسهم الشركات، وارتفعت فواتير الكهرباء، وتقنن استخدام الغاز، وبدأت الحكومات الأوروبية في مراجعة دفتر الرفاهية الاجتماعية، وصناديق التعاضد والتأمين والشيخوخة والمرضى، ومساهمات الدولة في رفاهية مواطنيها.

 

وأعلنت كبرى شركات الاستيراد الأوروبية، العاملة في أسواق القمح والمحاصيل الزراعية، أنها تواجه مشاكل كبيرة في عقد صفقاتٍ جديدةٍ، ولا تستطيع تحمل تكاليف شركات التأمين الدولية، التي باتت بوالصها تفوق ثمن البضائع المنقولة، في ظل ندرة المصادر الأخرى وفقر الأسواق العالمية وحاجتها للقمح والبذور والأسمدة الأوكرانية والروسية معاً.

 

أما أسواق النفط الأوروبية فقد كانت الميزان الحساس والمؤشر الأدق لخطاب بوتين، وهي المعيار التي على أساسها تقاس الأمور وتحدد الاتجاهات، فبعد أن هدأت الأسواق العالمية لعدة أسابيع سابقة، وتراجع سعر برميل النفط نسبياً، عادت اليوم لتقفز من جديد، وتهدد أوروبا كلها بالعتمة والبرد، وبالجمود الاقتصادي وتوقف عجلة الإنتاج، وتعطل الحياة العامة، ما دفع العديد من المراكز والهيئات الأوروبية المختصة لاستدعاء ملفات الحرب العالمية الثانية، والظروف الاقتصادية الطاحنة التي كانت سائدة، وسياسة البطاقات التموينية، وحساب السعرات الحرارية اللازمة لكل مواطن للبقاء على قيد الحياة.

 

قد لا يكون خطاب بوتين هو الخطاب الأخير في الحرب الروسية الأوكرانية، فهو خطاب التعبئة الجزئية، والاستدعاء المحدود لعناصر وضباط الجيش الروسي، في رسالةٍ واضحة إلى قادة أوروبا والإدارة الأمريكية، أن يعودوا إلى رشدهم، وأن يكفوا عن عبثهم، وأن يتفهموا المصالح الروسية الاستراتيجية، والامتداد الجيوسياسي الطبيعي لبلادهم، وإلا فإن خطاب التعبئة الشاملة، والاستدعاء الكلي للجيش والقوات المسلحة، وتفعيل الصندوق النووي قد يكون الخيار الأخير لروسيا والعالم له معها.

 

بيروت في 21/9/2022

moustafa.leddawi@gmail.com

--
You received this message because you are subscribed to the Google Groups "الفكر القومي العربي" group.
To unsubscribe from this group and stop receiving emails from it, send an email to alfikralarabi+unsubscribe@googlegroups.com.
To view this discussion on the web visit https://groups.google.com/d/msgid/alfikralarabi/CA%2Bk3Ojg%3DZM%3DvWPPJ%3Dpe8aGZ1iC6F7iXmD3Jvp1oJCOggwZyd5A%40mail.gmail.com.

Tuesday 20 September 2022

{الفكر القومي العربي} سحق الضفة الغربية بين رحى المداهمات وتهديد الاجتياح

سحق الضفة الغربية بين رحى المداهمات وتهديد الاجتياح

بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي

ما زال الخلاف محتدماً لدى صناع القرار الأمني والعسكري الإسرائيلي، فضلاً عن حالة الإرباك العامة التي أصابت حكومة تصريف الأعمال، عشية اقتراب موعد الانتخابات التشريعية الخامسة، فيما يتعلق بالأسلوب الأفضل والشكل الأنسب للتعامل مع الفلسطينيين في الضفة الغربية، لضبط الأمن فيها، وتحقيق الاستقرار، وتفكيك المجموعات الأمنية والخلايا المسلحة، واعتقال الناشطين والمشتبه فيهم، وإحباط العمليات المتوقعة وتحييد الشخصيات الخطرة، وتأمين المستوطنين وحمايتهم وممتلكاتهم.

 

يتفاقم الخلاف وتتعقد الحلول الممكنة في ظل تزايد عمليات المقاومة التي تنفذها قطاعات فلسطينية مختلفة، من مختلف الشرائح الاجتماعية والطبقات العمرية، ومن سكان المدن والمخيمات والبلدات على السواء، وما تلحقه هذه العمليات سواء نجحت أو فشلت، من نتائج سلبية على المجتمع الإسرائيلي، سواء كانت نتائجها سقوط قتلى ووقوع جرحى، أو تسببت في حدوث حالاتٍ من الخوف والفزع، والاضطرابات النفسية التي يتعقد علاجها ويطول زمنها، وتتفاقم مع مرور الوقت نتائجها السيئة، بكل ما تعنية من تداعيات مقلقة على الأسر اللصيقة والمجتمعات القريبة، والكلفة العالية التي يتطلبها العلاج والرعاية والمتابعة، حيث تشير سجلات الأطباء النفسيين، والمصحات النفسية الإسرائيلية العامة، إلى تزايد أعداد المرضى نفسياً، وارتفاع عدد المراجعين لهم، نتيجة الخوف والهلع والإحساس بدنو الخطر منهم.

 

أمام هذا الواقع المقلق تتعالى أصواتٌ إسرائيلية ومن بينها صوت وزيرة داخلية العدو إيليت شاكيد وغيرها، تدعو رئيس الحكومة يائير لابيد والمجلس الأمني المصغر، إلى سرعة الانعقاد واتخاذ قراراتٍ حاسمةٍ من شأنها التعجيل بشن عملية عسكرية واسعة وشاملة، تطال كل مناطق الضفة الغربية، ولا تقتصر على محافظتي نابلس وجنين، وإن كانتا الأكثر سخونة وفعالية، والتي فيهما تجري أغلب عمليات المقاومة، ومنهما تنطلق إلى بقية المناطق، إلا أن اقتصار الحملة العسكرية عليهما من وجهة نظرهم، يعني انتقال الخطر منهما إلى غيرهما من المناطق، التي تبدي استعدادها لأن تتبع خطواتهما وتنفذ عملياتٍ موجعة مثلها.

 

يرى هذا الفريق أن الاجتياح الشامل، وتنفيذ عملية واسعة تشبه عملية "السور الواقي"، هي الوسيلة الأنجع والأسرع، وهي السبيل الوحيد لضمان أمن المستوطنات، والتخلص من حالة الصداع المزمن التي تعيشها الحكومة والأجهزة الأمنية، والسلطات المحلية للبلديات والمستوطنات، التي باتت مستنفرة على مدى الساعة، تحرس وتراقب وترسل المعلومات، وتعتقد أن وسيلتها لدفع الخطر وجلب الأمن واستعادة الحياة الطبيعية، لا تتحقق إلا باجتياحٍ جديدٍ لجميع مناطق الضفة الغربية، وإعادة تقسيمها وتصنيفها وفرض نظام أمني وعسكري شديد عليها.

أما الفريق الآخر، الذي يمثله قادة الأجهزة الأمنية، وفي مقدمتهم رئيس الشين بيت "الأمن الداخلي الإسرائيلي"، ومعهم قطاع غير قليل من قدامى الأمنيين والعسكريين، وعدد من كبار الضباط المتقاعدين، ونخبٌ من الباحثين والمهتمين الاستراتيجيين، فيرون أن اجتياح الضفة الغربية ضمن عملية عسكرية واسعة وشاملة، بما يشبه عملية السور الواقي عام 2002، يعتبر خطأً استراتيجياً فادحاً، وسيكبد جيشهم خسائر فادحة، وسيوسع دائرة العنف، وسيدفع عناصر السلطة الفلسطينية وأجهزتها الأمنية للمشاركة في عمليات المقاومة، والانخراط في صفوف الانتفاضة إذا اندلعت.

 

يفضل هذا الفريق الحفاظ على شكل العمليات الأمنية الجارية، وتكثيفها إن تطلب الأمر، وتوسيعها في أكثر من مكان، ولا يرون بأساً في تزامنها، على ألا يبقى الجيش في المناطق، وإنما ينسحب بعد كل عملية، وبذا يتجنبون الخسائر الكبيرة في عناصر الجيش والوحدات الخاصة، وينأون بأنفسهم عن اعتراض الإدارة الأمريكية وبعض الدول العربية التي تتفهم عملياتها الأمنية، بينما لا تقوى على احتمال حربٍ أو اجتياحٍ واسعٍ للضفة الغربية، فضلاً عن أن كرة اللهب قد تخرج عن السيطرة وتكبر، ويعجز الجيش عن ضبطها في مكانها، فتتسع لتشمل كامل الضفة الغربية، وتطال البلدات العربية في عمق الكيان.

 

كما ينظر هذا الفريق بعين الخطورة إلى أن مثل هذه العملية قد تسقط السلطة الفلسطينية الضعيفة أصلاً، وقد تودي بهيبتها وتنهي سلطتها، ويفلت زمام الأمن من يديها، وتعم الانتفاضة كل الضفة الغربية وغيرها، وقد تنخرط عناصرها في صفوف المقاومة، وهي عناصر مدربة ومؤهلة، ولديها أسلحة وعندها خبرة، وحينها سيجد الجيش نفسه في مواجهة شديدة ودائمة مع الفلسطينيين، وهذا ما لا يرغب به الجيش، وما لم يستعد له.

 

بين هذين الخيارين، وتحت وقع سنابك هذين الفريقين، تمضي سلطات الاحتلال الإسرائيلي في قمع الضفة الغربية وسحق أهلها، والاعتداء على سكانها، فتجتاح مناطقها كل يومٍ وتقتل أبناءها، وتعتقل العشرات من رجالها ونسائها، وتعيث فساداً فيها، وتستمر في عملياتها العدوانية بما يجعل منها اجتياحاً كاملاً وحرباً شاملةً، تفرض على الفلسطينيين جميعاً مواجهتهم والتصدي لهم، وهو ما يقومون به يومياً، وقد أظهروا للعدو صموداً وثباتاً، وعناداً وإصراراً، وقوةً وعزيمةً، ولا أظنهم سيسمحون له بالتفرد بمناطقهم، ولا ببسط سيادته عليهم من جديدٍ، وإخضاعهم لقوته مرةً أخرى.

 

بيروت في 20/9/2022

moustafa.leddawi@gmail.com

--
You received this message because you are subscribed to the Google Groups "الفكر القومي العربي" group.
To unsubscribe from this group and stop receiving emails from it, send an email to alfikralarabi+unsubscribe@googlegroups.com.
To view this discussion on the web visit https://groups.google.com/d/msgid/alfikralarabi/CA%2Bk3OjiQCqWSRBh706ZnBf9tfd6bD_t-tG3LUAjRAC7rSLAkOQ%40mail.gmail.com.

Sunday 18 September 2022

{الفكر القومي العربي} الفلسطيني في وطنه علامةُ وجودٍ وثباته نصرٌ موعود




الفلسطيني في وطنه علامةُ وجودٍ وثباته نصرٌ موعود

بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي

لا شيء أعظم مقاومةً في فلسطين المحتلة، وأدعى إلى النصر والتحرير، وأقرب إلى العودة والتمكين، وأكثر ألماً للعدو ووجعاً له، وأشد خوفاً على مصيره وقلقاً على وجوده، من ثبات الفلسطينيين في أرضهم، وتمسكهم بحقوقهم، وصمودهم أمام ممارسات العدو وسياساته، وإصرارهم على مواجهته، وتحديهم لجبروته، وإذلالهم لجيشه، وصبرهم على معاناتهم، ويقينهم بانتصارهم، وثقتهم بمقاومتهم، واطمئنانهم إلى حتمية انتصارهم وزوال الاحتلال ورحيله، وطي صفحته وتفكيكه.

 

الفلسطينيون الباقون في وطنهم بقاء جبالها وسهولها، وبحرها وسمائها، والمتجذرون في عمقها تجذر أشجار زيتونها، والمنتشرون فيها انتشار زعترها وعوسجها، والمتضوعون عطراً في أرجائها عبق ياسمينها وأريج زنبقها، سيبقون أبداً شوكةً في حلق الاحتلال حتى يرحل، وصخرةً في وجهه حتى يتفكك، وسداً منيعاً يفشل مشاريعهم، ويبدد أحلامهم، ويحبط آمالهم، وينهي وجودهم مهما كانت قوتهم وعظمت قدراتهم تفوقت أسلحتهم، وأياً كان حلفاؤهم ورعاتهم ومؤيدوهم ومناصروهم.

 

الفلسطينيون باقون في حيفا ويافا، وفي عكا والناصرة، وفي الخضيرة والعفولة، وفي اللد والرملة، وفي القدس والنقب، وفي الضفة الغربية وقطاع غزة، وفي المثلث ووادي عارة، وفي كل مكانٍ في فلسطين سيبقون، وفي كل بقعةٍ من أرضها سيكونون، وفي جنباتها سينتشرون، ولن يوقف امتدادهم عدو، ولن يحول دون بقائهم في أرضهم عسفٌ أو ظلمٌ، ولن يقوى متطرفٌ صهيوني أو يمينيٌ إسرائيلي من طردهم وترحيلهم، وسيتبدد حلمهم في قطار الترحيل، وسيموت مشروع "الترانسفير"، وسيولد مكانه حق الفلسطينيين في أرضهم وحدهم، وحينها سيخلق مشروع الترحيل المضاد و"الترانسفير" المعاكس، الذي سيكون يهودي الوجه صهيوني الهوية.

 

تراقب الإدارة المدنية الإسرائيلية في القدس والضفة الغربية وقطاع غزة أعداد المواليد الفلسطينيين، وترفع تقاريرها اليومية إلى حكومتها وسلطاتها الحاكمة، وتكشف لهم عن عمق قلقها وشديد استغرابها من المتوالية الهندسية في أعداد المواليد الفلسطينيين، ويزيد في قلقها عدد المواليد الذكور الذين يفوقون بصورةٍ لافتة أعداد المواليد الإناث، وتذكر تقاريرهم أن هذه الظاهرة تشير إلى ظاهرةٍ عامةٍ وليست خاصة، وأنها حالة دائمة ومتجددة وليست طارئة أو عابرة، وأن أعداد الفلسطينيين في "مناطق الصراع" ستتجاوز في السنوات القليلة القادمة أعداد "اليهود" عموماً في فلسطين المحتلة.

 

أما عين وزارة داخلية الاحتلال فهي مفتوحة كلياً على الفلسطينيين القابضين على الجمر في الأرض المحتلة عام 1948، فهؤلاء لا يقلون خطراً عن فلسطينيي العام 1967، بل إنهم أشد خطراً على كيانهم، وأعدادهم المتزايدة كماً ونوعاً تقلقهم أكثر، فهم يمثلون اليوم نسبةً تتجاوز ألــــــ 10% من سكان الكيان، ولهم ممثلون وطنيون عنهم في "الكنيست الإسرائيلي"، وقد يصل عدد نوابهم إلى أكثر من 13 نائباً، وهم كبقية شعبهم في فلسطين التاريخية، يتزوجون مبكراً، وينجبون أكثر، ويعتزون بعدد أولادهم وزيادة نسلهم، ويفتخرون بكثرة أنسبائهم وسواد عشائرهم.

 

الهوية الوطنية الفلسطينية اليوم في فلسطين كلها تتشكل بقوةٍ كما لم تكن في أي وقتٍ مضى، وتتعمق في الأرض كما لم تكن في تاريخها، وعياً وفهماً وعقيدةً وانتماءً، فهم يصبغون أرضهم ويلونون بلادهم، وينغرسون فيها عميقاً، وينتشرون فيها بعيداً، وسحناتهم تتقدم، وأزياؤهم الوطنية تسود، ولغتهم العربية تعلو، ودينهم الإسلامي والمسيحي يسمو، ولا يفت في عضدهم جرائم القتل اليومية التي يمارسها العدو ضدهم، ولا عمليات التصفية والإعدام، أو قرارات التوقيف والاعتقال، والطرد والإبعاد، ولسان حالهم يقول أن الشهيد يعوض بألف طفلٍ وطفلٍ، والأسير من خلف الجدران ومن زنازين العزل يهرب نطفه ويرسل بعضه، فينجب من سجنه أطفالاً يحملون رسالته، ويرثون هويته، ويثبتون حقه، ويقارعون العدو بقوةٍ وبسالةٍ أكثر منه.

 

ظن العدو أن ثقافة اللجوء عند الفلسطينيين باقية، وأن سياسة النزوح عندهم موجودة، وأنهم عند كل حربٍ أو معركة، أو خلال أي عدوانٍ أو اجتياح، يهربون من بلادهم، ويتخلون عن دورهم، وأنهم سيكررون من جديد تجربتي اللجوء والنزوح كما في حربي النكبة والنكسة، وما علموا أن الفلسطينيين قد شطبوا من حساباتهم وأخرجوا من دائرة تفكيرهم مثل هذه الأفكار.

 

فهم لن يكرروا أبداً تاريخهم، ولن يعيدوا أخطاءهم، وسيبقون في أرضهم ولو زلزلها العدو تحت أقدامهم بسلاحه، أو أحرقها ودمر بنيانها بصواريخه، ولعل العدو قد أيقن تماماً أنه لن يتمكن من طرد الفلسطينيين مجدداً من أرضهم، ولن ينعم بتحقيق حلمه القديم "أرضٌ أكثر وسكانٌ أقل"، فهذا الشعب سيبقى، وأرضهم ستعود، وشعبهم إليها سيعود، ودولتهم فيها ستعلن، وعلمهم في سمائها سيرفع، وأذانهم في أقصاها سيصدح، كما أجراس كنائسها فيها ستقرع.

 

 

بيروت في 18/9/2022

moustafa.leddawi@gmail.com

--
You received this message because you are subscribed to the Google Groups "الفكر القومي العربي" group.
To unsubscribe from this group and stop receiving emails from it, send an email to alfikralarabi+unsubscribe@googlegroups.com.
To view this discussion on the web visit https://groups.google.com/d/msgid/alfikralarabi/CA%2Bk3OjgVjFToretJgZ4CnpJEDkosHaHa_aUCBTgFrrMR_73N%2BQ%40mail.gmail.com.

Thursday 15 September 2022

{الفكر القومي العربي} السورُ الواقي في نسختِه الجديدة وطبعتِه الثانية

السورُ الواقي في نسختِه الجديدة وطبعتِه الثانية

بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي

أمام سيل عمليات المقاومة الفلسطينية، الشعبية والفصائلية، التي باتت تزداد أعدادها وترتفع وتيرتها، ويتنوع منفذوها، وتتشكل أسلحتها وتتطور أدواتها، ويتوسع إطارها من شمال الضفة الغربية إلى جنوبها ووسطها، ويسقط فيها قتلى إسرائيليون وجرحى، وتضطرب الحياة وترتبك الحركة، ويشيع بين المستوطنين القلق ويسود في صفوفهم الخوف، وتعلن الأجهزة الأمنية عجزها عن السيطرة وتراجع قدراتها على الضبط وحفظ الأمن، ويحار المسؤولون الإسرائيليون عن وصف ما يجري وتفسير ما يقع.

 

تهدد حكومة يائير لابيد السلطة الفلسطينية بأنها ستنفذ في الضفة الغربية عمليةً عسكريةً جديدة، تشبه عمليتها الأولى التي نفذها أرئيل شارون عام 2002، وأطلق عليها اسم السوار الواقي، وفيها أعاد احتلال مدن الضفة الغربية، وبسط جيشه السيطرة الأمنية الكاملة على المنطقة المصنفة "A"، فضلاً عن سيطرته التامة على المنطقتين "B" و "C"، وأخضع الضفة الغربية بكاملها لإجراءاته الأمنية وسياساته العسكرية، وأصبح الجيش يجتاح متى يشاء أي منطقةٍ فيها، فيلاحق ويقتل ويعتقل، ويقتحم ويدمر ويخرب.

 

يهدد جيش الاحتلال المهزوزة صورته، والراحلة قيادته، والجديدة أركانه، في ظل تهديداتٍ متصاعدة شمالاً من لبنان وسوريا، وجنوباً من غزة ومقاومتها المتربصة، ونووياً من إيران ومشروعها، بأنه سينفذ المهمة العسكرية بنفسه، وسيجلب الأمن لمستوطنيه بيده، وسيفرض الاستقرار والهدوء في الضفة الغربية، في عمليةٍ جديدةٍ يطلق عليها اسم "السور الواقي 2"، وكأنه قبل اليوم لم ينفذ عملياتٍ عسكريةٍ قاسيةٍ لم تنته، فجيشه يجتاح ويقتحم، وأجهزته الأمنية تنفذ عملياتٍ نوعيةٍ، وفرقه المستعربة تقوم بعمليات إعدامٍ وتصفيةٍ علنيةٍ في الشوارع والطرقات، ويقوم الجيش بتأمين دخولهم وضمان خروجهم سالمين من مناطق المهمات الخاصة.

 

رغم هذه التهديدات المتصاعدة والتصريحات الإسرائيلية اللاهبة، التي لا يلتفت إليها الفلسطينيون ولا يعبأون بها، فهم يقولون للعدو "أعلى ما في خيلك اركب"، إذ لن يصيبهم أكثر أو أسوأ مما أصابهم، ولسان حالهم يقول "أنا الغريق فما خوفي من البلل".

 

فالعدو لم يوقف في تاريخه حملاته العسكرية والأمنية عليهم، وما زالوا حتى اليوم يواجهون عمليته المستمرة المسماة "كاسر الأمواج"، التي لم تحقق شيئاً من أهدافهم، ولم تمكن رؤساء حكوماتهم من تسجيل نقاط كسبٍ لصالحهم، بل عكس ذلك أصابهم، إذ زادت عمليات المقاومة الفلسطينية حدة، وإن كانت أعداد شهدائهم في ازدياد، إذ لا يجد العدو سبيلاً لمواجهتهم إلا المزيد من القتل والاعتقال، وهذا سبيلٌ سلكه من قبل ولم يتوقف عنه، ولم يستفد منه أو ينجح فيه، وقد ذاق مرارته الفلسطينيون ولم يهزموا أمامه أو ينكسروا له ويخضعوا، ولم يخافوا منه ويجبنوا.

 

يبدو أن عيون العدو مفتوحة على جنين، محافظةً ومدينةً ومخيماً، ويريد أن ينفذ فيها، رغم خسارته المؤلمة وخزيه الشديد، ما نفذه ضد مخيمها عام 2002، فجنين توجعه وتؤلمه، وتواجهه وتتحداه، وتهزأ به وتتهكم عليه، وتحرجه وتستخف به، وتصمد في وجهه وتبزه، ورجالها يجوبون الآفاق يلاحقون جنوده ومستوطنيه، وينفذون في عمق المدن "الإسرائيلية" أكبر العمليات، ويسطرون بشجاعتهم أعظم الملاحم، وقد أعيته هذه المدينة التي يرتبط اسمها باسم عز الدين القسام، فتزداد بالنسب قوةً، ويتعاظم دورها بالأمل المعقود عليها عملاً، ويخشاها العدو ورجالها فعلاً.

 

إلا أن جنين لم تعد وحدها، فهذه نابلس تتنافس معها، وتتقدم عليها وتدعمها، ويخوض أبناؤها إلى جانب أبطال جنين عملياتٍ مشرفةٍ، يرسلون من خلالها رسائل عديدة، أولاها إلى العدو أن الضفة الغربية لن تخمد جمرتها، وأن مدينة جبل النار لن ينطفئ أوارها، وأن المقاومة مستمرة، والصمود باق، وأن التضحيات تزيدها قوة ولا تقعدها، وتجدد ثورتها وتضخ دماءً جديدةً في مقاومتها.

 

أما أخوات نابلس وجنين، فهن ضواري مثلهن، ويتربصن كشقيقاتهن، ويتهيأ أبناؤها لأن يكون لهم دورٌ في الصدارة، وسهمٌ في المقاومة، فهم يعلمون أن "وفي هذا فليتنافس المتنافسون"، وقد قرروا المنافسة، وأعدوا عدة المواجهة، وأياً كانت خطة العدو وعمليته، كاسر الأمواج كانت أو سوراً واقياً كررت، فإن المقاومة كفيلةٌ أن تنسي العدو برجالها وساوس السيطرة، وأحلام الهيمنة، وأماني الأمن ورجاء الاستقرار.

 

الضفة الغربية كما غزة وعموم فلسطين، يقولون بالدم والنار أنه لن يهنأ في فلسطين عدوٌ غازي، ولن يستقر في بلادنا وافدٌ مستوطنٌ، وعِبَرُ الزمان حاضرة ودروس التاريخ ماثلة، وكما سادوا وبادوا، وسُبُوا وطردوا، وأصبحوا ممالك سابقة وهياكل ساقطة، فإن التاريخ سيتكرر، والطرد سيتحقق، والسبي الجديد سيكون، والحق المشروع لشعب فلسطين سيعود، والنصر المكين لهذه الأمة سيتحقق، وحينها سيعلم الذين ظلموا عاقبة جريمتهم وخاتمة عدوانهم.

 

بيروت في 15/9/2022

moustafa.leddawi@gmail.com

--
You received this message because you are subscribed to the Google Groups "الفكر القومي العربي" group.
To unsubscribe from this group and stop receiving emails from it, send an email to alfikralarabi+unsubscribe@googlegroups.com.
To view this discussion on the web visit https://groups.google.com/d/msgid/alfikralarabi/CA%2Bk3Oji-X%2BtQV3LCRxgAWvPyK0cVnTcRwkQTo4ZQMDhwHJCbyA%40mail.gmail.com.

Sunday 11 September 2022

{الفكر القومي العربي} شاكيد تمهدُ لعودة نتنياهو وتلمعُ صورته

شاكيد تمهدُ لعودة نتنياهو وتلمعُ صورته

بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي

لا تنفك وزيرة الداخلية في حكومة تصريف الأعمال الإسرائيلية إيليت شاكيت، تبذل قصارى جهودها وتسعى بكل السبل والإمكانيات لضمان وصولها إلى الكنيست الإسرائيلي، وتجاوز نسبة الحسم التي تتربص بها وتهددها بالشطب والطرد، لتكون إلى جانب رب عملها القديم، رئيس الحكومة الأسبق بنيامين نتنياهو، الذي عملت معه قديماً مديرةً لمكتبه، ونسقت وإياه في تشكيل حزبها الأول وتحالفها اليميني المؤيد له، وكانت قد آمنت بمبادئه، وأعجبت بأفكاره، ورضيت عن سياسته، وأيدت على مدى سنواتٍ حكومته، وحمتها من السقوط والانهيار، ومن محاولات حجب الثقة عنها.

 

يبدو أنها ما زالت تعمل معه مديرةً لحملته الانتخابية، تنسق له، وتصنع التحالفات من أجله، وتبحث عن ذوي الحظوظ ليكونوا إلى جانبه، ويزيدوا من حجم كتلته البرلمانية، ليتمكن من تشكيل حكومةٍ يمينيةٍ نقيةٍ، تتصدى للتهديدات التي يتعرض لها كيانهم، وتقف في وجه كل محاولات التسوية السياسية، التي قد تفرض عليهم تنازلاتٍ "مؤلمةٍ"، قد تقود إلى خلق وتشكيل دولة أو كيان فلسطيني مستقل، وهي ترى أن نتنياهو الذي يرفض إقامتها، هو الأقدر على حماية المصالح العليا للشعب اليهودي، وهو الأقوى في مواجهة التحديات والتصدي للاستحقاقات الأمنية والوجودية التي تتعاظم ضدهم.

 

شكلت شاكيد لهذا الغرض حزب "الروح الصهيونية" مع وزير الاتصالات في حكومة تصريف الأعمال، وشريكها السابق في حزب "يمينا" يوعاز هاندل وشريكه زيفكا هاوزر، على أن يؤيد في حال تمكن حزبهما من تجاوز نسبة الحسم المطلوبة وهي 3.25%، تشكيل حكومة يمينية ضيقة برئاسة بنيامين نتنياهو، وذلك إذا تعذر تشكيل حكومة موسعة تضم اليمين ويسار الوسط، وهو الخيار الذي يفضله هاندل كونه يحقق الاستقرار السياسي للحكومة، ويمنع الذهاب إلى انتخاباتٍ جديدةٍ.

 

إلا أن استطلاعات الرأي الأخيرة التي أشارت إلى تراجع حظوظ حزب "الروح الصهيونية" إلى ما دون نسبة الحسم، وتراجع هاندل نفسه عن تعهده السابق لشريكته في الحزب بدعم حكومة يمينية ضيقة بزعامة نتنياهو، دفعت شاكيد إلى إعلان انفصالها عن هاندل، والمسارعة إلى البحث عن شريكٍ جديدٍ يضمن لها الفوز، والوصول إلى الكنيست، قبل المدة القانونية الممنوحة لتسجيل الأحزاب والكتل والقوائم، علماً أن المدة المتبقية هي ثلاثة أيامٍ فقط، الأمر الذي يعني أنها أصبحت في دائرة الخطر، وأنها قد تلحق برئيس حزب يمينا السابق نفتالي بينت وتعلن اعتزال العمل السياسي، وتعود أدراجها إلى البيت والمطبخ.

 

تحاول شاكيد في طريقها إلى الكنيست تفكيك معسكر "بديل نتنياهو" أو "ليس بيبي"، والضغط على أطراف هذا المعسكر للتراجع أمام حجتها بأن نتنياهو هو الأقوى والأقدر، وفي سبيل ذلك تعمل على مواجهة خطاب الكراهية ضده، لتحسين صورته وتجميل سياسته، وهي في قرارة نفسها تعلم أن فوزه سيحجز لها مقعداً في حكومته حتى لو لم يحالفها الحظ بمقعدٍ في الكنيست، ولهذا فهي قد تقاتل إيماناً بنتنياهو ودفاعاً عنه، ولكنها تقاتل أيضاً لتضمن مستقبلها، وتحافظ على مكانتها، وتفرض نفسها كلاعبٍ رئيسٍ في السياسة، وإلا فإن الاعتزال مصيرها.

 

أمام نتائج استطلاعات الرأي الأخيرة، التي تعطي حزب "الروح الصهيونية" نسبة 1.1% في آخر استطلاع أجرته القناة 12 الصهيونية، وهي نسبةٌ مخزية جداً، تضعف قدرتها التفاوضية، وتحد من آمالها المستقبلية، ولا تشجع الأحزاب على التحالف معها، فهل تعود شاكيد خلال الساعات القليلة القادمة إلى حزب "يمينا" فتشد أوتاره وترص صفوفه وتنفخ فيه الروح من جديد، عله يتمكن من المواجهة وينجح في الاستحقاق، ويتجاوز نسبة الحسم إلى أربعة نواب، ويساعدها في ذلك نتنياهو الذي يرى في حزبها "إسفنجةً" ماصةً للأصوات اليمينية الضائعة الحائرة، التي إن لم تجد صندوقاً تصوت فيه لمرشحيها، فإنها قد تذهب إلى خصومه الشرسين، ولا تلقي بأوراقها في صناديق حزبه والموالين.

 

بيروت في 12/9/2022

moustafa.leddawi@gmail.com

--
You received this message because you are subscribed to the Google Groups "الفكر القومي العربي" group.
To unsubscribe from this group and stop receiving emails from it, send an email to alfikralarabi+unsubscribe@googlegroups.com.
To view this discussion on the web visit https://groups.google.com/d/msgid/alfikralarabi/CA%2Bk3OjgW6MqS%3DCTLOYGqs7PRHM3Uf6WdTOA5kh-fYvnUfzOjxg%40mail.gmail.com.

Saturday 10 September 2022

{الفكر القومي العربي} الضفةُ الغربيةُ تشبُ عن الطوقِ وتنتفضُ

الضفةُ الغربيةُ تشبُ عن الطوقِ وتنتفضُ

بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي

أخطأ العدو حين فسر صمت المقاومة وقلة عملياتها، أنها ضعفت واستسلمت، وأنها وهنت وانتهت، وأنه تمكن منها وانتصر عليها، وأنه أَمِنَ واطمأنَ في القدس والضفة الغربية، واستقر فيها واستوطن، وثبتت فيها أقدامه وترسخت، وأنه انتصر على المقاومة وكسرها، وأطفأ نارها وأخمد جذوتها، وأنهى انتفاضتها وقضى على قدراتها، ونجح بسياساته وممارساته في تحقيق مخططاته والوصول إلى غاياته.

 

فقد وسع العدو في الضفة الغربية مستوطناته وزاد عددها وضاعف سكانها، وصادر المزيد من الأراضي من أهلها، وطردهم منها وأقصاهم عنها، وهَوَّد القدس وغَيَّرَ معالمها، واعتدى على المسجد الأقصى وانتهك حرماته، ولاحق وقتل وصفى وأعدم عشرات الفلسطينيين واعتقل المئات، وتوهم أنه بممارساته القمعية قد أخضع أهلها وتحكم في مصائرهم، واستلب قوتهم وانتزع منهم إرادتهم، وأنه بقوته استعلى وبجبروته استحكم، وأن الأرض أمامه قد أصبحت رخوة سهلةً، يسير فيها سيرَ السكين في الزبد الطري، وأن أهلها باتوا طيعين لينين، وأنه يستطيع أن يفعل بهم ما يشاء، ويمارس ضدهم ما يريد، وينتزع منهم ويسلخ عنهم ما يشاء، وأنه لن يجد منهم مقاومةً تذكر أو صموداً يمنع.

 

إلا أن العدو لم يهنأ طويلاً، فرياح القدس والضفة الغربية تهب دائماً عاصفةً بما لا يشتهي الاحتلال وبما لا يهوى السجان، فتفاجئه وتصدمه، وتباغته وتربكه، وتشل قدرته وتضعف إرادته، وهي وإن بدت ضعيفة فهي هوجٌ وعاصفة، وأنواءٌ وأعاصير متجددة، تشعلُ ناراً حول الاحتلال، وتزلزل الأرض تحت أقدامهم، وتميد بهم وتكاد تسقطهم وتغرقهم.

 

وهي وإن بدت قليلة أو متباعدة، فهي تنتقل من مكانٍ إلى آخر بسرعةٍ وقوةٍ، وخفةٍ وخبرةٍ، وتتعاضد مناطقها وتتضامن مدنها، وتتعاون قراها وتتكامل مخيماتها، وتهب لنصرة بعضها والتخفيف عن أهلها، فلا يستفرد العدو ببعضها، ولا يصب جام غضبه على جزءٍ منها ويعزل الآخرين عنها، محاولاً تكريس الفصل وتعميق العزل، ليتمكن من تنفيذ مخططاته بسهولةٍ، والسيطرة على الأرض والسكان دون كلفةٍ أو عناء.

 

فقد بات العدو الإسرائيلي يستفيق في كل يومٍ على عملياتٍ جديدةٍ يقوم بها فلسطينيو الضفة الغربية، تارةً في مدينة جنين ومخيمها، وأخرى في قراها وبلداتها، وفي محيطها وعلى الطرق المؤدية إلى المستوطنات، تكبده خسائر حقيقية، وتجبره على التراجع عن مخططاته، والكف عن ممارساته، والتوقف عن ملاحقاته وتضييقاته، فالكلفة التي بات يدفعها كبيرة وموجعة، وهي في ازدياد مستمرٍ وصيرورةٍ لا تنقطع.

 

لكن شعلة المقاومة لم تتوقف في جنين فقط، بل انتقلت إلى جبل النار نابلس، التي رسم أبطالها صوراً للمقاومة رائعة، وصفحاتٍ للبطولة مجيدة، وأطلق شهداؤها رسائل خالدة، وودعوا شعبهم والبندقية بين أيديهم بكلماتٍ صادقة ووصايا عظيمة، كان لها أثرها الكبير على شعبنا وأهلنا، وعلى أمتنا والمتضامنين معنا، وكان لذويهم دورٌ رائدٌ في وداعهم ورثائهم، وفي صبرهم واحتسابهم.

 

لم تقتصر المقاومة على نابلس المدينة، وإن كان رجالها قد انبروا للدفاع عن حرماتها وبيوتها، فتصدوا خارجها لفلول المستوطنين وردوهم، وكمنوا لهم وقنصوهم، وتصدوا لجيشهم وآذوهم، وكذا كانوا رجالاً في رام الله والخليل، وفي بيت لحم وقلقيلية، وفي طوباس وسلفيت، كما في القدس وبلداتها، وحول المسجد الأقصى وباحاته، وما زال أبناؤها الصِيدُ الكماةُ يرومون كما الأسود، ويخترقون الحدود ويتجاوزون الجدران، ويصلون إلى حيفا ويافا، وإلى تل أبيب والنقب، والعفولة والخضيرة، وينفذون أعظم العمليات فيها، ويمكثون فيها الساعات الطوال، يتجولون ويتحركون، ويجبرون المستوطنين على اللجوء والاختباء، والجيش على التراجع والانكفاء.

 

أمام صولة المقاومة وهبة القدس وثورة الضفة، لا تتوقف التقارير الأمنية الإسرائيلية تنذر بالأخطر وتبشر بالأسوأ، وتحذر حكومتها بأن الضفة الغربية لا تستكين على الخسف، ولا تنام على الظلم، ولا تقبل الضيم، وأن المزيد من الممارسات القمعية ضد الفلسطينيين، كسلب الأراضي ومصادرتها، وتوسيع المستوطنات وزيادتها، وملاحقة الفلسطينيين وقتلهم، والتضييق عليهم واعتقالهم، وهدم بيوتهم وخلع أشجارهم، وإتلاف محاصيلهم وحرق زيتونهم، واستباحة مدنهم وبلداتهم واجتياح قراهم ومخيماتهم، سيعجل في اندلاع انتفاضةٍ جديدةٍ، وسيخلق ثورةً واسعةً ومقاومةً شاملةً، تشارك فيها كل القوى، ويشترك في عملياتها كل الفلسطينيين.

 

يوماً بعد آخر تثبت الضفة الغربية أنها نارٌ تتقد، وجمرةٌ تلتهب، وشعلةٌ ينتقل أوارها من مدينةٍ إلى أخرى على امتداد بلداتها وقراها ومخيماتها، وأنها ليست رماداً سكنَ، ولا ثورةً خمدت، ولا شعباً رُوِّضَ، ولا مقاومة يئست، ولا أرضاً خضعت أو سلطةً سلمت، وأن الرهان على صمتها جهالةٌ، وتوقعَ استسلامها ضحالةٌ، وتحكمَ سلطات الاحتلال بها حلمٌ بعيدُ المنال، وعصيٌ على النوال، وأن الاعتراف بضعفها مستحيلٌ، والخضوع لميزان القوى مرفوضٌ، والإقرار بتفوق العدو غير ممكنٍ، مهما بغا وطغا، وظلم وقتل واعتدى، وقد جرب العدو فيها بأسه وجبروته، واستخدم ضدها كامل قوته ومختلف أساليبه، إلا أنه بقي أمامها ضعيفاً ومنها خائفاً.

 

بيروت في 10/9/2022

moustafa.leddawi@gmail.com

--
You received this message because you are subscribed to the Google Groups "الفكر القومي العربي" group.
To unsubscribe from this group and stop receiving emails from it, send an email to alfikralarabi+unsubscribe@googlegroups.com.
To view this discussion on the web visit https://groups.google.com/d/msgid/alfikralarabi/CA%2Bk3OjiDppV59cjLGteO9mX8a2pg_Lq%2BLH8RyEyrwV-xFju3Kw%40mail.gmail.com.

Saturday 3 September 2022

{الفكر القومي العربي} العينُ تناطحُ المخرزَ والمعدةُ تنتصرُ على السجانِ

العينُ تناطحُ المخرزَ والمعدةُ تنتصرُ على السجانِ

بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي

أثبت الأسير خليل العواودة من جديد، كما كل إخوانه الأسرى والمعتقلين، الذين سبقوه بالإضراب عن الطعام، والإصرار على مواصلته، والثبات أمام أوجاعه، والصبر على آلامه، والمضي فيه حتى نهايته، شهادةً أو نصراً، وحريةً أو قيداً، أن الحق أقوى، وأن الإرادة أجدى، وأن السجان أوهى، وأن الاحتلال أقنى، وأن الفجر مهما تأخر نوره فسيطلع، ومهما ادلهم ليله فسينير، وشمسه في الصباح الجديد ستسطع، وستنشر خيوطها الذهبية من علياء سمائها إلى الأرض، وسينعم بدفئها الأبطال، وسيفرح بنورها الصابرون، كفرح المؤمنين بنصر الله الذي يتنزل عليهم.

 

أثبت خليل العواودة وإخوانه الأسرى أن الشعب الفلسطيني ليس ضعيفاً أو خائراً، ولا مستسلماً أو عاجزاً، ولا يائساً أو قانطاً، وإنما هو قويٌ بعد توكله على الله عز وجل، بإرادته الصلبة، وعزيمته الفولاذية، ويقينه الراسخ، وإيمانه الكبير، وتضحياته الواعدة، وزادت قوته وتعاظم بأسه بصبر أهله معه، وصمود شعبه إلى جانبه، ودعمهم له ومساندتهم لقضيته وإخوانه، إذ لم يتركوه وحيداً، ولم يتخلوا عنه ضعيفاً، وأصروا على الوقوف معه، ورفع صوره ونقل معاناته، وتسليط الضوء على حقوقه وفضح ظروفه، حتى تتحقق حريته، ويفرج عنه وإخوانه، ويغلق ملفه وتنتهي سياسة الأحكام الإدارية الظالمة.

 

ها هو خليل يترجل من على سرير المستشفى بطلاً، فارساً منتصراً، أسيراً محرراً، بعد أن قارب إضرابه عن الطعان الستة أشهر، وقد كان مصراً على المواصلة لو عاند الاحتلال، صامداً على موقفه وثابتاً على حاله ولو كانت فيها منيته، وقد رفض مناورات سلطات السجون، وفضح مماطلتهم، وصمم على مواجهتهم وهو يعلم أنه قد أصبح بقايا جسد، وشيئاً من الهيكل العظمي، وأن جسمه يتآكل ويتضاءل، وأن عضلاته قد ذابت، إلا أن عقله بقي يقظاً يعمل، وناشطاً يعي، وحافظ رغم الحرمان على ذهنه صافياً، وتفكيره متزناً، وموقفه راشداً، وحملت كلماته القليلة، وصوته الخافت، أعظم الرسائل إلى الأمة، وأسرعها وصولاً إليها، وأكثرها تأثيراً فيها، فبشرها بأن الذي نصره سينصرهم، وأن الذي مَنَّ عليه بالحرية سيكرمهم.

 

راهن العدو على خليل كما راهن على من سبقه أن يضعف ويركع، وأن ينهار ويخضع، وأن ينهي إضرابه ويخنع، وأن تنكسر إرادته فيتراجع عن مطالبه، وأن تخور قواه فينكفئ على ما انطلق من أجله، لكنه ما علم أن الشعب الفلسطيني يقاتل بكل ما يملك، وأنه يضحي بحياته ليستعيد أرضه ويحرر وطنه، وأنه في سبيل ذلك لا يتأخر في التضحية والفداء، وفي البذل والعطاء، ويقينه أن عيونه الضعيفة قادرة على الانتصار على المخرز المدبب، وأن أمعاءه الخاوية ومعداته الفارغة قادرة على هزيمة السجان وكسر إرادة الاحتلال، وأن النصر صبر ساعة، وهو حليف المضحين وعاقبة العاملين.

 

ما إن احتسى خليل العواودة أول فنجان شايٍ له بعد 172 يوماً من الصبر والصمود، حتى أعلن 1200 أسيراً فلسطينياً في مختلف السجون الإسرائيلية، عزمهم على خوض إضرابٍ مفتوحٍ عن الطعام، احتجاجاً على سوء أوضاعهم المعيشية، ورفضاً لممارسات سلطات السجون القمعية، وتمسكاً بالحقوق التي انتزعوها في السنوات الماضية، التي حرمتهم منها مصلحة السجون، وهي التي نالوها بالجوع والدم، وحققوها بالصبر والاحتمال، وأصدروا بيانهم الأول الذي أكدوا فيه عزمهم وإصرارهم، وأنهم لن يتراجعوا عن خطوتهم، ولن يوقفوا إضرابهم حتى يستعيدوا حقوقهم الاعتقالية المسلوبة.

 

ساعاتٌ قليلةٌ مضت قبل أن تعلن سلطات مصلحة السجون، والأجهزة الأمنية الإسرائيلية، إعادتها لكامل الحقوق التي تم سحبها من الأسرى والمعتقلين، واستجابتها لكامل المطالب التي تقدموا بها، والالتزام بكافة الاتفاقيات التي تم التوصل إليها سابقاً معهم، مقابل تراجعهم عن إضرابهم، والامتناع عن القيام بأي خطواتٍ تصعيدية في السجون وخارجها، والإيعاز إلى شعبهم وفصائلهم أنهم استعادوا حقوقهم، وفكوا إضرابهم، وامتنعوا عن أي تصعيدٍ احتجاجي، خوفاً من حراك الشارع وعمليات المقاومة، وبهذا تحقق لأسرانا البواسل ما كانوا يتطلعون إليه، وحققوا أهدافهم التي كانوا سيضحون بحياتهم في سبيلها.

 

إنه نصرٌ جَرَّ نصراً، وعزةٌ استدعت عزةً وكرامةً، بدأها خليلٌ وتبعه إخوانه، وهم الذين ناصروه وأيدوه، وساندوه وساعدوه، فهنيئاً لخليل نصره، وطوبى له نجاحه، وسَعِدَ به أهله، وفرح له شعبه، وباهت به أمته، وافتخر به من سانده وأيده، ومن نصره وساعده، فما حققه في مواجهة العدو رسالة له صريحة وواضحة، قوية ومباشرة، أنه يخطئ إن ظن أنه بسلاحه أقوى، وأنه بجبروته قادرٌ على أن يخضع الشعب الفلسطيني ويركعه، وأنه بممارساته القمعية ضدهم يستطيع أن يفرض عليهم ما يريد، وينال منهم ما يتمنى، فهذا الشعب سيبقى عصياً عليه، متمرداً على عصا الاحتلال وإن غلظت، ومصمماً على الانتصار عليه والوقوف في وجه وإن ظن أنه الأقوى والأقدر، فسلام الله عليك خليل، أنتم السابقون، وإخوانك من بعدك اللاحقون.

 

بغداد في 2/9/2022

moustafa.leddawi@gmail.com

--
You received this message because you are subscribed to the Google Groups "الفكر القومي العربي" group.
To unsubscribe from this group and stop receiving emails from it, send an email to alfikralarabi+unsubscribe@googlegroups.com.
To view this discussion on the web visit https://groups.google.com/d/msgid/alfikralarabi/CA%2Bk3Ojgjj-DqJgUfVN41GcK%2BMojepkma6XgC09R9_arz0OKs4A%40mail.gmail.com.