Tuesday 28 February 2023

{الفكر القومي العربي} البكاؤون على الهلوكوست فاشيون مجرمون

البكاؤون على الهلوكوست فاشيون مجرمون

بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي

يطلبون من دول العالم وشعوبها أن تعترف بالمذابح التي تعرضوا لها إبَّان الحرب العالمية الثانية، ويحملون المجتمع الدولي تبعات المحرقة "الهولوكوست" التي أبيد فيها بزعمهم "ملايين اليهود" ظلماً وعدواناً، ويجبرونهم على الاعتذار لهم وتعويضهم، ويبتزون الأنظمة والحكام ويحرجونهم، ويضغطون على الشعوب والمنظمات ويتهمونهم، ويعتبرون أن المجتمع الدولي كله شريكٌ في هذه المذابح ما لم يعترف بها ويعتذر، ويقر بالجريمة ويندم، ويطلب المغفرة من أجيال اليهود ويأسف.

 

يتباكى الإسرائيليون على ما أصابهم، ويدعون المظلومية جراء ما لحق بهم، ويعاقبون كل من ينكر المحرقة أو يشكك فيها ويرفض الاعتراف بها، ويعلنون الحرب عليه ويحاكمونه، ويضيقون عليه ويطردونه، ويجردونه من كل صفاته ويحرمونه من أبسط حقوقه، ويعتبرون أن الصمت عنها جريمة، وعدم الاعتراف بها كبيرة، وقد عانى من إرهابهم الفكري وطغيانهم العنصري الكثير من المفكرين والمؤرخين الأوروبيين، الذين خاف بعضهم وتراجع وجبن، وروى روايتهم وسَلِم، بينما عُوقب ونُفِيَ من أصر على موقفه ونَفَى، وطُرد من وظيفته وحُرم من حقوقه من كذب روايتهم واتهمهم.

 

يجبر الإسرائيليون دول العالم الأوروبية والولايات المتحدة الأمريكية وبعض الدول العربية وغيرها، على تشييد نصبٍ تذكارية للمذابح اليهودية واحترامها، وتعليق صور الضحايا وبيان حجم الفاجعة فيهم، ويعتبرون زيارتها واجبة، وإحياء ذكراها  كل عامٍ فرضاً على الدول والحكومات، التي يجب أن تشرع برلماناتها القوانين التي تجرم وتعاقب المنكرين لها والمستخفين بها، ويلزمون كل ضيفٍ يزور كيانهم بزيارة النصب التذكاري للمحرقة "ياد فاشيم"، والشهادة في كتابهم، ووضع الأكاليل اعترافاً بهم واحتراماً لهم.

 

هؤلاء الذين يتباكون على المحرقة ويطالبون العالم بالتضامن معهم والبكاء من أجلهم، يرتكبون كل يومٍ أعظم المجازر وأكبر المذابح بحق الشعب الفلسطيني، ويقومون ضده بأبشع حرب إبادةٍ رسميةٍ بهدف إنهاء وجودهم وشطب هويتهم وإخراجهم من أرضهم وطردهم من ديارهم، ويشهد العالم كله على جريمتهم، ويرقب أفعالهم، ويرصد عدوانهم، ولكنه يقف إزاءها صامتاً لا يعترض، وعاجزاً لا يقوى على منعهم، بل يطالب الضحية بأن تكف عن الشكوى والأنين، وتمتنع عن الدفاع عن نفسها وصد العدوان عنها.

 

إنهم أنفسهم الذين أقدموا بالأمس، جيشاً ومستوطنين، على إشعال النار في بيوت الآمنين، فحرقوا بيوتهم، وأشعلوا النار في سياراتهم، وطعنوا المواطنين واعتدوا عليهم، وأجبروا النساء والأطفال على الهروب من منازلهم، فقد حرق قطعان المستوطنين الذي زاد عددهم عن المائتي مستوطنٍ، أكثر من مائة بيتٍ وسيارةٍ، وعاثوا فساداً وخراباً وحرقاً وتدميراً في قرى بورين وحوارة وبيتا وزعترة جنوب مدينة نابلس، ووثقت وسائل الإعلام المحلية والدولية ألسنة اللهب التي تتصاعد من المحارق، وأحصوا عدد الجرحى والمصابين، وما زالت كرة اللهب الصهيونية تنتقل من قريةٍ في الضفة الغربية إلى أخرى، وجيش العدو يراقب ما يحدث، ويحمي المستوطنين وهو يعلم أنهم مخربون، وأنهم يحرقون ويدمرون، ويعتدون ويقتلون.

 

إن ما يقوم به الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين المحتلة، ضد أهلها وشعبها، وأرضهم ومقدساتهم، وبيوتهم وممتلكاتهم، لهو أكبر من جريمة "الهلوكوست" التي صدعوا رؤوس العالم بها، وأجبروهم على إبداء الندم والأسف الدائم بسببها، ولعلهم يخططون في كل يومٍ لارتكاب المزيد من هذه الجرائم التي يندى لها جبين الإنسانية، ويستنكرها الأحرار والشرفاء، ويشجعهم على ذلك ويدفعهم إلى المزيد منها، ما يرونه من صمت العالم وعجزه، وتواطؤ أنظمته ومشاركة حكوماته، التي تهب كلها غاضبةً، وتقف في وجه الشعب الفلسطيني كله معارضةً، إذا تقدمت مقاومته على الثأر والانتقام، وعلى الرد وصد العدوان، بينما تصمت وتعجز عندما يرتكب العدو مجزرةً أو ينفذ مذبحةً بحق الشعب الفلسطيني.

 

لن يرد الغلاة المتطرفين، المتشددين المتدينين، الفاشيين المجرمين، المحتلين الغاصبين، المستوطنين الهمجيين، إلا المقاومة التي باتت تحسن الرد زماناً ومكاناً، وهدفاً ونوعاً، ولم تعد تصبر وتصمت، وتتأخر وتتردد، بل باتت تباغت وتهاجم، وتفاجئ وتصدم، وتقنص وتقتل، وتقصف وتفجر، وتطعن وتدهس، ولن يفلح العدو بعدوانه المستمر وغاراته الدائمة واجتياحاته المتكررة، في كسر شوكة المقاومة وتركيع كتائبها، وسحب سلاحها وإخضاع عناصرها، كما لن تجدي محاولات قتل ا لمقاومين واعتقالهم، أو حصارهم والتضييق عليهم، فهذه المقاومة التي أصبح معها سيفٌ لا يثلم، ودرعٌ لا تخرق، ورمحٌ طويلٌ لا يكسر، لن تهزم بإذن الله أمام عدوها، ولن ينال منها ويخضعها، ولن يفرض شروطه عليها ويذلها.

 

بيروت في 28/2/2023

moustafa.leddawi@gmail.com

--
You received this message because you are subscribed to the Google Groups "الفكر القومي العربي" group.
To unsubscribe from this group and stop receiving emails from it, send an email to alfikralarabi+unsubscribe@googlegroups.com.
To view this discussion on the web visit https://groups.google.com/d/msgid/alfikralarabi/CA%2Bk3Ojh4aOXJtp9_fCrdfGs0E9DJ9aOpy_DsRZZnnoTs_4KfoQ%40mail.gmail.com.

Sunday 26 February 2023

{الفكر القومي العربي} مسيراتُ التكبير الليلية استفتاءٌ على نهج المقاومة

مسيراتُ التكبير الليلية استفتاءٌ على نهج المقاومة

بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي

ظن العدو أن أحداً لن يستجيب لنداء قادة كتيبة "عرين الأسود"، وسيبح صوتها وسيذهب أدراج الرياح نداؤها، ولن يصغي إلى دعوتها أحد، وستخيب آمالها وستمنى بالفشل، وستصاب بالإحباط، وستشعر أنها وحدها ولا يوجد من يؤيدها ويقف معها ويساندها، وظنوا أن قادة العرين مخدوعين بشعبهم وغير عالمين به، فهو مشغولٌ عنهم لا يصغي إليهم، ومهمومٌ بنفسه ولا يهتم بهم، ولهذا فإن صرختهم ستكون في وادٍ ولن يسمع لها صدى، وسينتصف الليل ويبزغ نور الصباح ويستقظ قادة عرين الأسود ليجدوا أنفسهم وحدهم لا ناصر لهم، ضعفاء لا من يساندهم، وغرباء لا من يؤيدهم.

 

يكذب العدو على نفسه كثيراً ويخدع غيره دائماً عندما يظن ويشيع أن المقاومة شرذمةٌ قليلون، وأنهم غرباء منبوذون، وأنهم معزولون مكروهون، وأنهم لا يعبرون عن رأي الشعب ولا عن توجهاته، فجاءت نتائج دعوة عرين الأسود لتلطمه على وجهه، وتركل قادته على مؤخراتهم، وتهزأ بهم وتضحك عليهم، فقد خرج الفلسطينيون ومعهم جموعٌ حاشدةٌ من العرب في كل مكان، استجابةً لأمرهم وبراً لقسمهم، وتأييداً لعملهم، وتأكيداً على نهجهم، وشهدت شوارع فلسطين كلها، التي أصبح منتصف ليلها فجراً أبلجاً وزحفاً ممداً، على أن المقاومة هي خيار الشعب ومنهجه، وأنه بها يتمسك وعليها يصر حتى يحقق أهدافه بتحرير أرضه واستعادة وطنه.

 

مسيرات التكبير وشعارات التأييد لم تكن في غزة ومدن ومخيمات القدس والضفة الغربية فقط، بل عمت المسيرات أرضنا الفلسطينية في حيفا ويافا واللد والرملة، وشملت مدن وبلدات المثلث وغيرها، فضلاً عن مخيمات الشتات وبلدان اللجوء، التي صدحت إلى جانب مسيراتها الجوالة مساجدُها مهللةً مكبرةً مؤيدةً لأهلنا في نابلس، ولكتيبة عرين الأسود وكل كتائب فلسطين التي غدت تشملها وتنتشر فيها على اتساعها، وأصبحت تتضامن مع بعضها، وتتظافر جهودها وتتناسق، وتتسابق وتتنافس، وتحاكي بعضها وتقلد أساليبها المختلفة.

 

الحشود الشعبية الفلسطينية الغفيرة التي جابت الشوارع في الوطن والشتات، خير دليلٍ وأكبر برهانٍ على أنها مع خيار المقاومة، وأنها مع مقاتلي عرين الأسود في صمودهم وثباتهم، وأنها مع نابلس تؤيدها وتتضامن معها، ولن تتركها وحدها ولن تتخلى عنها، وهو نفس الموقف الذي اتخذته مع جنين ومخيمها، ومع القدس وأحيائها، ومع الأقصى وبواباته، فالشعب الفلسطيني بات صفاً واحداً وجبهةً متماسكة ضد العدو الصهيوني، ولن يسمح له بالتفرد في جزءٍ منه، وتصنيف فئاته أو مناطقه وفق هواه ومصالحه.

 

الشعب الفلسطيني مع مجموعة "عرين الأسود"، ومع كتائب جنين وجبع وقباطية وغيرها، لأن هذه الكتائب وأعضاءها استطاعت أن ترسم صورةً مشرقةً زاهيةً عن الشعب الفلسطيني، وأبرزت نضاله في أروع صوره، وخاضت مقاومته في أجلى معاركها، فأصبحت في مسيرة المقاومة الفلسطينية رقماً صعباً يصعب تجاوزه، وصفحةً ناصعةً يصعب إنكارها، وشكلت في حياته حالةً استثنائية يعتز بها الفلسطينيون ويؤمنون بها، فقد تمردت على الاحتلال وسياساته، وانتصرت على إجراءاته وتحدياته، ونالت منه وأوجعته، ونجحت في ترجمة شعار وحدة الساحات إلى واقعٍ حقيقي وممارسة فعلية.

 

استجابة الشعب الفلسطيني لدعوة عرين الأسود بالخروج في مسيراتٍ شعبية، والتكبير بصورةٍ جماعية، تأكيدٌ عملي على اعتماد كل أشكال المقاومة الخشنة والناعمة، العسكرية والشعبية، والرمزية والسلمية، طالما أنها تعبر عن رفض الاحتلال وتغيظه، وتستنكره وتفضحه، فالتكبير الجماعي في المساجد الشوارع وعلى شرفات المنازل وأسطح المباني، ودق الأجراس في الكنائس، ورفع الأعلام الفلسطينية وتأدية التحية لها، والصمت العام والتوقفات المرورية المشتركة في توقيتٍ واحدٍ لدقيقةٍ أو أكثر، والإضرابات العامة والمسيرات والعصيان المدني،  والصور واللوحات الجدرانية والمؤتمرات الإعلامية، كلها وغيرها أشكالٌ نضالية ووسائل مقاومة تغيظ العدو وتزعجه، ينبغي أن نسلكها ونعتمدها، وألا نتخلى عنها ونهملها.

 

الحمد لله أن الشعب الفلسطيني والأمة العربية قد بَرَّا بالمقاومة وكانا وفيين لها وصادقين معها، ووقفا معها وبيضا وجهها، ولم يخذلاها أمام عدوها، ولم يتخليا عنها في محنتها، بل هتفا باسمها، ورفعا صور شهدائها، وأقسما بالله عز وجل أن ينصروا المقاومة وأن يتمسكوا بها سبيلاً للتحرير، ووسيلةً للنضال، ورفعوا رؤوسهم عالياً بالكتائب الوطنية التي قاتلت باسمهم وضحت من أجلهم، وتحدت العدو وصرخت في وجهه "إن المقاومة باتت تمتلك درعاً وسيفاً"، فحمى الله سيف المقاومة، وجرده مسلولاً بيد رجاله، وجعله بتاراً في معركة التحرير، حاداً على العدو صارماً في مواجهته، يحز رأس من يحتل أرضنا، أو يتآمر على حقوق شعبنا.

 

بيروت في 26/2/2023

moustafa.leddawi@gmail.com

--
You received this message because you are subscribed to the Google Groups "الفكر القومي العربي" group.
To unsubscribe from this group and stop receiving emails from it, send an email to alfikralarabi+unsubscribe@googlegroups.com.
To view this discussion on the web visit https://groups.google.com/d/msgid/alfikralarabi/CA%2Bk3OjhG2XjPU0t3tuU9Qj4D8RxUwGZFa0J_joEKv4RMSL0n%2Bg%40mail.gmail.com.

Friday 24 February 2023

{الفكر القومي العربي} جبل النار يشتعل ناراً ويتقد لهباً ويسخو شهادةً

جبل النار يشتعل ناراً ويتقد لهباً ويسخو شهادةً

بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي

منذ أن أُعلن عن تشكيل "عرين الأسود" في مدينة نابلس، وهي الكتيبة العسكرية الوطنية الفلسطينية الرائدة، التي سما نجمها بسرعةٍ، وتألق أداؤها بقوة، وعُرف قادتها واشتهر مقاتلوها، وتميزت عملياتها واشتدت مواجهاتها، وعمت أنشطتها العسكرية مدينة نابلس وشملت محيطها، وتنافس الفلسطينيون في الانتماء إليها والعمل معها، إذ ظهرت جديتها، واتضحت جاهزيتها، وكشفت الصور والعروض العسكرية قوة تسليحها، وتنوع أسلحتها، ومهنية تدريبها وقوة تنظيمها، وتماسك بنيتها ووحدة صفها.

 

وقد جمعت في صفوفها الطيف الوطني الفلسطيني كله، فانتمى إليها مقاومون من مختلف القوى والأحزاب، ومن المنتسبين إلى الفصائل والتنظيمات، وآخرون كثيرٌ من الغيارى المستقلين الثائرين الغاضبين، فاستحقت بحقٍ أن تكون كتيبةً وطنيةً جامعةً موحدةً، حيث التحق بها وانضوي تحت لوائها مقاتلون من حركتي فتح والجهاد الإسلامي، وآخرون من حركة حماس وأتباع الجبهات الفلسطينية، الأمر الذي أكد على بعدها الوطني، فتراجعت الحزبية أمام الوطنية، وغابت الأعلام التنظيمية لصالح علم فلسطين الذي غلب وسما، ورفرف وعلا، وفرض نفسه على الأرض وفي والميدان، فساد بلا منافسة، وغدا موحداً بلا خلاف.

 

أما قادة "عرين الأسود" فقد أثبتوا على الأرض وفي الميدان أنهم رجالٌ لا ينكفئون، ومقاومون لا يتراجعون، ومقاتلون لا يهابون، وأنهم يقاتلون ببسالةٍ حتى الشهادة، ويصمدون في المواجهة حتى آخر رصاصة، وقد أظهرت وصاياهم أن فلسطين في أعناقهم أمانةً، وفي قلوبهم عقيدةً، وأنهم يفدونها بالدم ويحمونها بالأرواح، وأنهم يتسابقون في الدفاع عنها ولا يتأخرون، ويتقدمون الصفوف الأولى ولا يجبنون، ويأملون ممن سيأتون من بعدهم أن يحافظوا على طهر النضال وقدسية القضية، وأن يحملوا الراية ويدافعوا عنها، وألا يسقطوها والبندقية من أيديهم، فهي الهوية الضامنة والسلاح الحامي.

 

منذ الأيام الأولى لانطلاقة "عرين الأسود"، أدرك العدو الإسرائيلي أنه يواجه ظاهرةً جديدةً، وأسلوباً مغايراً في المقاومة، وأنه أمام جيلٍ تجمعه القضية ويوحده الوطن، وتشد أوتاره البندقية، وتحرك مشاعره الحمية، وتتضاءل أمامه الحياة الشخصية بالمقارنة مع حياة الشعب ومستقبل الوطن، وقد أظهرت الوصايا التي تركوها، والكلمات التي سبقت شهادتهم، أنهم أقوى من العدو وإن استعلى عليهم، وأنهم أبقى منه وإن حاول طردهم، وأثبت منه في الأرض مهما حاول اقتلاعهم.

 

أدرك العدو أنه أمام ظاهرة محاكاةٍ وتقليد، وفي ميدان منافسةٍ وسباقٍ، وأنه في مواجهةٍ مع نموذجٍ ومثالٍ، لا يقتصر وجوده على نابلس وحدها، بل امتد أثرها وانتشر نورها لتتشكل كتائب شبيهةٌ وألويةٌ مشابهةٌ، فكانت كتائب جنين وجبع وبلاطة وقباطية وغيرها، حينها أدرك العدو أنه لا قدرة له على مواجهتهم وصدهم، أو تصفيتهم وتفكيكهم، مهما حاول قتل عناصرهم أو اعتقال كوادرهم، فهذه ظاهرةٌ ستنمو وستكبر، وستتسع وستنتشر، طالما أن مقاتليها لا يهابون الموت ولا يشترون الحياة، ولا يستسلمون ولو أحاط بهم العدو من كل جانبٍ، ورأوا الموت يزحف عليهم ويقترب منهم.

 

حاول العدو بكل السبل القضاء على هذه الظاهرة الجديدة التي أفزعته وأخافته، فاجتاح مدينة نابلس مراتٍ كثيرةً، واستدرج مقاتليها إلى أماكن عديدة ليسهل عليه قتلهم وتصفيتهم، ونجح فعلاً في قتل بعضهم واعتقال غيرهم، واستعان بأعوانٍ له لتفكيك مجموعتهم بالإغراء تارةً وبتهديد أهلهم تارةً أخرى، وبتقديم الوعود إليهم بتوظيفهم وتوفير فرص العمل لهم، وحمايتهم من الملاحقة الإسرائيلية، وضمان استمتاعهم بالحياة بعيداً عن التهديدات بالقتل أو الاعتقال، مقابل تسليم أسلحتهم، والتخلي عن أفكارهم، والتوقف عن القيام بأي أعمالٍ غير "قانونية".

 

لم تُجدِ كل المحاولات الإسرائيلية السابقة، كما لن تجديَ محاولته الأخيرة، التي قتل فيها أحد عشر فلسطينياً، واستخدم خلال عدوانه على مدينة نابلس، واستهدافه لعناصر "عرين الأسود" القوات المستعربة المدربة والمسلحة والمؤهلة، والمجهزة بأحدث الأسلحة ووسائل الاتصال المباشر، وأجهزة الارتباط والسيطرة والتحكم مع قواعدها، التي واكبتها قواتٌ من الجيش بلغ تعدادها أكثر من 150 عنصراً من وحدات النخبة "جولاني" و"اليمام" و"الدوفدوفان" وعناصر أخرى من المخابرات التي تشرف على المدينة وتعرف سكانها ولديها الخبرة في أزقتها وشوارعها.

 

قد تكون سلطات الاحتلال الإسرائيلي قد نالت منا في معركتها داخل مدينة نابلس، وتمكنت من تحقيق بعض أهدافها، لكنها تظن واهمةً أنها تستطيع القضاء على "عرين الأسود" وتفكيك بنيتها العسكرية، ونزع سلاحها وإنهاء وجودها، ونسيت أن فرحتها بعد عدوانها على مخيم جنين لم تدم طويلاً، وأن صمت المقاومة الفلسطينية لم يطل كثيراً، عندما انبرى خيري علقم وأذاقهم المر بسلاحه علقماً، حينها سيدرك العدو أن الرد قادم، ثأراً مضاعفاً وانتقاماً موجعاً، وسيعلم أن نابلس ستبقى جبل النار الثائر، وقلب فلسطين النابض، وروحها الحية، وجبهتها المتقدمة، تتصدر المقاومة، وتتصدى للاحتلال، وتصد العدوان، وتقدم الشهداء، وتعد بالنصر وتعد له، وتتوعد الاحتلال وتتهيأ له.

 

 

بيروت في 24/2/2023

moustafa.leddawi@gmail.com

--
You received this message because you are subscribed to the Google Groups "الفكر القومي العربي" group.
To unsubscribe from this group and stop receiving emails from it, send an email to alfikralarabi+unsubscribe@googlegroups.com.
To view this discussion on the web visit https://groups.google.com/d/msgid/alfikralarabi/CA%2Bk3OjhESN9Z_V6aJtziRYrOdH0-nsmkOqvgeBO7NDb7feDz_A%40mail.gmail.com.

Wednesday 22 February 2023

{الفكر القومي العربي} أزمة التطبيع والتخلي العربي ظرفٌ طارئٌ أم حالةٌ دائمةٌ

أزمة التطبيع والتخلي العربي ظرفٌ طارئٌ أم حالةٌ دائمةٌ

بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي

لا أعتقد أن ما يجري في عالمنا العربي والإسلامي فيما يتعلق بالاعتراف بالعدو الصهيوني والتطبيع معه هو أمرٌ طبيعيٌ وحدثٌ عاديٌ، فحالة السباق المحمومة التي نراها، وظاهرة الارتماء المذمومة في أحضان العدو الصهيوني التي نشهدها، ومساعي الدمج الشائنة ومشاريع التعاون المشبوهة، ونظريات التماهي الشاذة وأشكال التوافق الغريبة، لا تعبر عن حقيقة الأمة العربية والإسلامية، ولا تعكس صورتها الحالية ولا صفحاتها التاريخية، فالأمة العربية تاريخها تاريخُ عزٍ وكرامة، وماضيها ماضي مجدٍ وشهامةٍ، لا تقبل أبداً بذلٍ يفرض عليها، ولا بضيمٍ يمارس ضدها، ولا ترضى بتبعيةٍ مهينةٍ وتقليدٍ مسخٍ يلغي الهوية ويبهت الصبغة.

 

هذه الظاهرة الجديدة، الصريحة الواضحة، والعلنية الوقحة، لا تتوافق مع الموروثات العقدية والثوابت الوطنية للأمة، التي نشأت عليها وتربت على مفاهيمها الواضحة والصريحة، وهي مفاهيمٌ وقيمٌ دينية عقائدية، وقومية وطنية، وحضارية تاريخية، لا تقبل الشك ولا يضطرب لديها الفهم، ولا تستطيع أي قوةٍ مضادةٍ أن تواجهها، ولا أي نظريةٍ وفكرةٍ أن تتصدى لها وتبزها، فمفاهيم الأمة العربية والإسلامية التي نشأت عليها مفاهيمٌ أبديةٌ، باقيةٌ ما بقي الوجود، وثابتةٌ ثبات الجبال، رسوخاً في الأرض وعلواً في السماء.

 

فلسطين في عُرف الأمة وفهمها، وفي ضميرها ووجدانها، أرضٌ عربيةٌ لسكانها العرب الفلسطينيين الذين قطنوها وعاشوا فيها، وشكلوا هويتها وصبغوها بطابعها العربي، الإسلامي والمسيحي، التي تظهر معالمه وتبدو آثاره في كل مكان منها، وتشهد لهم كل العهود التي مرت بها والدول التي عمرت فيها، وقد بنى أهلها العرب فيها حضارةً عظيمة جمعتهم ووحدتهم، وألقت بظلالها عليهم، ونطق بضادها سكانها والوافدون إليها، والتقى فيها العرب من كل الأصقاع، إذ لم تكن حدودٌ تفصلهم أو سلطاتٌ تمنعهم، وفيها دفن المئات من رجالاتهم العظام وأبطالهم الأعلام، الذين تحارب سلطات الاحتلال مقاماتهم وتنبش قبورهم وتغير أسماءهم.

 

وهي في كتاب الله عز وجل آيةٌ نتلوها آناء الليل وأطراف النهار، نذكرها ما فتحنا القرآن الكريم وقلبنا صفحاته، فهي جزءٌ من عقيدتنا، وركنٌ من إسلامنا، فيها مسرى رسولنا الأكرم محمد صلى الله عليه وسلم ومعراجه إلى السماوات العلى، وفيها المسجد الأقصى الذي بارك الله فيه وحوله، وجعله أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، وهي إرث الصحابة الأوائل ووصية الرجال والقادة الأماجد، الذين فتحوها ودافعوا عنها، وعاشوا فيها ودفنوا في ترابها الطاهر.

 

لا يوجد في الأمة العربية والإسلامية من ينسى هذه الحقائق أو ينكر هذه الوقائع، ويسلم بأن هذه الأرض ومقدساتها، وهذا التراب وآثاره، وهذه البلاد وحضارتها، إنما هي لليهود الوافدين وللمستوطنين المهاجرين، الذين جاؤوا إلى فلسطين غزواً واستوطنوا فيها احتلالاً، وإن كانت أفواجهم في أكثرها قد جاءت على هيئة مهاجرين فرادى وجماعاتٍ، شكلوا فيما بعد عصاباتٍ يهودية كثيرة، جعلت همها الأكبر طرد العرب من فلسطين، وإحلال اليهود المهاجرين إليها وتوطينهم فيها.

 

علماً أن الفكر الصهيوني يتجاوز فلسطين إلى دول الجوار، ولا يخفي أن عيون اليهود وأطماعهم مفتوحة على بلاد الرافدين والنيل، وأنهم يتمنون أن تكون حدود دولتهم بين النيل والفرات، بما يعني أن الخطر اليهودي ليس على فلسطين فقط، وإنما على الأمة العربية كلها.

 

لكن هذه الحقائق لا تمنع بعض الأنظمة العربية من الاعتراف بالكيان الصهيوني والتطبيع معه، ولا تحول دون استقبالهم لقادته والترحاب بهم، ورفعهم علم الكيان وعزف موسيقى "الهاتكيفا" الإسرائيلية، وفتح أجوائهم الإقليمية لطائراته، والسماح لها بالتحليق في سماء بلادهم والهبوط في مطاراتهم، والتزود بالوقود فيها، فضلاً عن تسهيل دخول السواح الإسرائيليين أفراداً وأفواجاً، رغم علمهم أن أكثرهم ضباطٌ أمنيون وعسكريون متقاعدون، وأنهم لم يأتوا إلى بلادهم سواحاً بل جاؤوا إليها عملاء وجواسيس، وجنوداً متخفين، لخدمة كيانهم وتقديم خبراتهم له على حساب الدول العربية التي اعترفت به وطبعت معه.

 

هذا الواقع المعوج والمظاهر الغريبة المنبتة عن الأمة والمخالفة لقيمها، لن يدوم طويلاً، ولن يستمر إلى الأبد، ولن يرضى عنها أبناء هذه البلاد، الذين أغاظهم ما قامت به حكوماتهم، وأغضبهم ما أقدمت عليه أنظمة بلادهم، وسيأتي اليوم الذي تؤوب فيه هذه الأنظمة إلى رشدها، وترعوي عن غيها، وتتراجع عن سياساتها، وتعود أدراجها إلى عمقها العربي والإسلامي الأصيل، ولكننا نخشى أن تكون أوبتها بعد فوات الأوان، وعودتها بعد خسران ما كان، فهؤلاء سرطانٌ قاتلٌ، لا يتغلغل إلى جسدٍ إلا ليستنزف قواه ويضعفه، قبل أن يقتله وينهي حياته، ويشطب اسمه من سجل الأحياء، ويدفن جسده بعد أن يموت في جوف الأرض.

 

بيروت في 22/2/2023

moustafa.leddawi@gmail.com

--
You received this message because you are subscribed to the Google Groups "الفكر القومي العربي" group.
To unsubscribe from this group and stop receiving emails from it, send an email to alfikralarabi+unsubscribe@googlegroups.com.
To view this discussion on the web visit https://groups.google.com/d/msgid/alfikralarabi/CA%2Bk3OjhrUg3QFpRjKu6gNRgkCxgq950LAe%3DraUVoY%2ByCRu%2BT1A%40mail.gmail.com.

Saturday 18 February 2023

{الفكر القومي العربي} حكومة اليمين الإسرائيلية فرصةٌ وتحدي أم محنةٌ وتردي

حكومة اليمين الإسرائيلية فرصةٌ وتحدي أم محنةٌ وتردي

بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي

لم تكن الحكومة اليمينية السادسة التي يرأسها بنيامين نتنياهو الأسوأ والأكثر تطرفاً في تاريخ الكيان الصهيوني صادمةً للشعب الفلسطيني أو مفاجئةً له، فهو تنبأ بها وتوقعها، وتهيأ لها وترقبها، ويعرف أنها قادمة لا محالة، ولكنه كان ولا زال على يقين أنها ستسقط لا محالة أيضاً، وسينتهي دورها وستفشل، وستلقي سلاحها وستتخلى عن أفكارها، وستصحو من غفلتها وتستفيق من أحلامها المستحيلة، وأنها التي سيكوى وعيها وستضطر إلى تغيير عقلها وربما سينسحب بعض أقطابها من الساحة السياسية، وسيعتزلون العمل السياسي كمن سبقهم في التطرف والإرهاب أمثال باراك ونفتالي بينت وغيرهم.

 

الفلسطينيون يرصدون الشارع الإسرائيلي ويعرفون مزاجه، ويقرأون عقله ويدرسون توجهاته، ويحللون آراءه ويتابعون تطوراته، ويدركون أن هذا المجتمع الأصولي المتطرف المنغلق المدعي الفوقية والمتظاهر بالسامية، سينتج مثل هذه الحكومة التي لا ترى غير نفسها، ولا تفكر إلا تحت أقدامها، ولا تقدم إلا على ما يحقق أحلامها ويلبي رغباتها ويستجيب لأفكارها، وينسجم مع هرطقاتها وأساطيرها، ظانةً أنها ستحقق ما تتمنى، وأن الأرض الفلسطينية ستكون أمامهم سهلةً فتطوى، وأن الفلسطينيين سيكونون أمامهم ضعفاء فيهزمون، أو جبناء فيهربون، أو خائفين فلا يقاومون.

 

 لكن لا يبدو أبداً أن فرائص الفلسطينيين ترتعد منهم وترتجف، وأن أسنانهم تصطك وأطرافهم ترتعش، وأنهم يخافون من حكومتهم ويضطربون، ويخشون بطشها ويرتبكون، ويحسبون حسابها ويتراجعون، إذ أظهرت الأيام القليلة التي مضت على تشكيل حكومة اليمين المتطرفة أن الشعب الفلسطيني أقوى من التهديدات، وأصلب عوداً وأثبت قدماً أمام المحن والابتلاءات، وأكثر جرأة على مواجهة التحديات والتصدي لما يسمونه مستحيلات، فقد أظهر أنه لا يخشى الموت ولا يهاب من القتل الذي بات سلاح المحتل اليومي ضدهم، وشبابهم في كل يومٍ يبتدعون عمليات مقاومةٍ بطوليةٍ ترفع قدر الفلسطينيين وتعز شأنهم، وتذل الإسرائيليين وتكشف ضعفهم.

 

لا أقلل أبداً من خطورة هذه الحكومة اليمينية الفاشية الكهانية الإسرائيلية، فهي حكومة منفلتة من عقالها، فاقدة لعقلها ورشدها، ولا تجد من داخلها من يردعها أو يلجمها ويمنع اندفاعها، وهي تبدو وكأنها ثيرانٌ هائجة خرجت من حظائرها تهاجم كل من تواجه ويعترض طريقها، وتدوس بحوافرها كل ما تجده أمامها، بشراً كان أو حجراً، وتهدم بهيجانها كل بنيانٍ تصادفه، وتطلق العنان لأتباعها المستوطنين، الذين لا يقلون خطراً عن حكومتهم التي تشجعهم وتحميهم، ولا يتورعون عن ارتكاب أبشع الجرائم ضد الشعب الفلسطيني كله، فهم يقتلون ويحرقون ويدمرون ويخربون، ولا يكاد ينجو من شرورهم أحدٌ من الفلسطينيين وبيوتهم وسياراتهم وحقولهم وبساتينهم وآبار مياههم.

 

رغم هذه السياسة الرعناء والممارسة العنيفة الهوجاء، إلا أن الفلسطينيين ينظرون إلى هذه الحكومة إلى أنها فرصة للتحدي والمواجهة، وسانحة للدراسة والمراجعة، يستفيدون منها في توحيد صفوفهم، وجمع كلمتهم، والاتفاق على برنامجٍ سياسيٍ واحدٍ يجمعهم، يقوم على قاعدة الحفاظ على الحقوق والتمسك بالثوابت والعودة إلى الأصول، والالتزام بخط المقاومة ومنهاجها العام، والتجديد في أشكالها وأنواعها، وعدم التفريط في أيٍ منها و إهمالها، لكن في ظل التمسك بالخيار العسكري كونه الأقوى والأفضل، والأجدى مع العدو والأفعل، فهو الذي يخشاه ويرهبه، ويتمنى ألا يعود إلى سابق عهده وأيام مجده، فهو يوجعهم ويؤلمهم، ويفكك مشروعهم ويضعف جبهتهم، ويمزق صفهم ويعبد الطريق نحو الهجرة المعاكسة التي تضر بهم.

 

أمام هذه الفرصة السانحة ينبغي على القيادة الفلسطينية، سلطةً وفصائل ومؤسساتٍ وفعالياتٍ، أن يستفيدوا من الفرصة ويعجلوا الحراك الفاعل، وأن يستغلوا الظروف الراهنة ويوسعوا الإطار الوطني، فالحكومة الصهيونية تلقى معارضة من مختلف الجهات، وتعاني من تصدعاتٍ داخلية وأزماتٍ حزبية، وتواجه معارضة شعبية وحزبية كبيرة، وإلا فإن الفرصة قد تفوت، وتنقلب المنحة إلى محنة، والتحدي إلى تردي، وينجح العدو في تكريس الانقسام وتعميقه، وتفسيخ الشعب وتمزيقه، وفرض إراداتٍ جديدةٍ وسلطاتٍ محلية، وروابط قروية أو لجان عائلية وعشائرية، وهو ما يطمع فيه ويتطلع إليه، فهل نكون أسبق منه وأوعى، وأسرع منه وأحكم، ونفرض الوحدة وننهي الانقسام، ونستعيد زمام المبادرة ونتحكم وحدنا في خيوط اللعبة.

 

بيروت في 18/2/2023

moustafa.leddawi@gmail.com

--
You received this message because you are subscribed to the Google Groups "الفكر القومي العربي" group.
To unsubscribe from this group and stop receiving emails from it, send an email to alfikralarabi+unsubscribe@googlegroups.com.
To view this discussion on the web visit https://groups.google.com/d/msgid/alfikralarabi/CA%2Bk3OjiXJX28_UjeNtaRLSjHEuWudd89rqvUhAp7jbYgZ1eXOg%40mail.gmail.com.

Tuesday 14 February 2023

{الفكر القومي العربي} تأمين المستوطنين حلمٌ لا يتحققُ وغايةٌ لا تدركُ

تأمين المستوطنين حلمٌ لا يتحققُ وغايةٌ لا تدركُ

بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي

ما من رئيس حكومةٍ إسرائيلي خلال حملته الانتخابية وأثناء ولايته الحكومية، إلا ويدعي أن هدفه الأول هو حماية المستوطنين وتأمين حياتهم، ومنع الاعتداء والتشويش عليهم، ووقف عمليات الفلسطينيين ضدهم، وإنهاء تهديد المقاومة لهم، وتفكيك قدراتها الهجومية، ومنعها من إطلاق صواريخها على المستوطنات، أو القيام بأنشطة وفعاليات من شأنها إرباك حياتهم، وتعطيل مشاريعهم.

 

لكن الواقع كان دائماً يكذبهم، والحوادث على الأرض تفضحهم، والحقائق التي تسجلها المقاومة ضدهم تخزيهم وتلحق العار بهم، فقد كان رؤساء الحكومات قبل المستوطنين يفرون كالجرذان ويهربون بأنفسهم عند سماعهم لأصوات صافرات الإنذار، أو عند سقوط صواريخ بالقرب منهم، وقد سجلت عدسات المصورين وتقارير الإعلاميين، لحظات نزول المسؤولين الإسرائيليين عن منصات الخطابة، وتركهم لجمهورهم من المستوطنين يتلقون الصواريخ ويتعرضون لأخطارها وحدهم.

 

وليس هذا هو حال رؤساء الحكومات الإسرائيلية فقط، بل إن المصير نفسه تلقاه أكثر من رئيسٍ لأركان جيش العدو ووزراء حربه، الذين اعتادوا على البخترة في شوارع المستوطنات، والتظاهر بالقوة والعظمة والتفوق والقدرة على الردع، والتشدق بعبارات التطمين والادعاء بالأمان، إلا أن المستوطنين أنفسهم ما عادوا يصدقونهم ويؤمنون بوعودهم، وقد رأوا بأنفسهم عدداً من رؤساء الحكومة ووزراء الحرب الذين أسقطتهم المقاومة، ومرغت أنوفهم بالتراب، وأرغمتهم على الاستقالة أو التراجع عن سياستهم والكف عن إطلاق التهديدات الفارغة والوعود الكاذبة.

 

رسائل التطمين ومحاولات التظاهر بالقدرة على حماية المستوطنين، لا تقتصر على مستوطنات الغلاف حول قطاع غزة، التي اعتادت المقاومة أن تمطرها من حينٍ لآخر بصواريخها التي غدت دقيقة، أو تغزوها ببالوناتها الحارقة التي أصبحت تصل إلى البيوت والمساكن، والمعامل والمصانع، والمزارع والحقول، وتشعل الأرض ناراً حول المستوطنين، وتجبرهم على الهروب إلى الملاجئ، والاحتماء بها من حمم البالونات الحارقة التي قد تتطور قريباً إلى طائراتٍ مسيرةٍ وبالوناتٍ موجهة، قادرة على حمل مواد متفجرة أكثر، وإصابةِ أهدافٍ أبعد وبدقةٍ أكبر.

 

لكن المقاومة الفلسطينية ما عادت تستهدف المستوطنين في غلاف قطاع غزة فقط، بل باتت تلاحقهم في كل الأرض الفلسطينية، وتصطادهم في كل مدنها وبلداتها، وتداهمهم في سياراتهم وأماكن عملهم، وتلاحقهم أثناء محاولاتهم العدوان والتخريب على الفلسطينيين، وتستهدف الجنود في ثكناتهم وخلال دورياتهم، وتنال منهم على الطرقات وعلى محطات الانتظار، حتى بات العدو يعترف أن كلفة عمليات المقاومة الفلسطينية أصبحت كبيرة، وخسائرهم بسببها غدت كثيرة وهي في ازديادٍ مستمر، وتشير احصائيات العام الماضي 2022 وبدايات العام الحالي أنهم فقدوا ما يزيد على الستين مستوطناً، فضلاً عن إصابة العشرات بإصاباتٍ بليغة، قد لا تزول آثارها ولا يشفى المصابون منها لسنواتٍ طويلةٍ.

 

أمام هذا الواقع المذهل للإسرائيليين، لا تتوقف قيادة أركان جيشهم إلى جانب الخطابات العامة والزيارات المتكررة لمناطق التوتر، عن تنفيذ المناورات العسكرية المختلفة، التي تحمل أسماءَ عديدة، ولكنها تتفق في هدف حماية المستوطنين وتأمين حياتهم، وتشارك فيها وحداتٌ عسكرية وأخرى مدنية طبية ونفسية ودفاعية، في محاولةٍ من قيادة الأركان لإرسال رسائل مزدوجة إلى المقاومة والمستوطنين معاً، ترهب فيها الأولى وتطمئن الثانية، لكنها لا تنجح في توصيل الرسالة الأولى كما تفشل دائماً في تحقيق هدفها من الرسالة الثانية.

 

رغم هذه المحاولات المحمومة وغيرها، فإن أحداً من المسؤولين الإسرائيليين لم يتمكن حتى اليوم من تحقيق هذا الحلم، ولا يبدو في الأفق البعيد أو القريب أنهم سيحققونه، رغم أنهم صادروا مئات آلاف الدونمات من أصحابها الفلسطينيين بحجة حماية المستوطنين، وبنوا مئات المستوطنات عليها، وشقوا الطرق وحاصروا المدن والبلدات الفلسطينية، وزرعوا معسكرات الجيش وثكناته في مختلف أرجاء الضفة الغربية.

 

ورغم أنهم أخضعوا الأرض الفلسطينية كلها لتبقى تحت نظر وسمع جيشهم وأجهزتهم الأمنية، ولم يبقوا فيها شبراً واحداً دون مراقبة ورصدٍ ومتابعة، فالأقمار الاصطناعية الإسرائيلية والأمريكية تعمل ليل نهار على تصوير كل شيءٍ في فلسطين، ومتابعة كل تغيير وتسليط الضوء على كل جديدٍ، ومئات آلاف الكاميرات الثابتة والمتحركة المنتشرة في أرجاء الضفة الغربية تسجل وتصور، وعشرات المناطيد الطائرة والطائرات المسيرة، وأجهزة التنصت والمتابعة، والمجسات الحرارية وأجهزة الإنذار المبكر، إلى جانب عيونهم التجسسية وعملائهم وأجهزة التنسيق الأمني المشتركة، إلا أن أحلامهم بأمن مستوطنيهم ما زالت ضائعة، وأهدافهم المرجوة ما زالت بعيدة.

 

لم تعد حياة المستوطنين آمنة، ولا طرقهم سالكة، ولا حياتهم سهلة ولا عيشهم رغداً، ولن يشعروا بالأمان في أي مكانٍ في فلسطين، حتى في قلب تل أبيب التي يظنون أن الفلسطينيين لا يستطيعون الدخول إليها، فقد وصلها الفدائيون ونفذوا فيها أروع وأضخم العمليات، التي غدت للمقاومين نموذجاً ومثالاً، وللمستوطنين رعباً وهلعاً، ولا يبدو في الأفق إلا أنها ستتكرر بأشد منها وأقوى، فقد أصبحت ميدان تنافسٍ وإبداعٍ وتقليدٍ ومحاكاةٍ بين الفلسطينيين، وما زال المستوطنون يعيشون لياليها وأيامها العصيبة كوابيس تؤرقهم في نومهم، وتحيل نهاراً حياتهم نكدة.

 

على المستوطنين أن يدركوا أن الفلسطينيين لن يتركوهم يعيثون في أرضهم فساداً، ويعتدون عليهم ويقتلونهم، وينتهكون حرمة بيوتهم ويحرقونها، ويصادرون أرضهم ويهدمون مساكنهم، ويحرمونهم من حقوقهم ويبالغون في الإساءة إليهم، بل سيتصدون لهم وسيواجهونهم، وسيقاومونهم وسيقاتلونهم، ولن يتخلوا عن حقوقهم أو يلقوا سلاحهم حتى تتطهر أرضهم من رجسهم، وتخلو بلادهم منهم، فهذه فلسطينهم التاريخية، وهي أرضهم ووطنهم وأرض آبائهم وأجدادهم، التي ورثوها بحقٍ عبر الزمن، وسيحافظون عليها بالدم مهما غلا الثمن.

 

بيروت في 14/2/2023

moustafa.leddawi@gmail.com

--
You received this message because you are subscribed to the Google Groups "الفكر القومي العربي" group.
To unsubscribe from this group and stop receiving emails from it, send an email to alfikralarabi+unsubscribe@googlegroups.com.
To view this discussion on the web visit https://groups.google.com/d/msgid/alfikralarabi/CA%2Bk3Ojjpp3k-DVJOjDfRgKUTg6pfTNaJD7gcvvK8J2ruNoE1dw%40mail.gmail.com.

Sunday 12 February 2023

{الفكر القومي العربي} الأسير الشهيد أحمد أبو علي أول ضحايا بن غفير

الأسير الشهيد أحمد أبو علي أول ضحايا بن غفير

بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي

لم تكن شهادته في الأسر مستغربة أو مستبعدة، وإن كانت صادمة ومؤلمة، ومحزنة ومقلقة، فقد استشهد غريباً أسيراً مصفداً بالأغلال ومقيداً بالسلاسل، وقضى بعيداً محروماً معذباً مريضاً متألماً، إلا أنها لم تكن مفاجئة أو غير متوقعة، فكل أسيرٍ في سجون العدو الإسرائيلي هو مشروع شهيدٍ وإن تأخرت شهادته، أو تعددت أشكالها وتباينت وسائلها، وسواء وقعت خلال فترة الأسر أو بعد التحرير، فالشهادة مآلهم والموت البطيء مصيرهم، والاحتلال يترقبهم وسلطاته ترصدهم، وسجانه يعذبهم، وأطباؤه يعجلون في شهادتهم، ويتعمدون قتلهم، ويساهمون في عذابهم، ويبالغون في معاناتهم.

 

لن يكون الأسير الشهيد أحمد أبو علي آخر الأسرى الشهداء، كما أنه ليس أولهم، فقد سبقه إلى الشهادة في الأسر وخلف القضبان بعيداً عن الأهل والعائلات مئات الأسرى، الذين قضوا في السجون والمعتقلات نتيجة الإهمال الطبي وغياب العلاج ونقص الدواء، والقتل البطيء، والإعدام المتعمد، والتعذيب المنهجي الذي يفضي إلى الموت، وسجلات الأسرى تشهد على شهادة المئات منهم في سجونهم، أو بعد أشهرٍ قليلة من نيلهم حريتهم، ومن لم تكن الشهادة خاتمته والموت في السجون منيته، فإن الأمراض المستعصية تلازمه، والمعاناة الدائمة لا تنفك عنه ولا تتركه، وما زال آلاف الأسرى يشكون من الأمراض التي لازمتهم في سجونهم، أو تلك التي سببتها ظروف اعتقالهم.

 

استشهاد الأسير أحمد أبو علي لم يكن مفاجئاً لشعبنا الذي اعتاد على تلقي أخبارٍ مؤلمةٍ كهذه، لكن الجديد المؤكد أن شهادته هي نتيجة طبيعية ومباشرة لتعليمات الإرهابي اليميني المتطرف إيتمار بن غفير، الذي صب جام غضبه على الأسرى والمعتقلين منذ اليوم الأول لتسلمه مهامه الرسمية في وزارة الأمن القومي الصهيونية، فهو المسؤول عن شهادته، وهو وحكومته اليمينية الذين نفذوا عملية الإعدام  وإن بدت نتيجة المرض، فقد أصدر أوامره بالتشدد في التعامل مع الأسرى والمعتقلين وتعذيبهم، وحرمانهم من الراحة في سجونهم أبداً، والاستمرار في تعذيبهم وقمعهم على مدى الساعة، وتنفيذ سياسات العزل الانفرادي والنقل القسري ضد مئات الأسرى، وبدأت مصلحة السجون استجابةً إلى تعليماته العنصرية بتخصيص زنازين عزلٍ للأسيرات الفلسطينيات، علماً أن الكثير منهن يعانين من أمراضٍ ويشتكين من ظروف الاعتقال السيئة.

 

نذكر قبل أيامٍ قليلة أن بن غفير قد طلب من إدارة مصلحة السجون الخاضعة لسلطاته، ألا تصغي السمع لشكوى الأسرى، وألا تضعف أمام أنينهم، أو تتراجع بسبب ادعائهم المرض أو إحساسهم بالألم، وألا تقوم بعرضهم على الأطباء أو عيادات الأسرى، وألا تنقلهم إلى المستشفيات للعلاج أو إجراء العمليات الجراحية العاجلة والملحة، وألا تستجيب إلى دعوات الصليب الأحمر ومؤسسات حقوق الإنسان، التي تطالبهم بتحسين معاملة الأسرى والتخفيف عنهم، متهماً الأسرى بالكذب والخداع، ومؤكداً أنهم لا يستحقون الرعاية والعلاج، ولا اللين أو الرفق في المعاملة، بل يجب التعامل معهم بكل شدةٍ وقسوةٍ، حتى يحين الوقت لتشريع قانون الإعدام وتنفيذه بحقهم.

 

هذه القسوة في المعاملة والشدة في إدارة السجون لا تراعي حالة الأسرى المرضى وظروفهم الصعبة، وأنهم لا يستطيعون تحمل سياسة "القمع" التي تتعمد إدارة السجون القيام بها دائماً وبصورة مفاجئة، حيث تخرج الأسرى جميعاً، مرضى وأصحاء ومسنين وأطفال، إلى الباحات العامة، في ساعاتٍ متأخرة من الليل وفي اجواء من البرد القارص والطقس العاصف.

 

يجبر السجانون خلال عمليات القمع الوحشية، الأسرى جميعاً على الجلوس في وضعياتٍ مؤذيةٍ ومؤلمةٍ لساعاتٍ طويلة، وتحرمهم خلالها من قضاء حاجتهم أو تغيير جلستهم، في الوقت الذي يوجد فيه أسرى مرضى بالقلب والروماتيزم والسرطان وضيق الصدر وصعوبة التنفس، فضلاً عن أمراض الكلى والقرحة والنزلات المعوية وغيرها، مما يزيد من سوء حالتهم الصحية، وضعف مناعتهم وتراجع قدرتهم على تحمل آلام المرض والأوجاع المترتبة عن الوقوف الطويل، والجلسات الصعبة، والبرد الشديد، فضلاً عن قيام الجنود بضربهم بالهراوات والعصي الغليظة، ورشهم بالغاز الخانق المدمع والحارق للعيون.

 

لا يبدو على إيتمار بن غفير القلق أو الأسى على وفاة الأسير أحمد أبو علي، ولا يعنيه أبداً أنه أبٌ لتسعة أطفال، وأنه قضى في السجون بعيداً عنهم وعن أسرته وعائلته عشر سنواتٍ، عانى خلالها من صنوف التعذيب وسوء المعاملة، وكابد الظروف السيئة والسياسات الحاقدة، ولن يكترث كثيراً بحالة الحداد العامة التي أعلن عنها الأسرى والمعتقلون في مختلف السجون لمدة ثلاثة أيامٍ، بل لعله فرحٌ بما أصابهم، سعيدٌ بما لحق بهم، ومبتهجٌ بحالة الحزن والأسى التي طغت عليهم، ولن يتوقف عن التفكير في الإساءة إليهم والتضييق عليهم، إلا إذا أصابته وحكومته من الشعب قارعةٌ على رأسه، أو لطمةٌ على وجهه، توقفه عن غيه، وتوقظه من سكرته، وتعيده إلى وعيه، رغم أنه ولا وعي عنده ولا رشد، ولا عقل عنده ولا قلب.

 

رحم الله الأسير الشهيد أحمد أبو علي، وتغمده بواسع رحمته، وأسكنه الجنة وخصه بالفردوس الأعلى مع الأنبياء والصديقين والشهداء، وعوضه عما لحق به في سجنه وأصابه في خاتمة حياته خيراً، وأعلى مراتبه ورفع درجاته، وارتقى به إلى عليين، وصَبَّرَ أهله وعَظَّمَ أجرهم، وجعل أولاده من بعده خير خلفٍ له، يبرونه ويحفظونه، ويسيرون على دربه ويقلدونه، ويحفظون عهده ويصونون أمانته.

 

بيروت في 12/2/2023

moustafa.leddawi@gmail.com

--
You received this message because you are subscribed to the Google Groups "الفكر القومي العربي" group.
To unsubscribe from this group and stop receiving emails from it, send an email to alfikralarabi+unsubscribe@googlegroups.com.
To view this discussion on the web visit https://groups.google.com/d/msgid/alfikralarabi/CA%2Bk3OjiKX_p8JmiZx%3DS2P0zBL%3DVkXdWKm_%2BC_ohpbe3ozGg0tA%40mail.gmail.com.

Thursday 9 February 2023

{الفكر القومي العربي} لسوريا السلام ولشعبها الأمان مهما قسا الزمان

لسوريا السلام ولشعبها الأمان مهما قسا الزمان

بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي

قيم الحق ثابتة، والأخلاق الحميدة واحدة، والمفاهيم الإنسانية مشتركة، ومعاني الخير لا تتجزأ، ومعايير العدل لا تتبدل، ودرجات الشهامة ومنازل المروءة لا تتناقض، والسمو والضعة لا يجتمعان، والخير والشر لا يلتقيان، والنبالة والنذالة لا تتوافقان، فلا يكون الإنسانُ إنساناً في مكان ويتحول إلى وحشٍ في مكانٍ آخر، ولا يدعي النبل في موقع ويكون خسيساً في آخر، ولا يكون كالجزار يحمل غصناً بيدٍ وسكيناً حادةً باليد الأخرى، ولا يدعي الرحمة والإنسانية ويبدي الشفقة والرأفة بين جمعٍ من البشر، ثم يكون عكس ذلك وأشد بين غيرهم من الخلق، الذين يساوونهم في الإنسانية ويتوافقون وإياهم في الخلق، وربما يشتركون معهم في الأرض والدين، لكنهم يتمايزون عنهم في الانتماء والجنسية.

 

الزلزال المدمر الذي ضرب جنوب تركيا وشمال سوريا، وألحق أضراراً بالغة في البلدين، وتسبب في خسائر فادحة في الأرواح بين الشعبين، وضاعف الخسائر الأليمة وفاقمها أنه وقع في ظل موجاتٍ قاسيةٍ من البرد والصقيع، والعواصف الشديدة والأمطار الغزيرة، كشف عن تناقضٍ في الأخلاق مخلٍ، وازدواجية في المعايير معيبة، وعنصريةٍ في السلوك مقيتةٍ، فالضحايا من الجانبين عربٌ وتركٌ، جيرانٌ منذ الأزل، وإخوانٌ منذ أمد، مسلمون ومسيحيون على مدى الزمن، جمعتهم الأرض ووحدهم التاريخ، وسمت بهم أخلاقهم النبيلة، وارتقت بهم قيمهم العظيمة وعلاقاتهم الرشيدة، وهم من قبل هذا كله بشرٌ متساوون في الخلق والحقوق.

 

المصيبة كبيرة، والخسائر من الطرفين جسيمة، وحجم الدمار في المنطقتين مهولٌ جداً، مما استدعى أصحاب دول العالم المختلفة إلى الإعلان عن عزمها المشاركة في حملات إغاثة ومساعدة المنكوبين من هذا الزلزال، فحركت الحكومات أساطيلها الجوية، ونقلت إلى الأرض طواقمها الإغاثية والإسعافية، المحملة بكل ما يحتاجه المتضررون من هذه الكوارث، كالفراش والأغطية والملابس والأدوية وغير ذلك، ولحقت بها الفرق الفنية الخاصة بمثل هذه الكوارث الطبيعية، ممن لهم القدرة وعندهم الخبرة ولديهم الأجهزة المختصة في إزالة الركام والأبنية المهدمة، وتستطيع بالإضافة إلى استخراج الجثت، البحث عن الناجين وإنقاذهم، والوصول إلى العالقين وإخراجهم.

 

أمام هول النكبة اتجهت أغلب المساعدات الدولية نحو تركيا، التي نعتز بها ونفتخر، ونقدر جهودها ونحفظ مكانتها، ونترحم على ضحاياها ونتمنى السلامة لأهلها والشفاء لجرحاها، وهي الدولة القوية القادرة الرائدة، صاحبة التجربة والخبرة والكفاءة، التي ربما تستطيع وحدها أن تداوي نفسها بنفسها وتبلسم جراحاها وتدفن ضحاياها، وتعيد بناء ما تهدم من بنيانها وتخرب من عمرانها، ورغم ذلك فقد شكرت كل من هب لنجدتها، وسارع لمساعدتها، وأبدى استعداده للتعاون معها وتقديم المساعدات للمتضررين من أبنائها.

 

لكن هؤلاء الذين انبروا لمساعدة الأتراك، وحركتهم النخوة لنجدة المنكوبين، نسوا أن الزلزال قد أصاب سوريا أيضاً، وتسبب لها في خسائر فادحة، وألحق ضرراً كبيراً بمدنها وقراها، وقضى على المئات من مواطنيها، وترك أهلها وحدهم يواجهون الموت المندفع، والدمار الذي على مدى العين لا ينقطع، والخراب الذي أحدثه الزلزال المُرَوَّع في ظل أجواء الشتاء العاصف وموسم الثلج البارد، وقد انتشرت صور معاناتهم، وتداول المهتمون على وسائل التواصل الاجتماعي حوادث عنهم كثيرة، توخز الضمائر وتستجيش المشاعر.

 

تخلى مُدَّعوو الإنسانية عن أخلاقهم وشيمهم، وقسموا قيمهم ومبادئهم، وأغمضوا عيونهم ولم يلتفتوا إلى قلوبهم، فلم يمدوا اليد لمساعدة المنكوبين في سوريا، ولا لنجدة المفجوعين من أهلها، وهم يعلمون أنهم ضعفاء فقراء، ومحاصرون معاقبون، ولا حول لهم ولا قوة، ولا معدات عندهم ولا آليات، ولا وسائل تساعدهم ولا سبل تنقلهم، وأنهم يركبون المستحيل للوصول إلى المناطق المنكوبة، ويجرفون الأنقاض بأيديهم التي يبسها البرد، وينقبون في الأرض بأظافرهم التي تكسرت، وهم يستنقذون الأحياء ويستخرجون الأموات، ويصغون السمع في أجواء من الصمت المخيف والخشوع المهيب، علهم يسمعون أنيناً، أو تصل إلى مسامعهم آهةٌ، أو يشعر بهم حيٌ فينادي عليهم مستغيثاً بهم.

 

قد لا نملك نحن أبناء الأمة العربية والإسلامية غير الدعاء لسوريا وشعبها، التي ما كادت تتجاوز محنتها الدموية حتى أصابتها الطبيعة بنابها، لكن هذا لا يمنعنا أبداً من أن نرفع أصواتنا عاليةً ندين بها السلوك العالمي المشين ضد سوريا وشعبها، ونستنكر الحصار البغيض المفروض عليها، والذي يساهم إلى جانب الحرب والزلزال في تعميق الجراح ومضاعفة الآلام وزيادة أعداد الضحايا والمنكوبين، وعلينا أن نعلن أن هذا الحصار المفروض على سوريا، حصارٌ ظالمٌ قاتلٌ ومميت، وهو يتنافى مع مفاهيم الإنسانية ومعايير العدالة، وهو ليس انتصارً للشعب وانتقاماً من النظام، وإنما هو انتصارٌ للغرب ومصالحه، وتمكينٌ للكيان وتبديدٌ لمخاوفه، فالشعب بسيف حصارهم يذبح، وبقيصر قانونهم يقتل، وبخبث سياستهم يخنق.

 

بيروت في 9/2/2023

moustafa.leddawi@gmail.com

--
You received this message because you are subscribed to the Google Groups "الفكر القومي العربي" group.
To unsubscribe from this group and stop receiving emails from it, send an email to alfikralarabi+unsubscribe@googlegroups.com.
To view this discussion on the web visit https://groups.google.com/d/msgid/alfikralarabi/CA%2Bk3Ojj576wmeMqm%3D-%2BqaouBcKSADQtekPzqLkxJa%3DySOxc1%2Bw%40mail.gmail.com.