#الجاسوس_الذي_تمنح_نقابة_الصحافيين_جائزة_باسمه :
كان القلب يقظًا ، والجو مفعمًا ، وكنت عائدًا من مهجر سياسي طال، أتفرس في القاهرة كأنني أفتش فيها عن بقايا نبض قديم .بعد أيام قليلة دهمتني مفاجأة غير متوقعة ، فقد وجدتني أصافح رجلاً كنت أعرفه وأقدره، وكان آخر موقع له في العمل الرسمي ، هو رئيس جهاز المخابرات العامة ، وكان قد غادره قبل سنوات في ظروف ميلودرامية عنيفة . وانخرطنا دون أن ندري في دائرة حوار، وعند نقطة ما على محيط الدائرة قلت:
أتنسم في الجو رائحة ديمقراطية ، لكني أكثر ما يصيبني بالأسى ، أن تكون صورة مصطفى أمين في الصحف العربية - خصوصًا السعودية – وكأنه نبي هذه الديمقراطية وفارسها ، ومؤلف إنجيلها.
والتفت إلى رئيس جهاز المخابرات العامة السابق وقلت أعرف أنني لا أستطيع أن أنتزع منك سرًا، ولكن في هذه القصة بالذات ، هل يمكنك أن تجيبني على سؤال واحد، هل كان مصطفى أمين في قضيته الشهيرة عميلاً بالفعل للمخابرات المركزية الأمريكية ، أم أن المسألة لم تكن كذلك بالضبط.
تجهم وجه الرجل، وانعكس ما يعتمل في داخله على ملامح وجهه وقال:
لقد طرحت هذا السؤال على نفسي بإلحاح شديد ذات يوم ، وبحثت له مثلك على إجابة يقينية . أما التفاصيل . فإنها لا تخلو من مفارقة.
لعلك تعرف أن مصطفى أمين وشقيقه قد تم القبض عليهما بعد الثورة بأيام معدودة ضمن حاشية القصر الملكي وأعوان الملك، وإن هذا الإجراء قد تم بأوامر من مجلس قيادة الثورة . أما السبب الواضح وراء ذلك فقد كان يرجع إلى الشكوك والظنون التي تحيط بدورهما، ودور أخبار اليوم، وعلاقتهما بالقصر الملكي والسفارة الانجليزية.
ولكن ذلك على كل لم يكن السبب المباشر وراء الاعتقال لأن الظنون والشبهات كانت تحيط بغيرهما ، ومع ذلك لم يتم إجراء مماثل ، وبهذه السرعة.
كان السبب هو معلومة محددة وضعت على مكتب جمال عبد الناصر، تفيد بأن مصطفى أمين قد أجرى اتصالات يوم قيام الثورة مع جهات أجنبية.
ولعلك تعرف أنني كلفت بعد ذلك بقليل بأن أشرف على أخبار اليوم، وأنني بالفعل كنت أغادر موقعي كل يوم في إدارة المدفعية ، بزيي العسكري، وأتوجه إلى هناك، حيث أقضي جابًا كبيرًا من الليل . ولا أبالغ إذا قلت أنني شكلت بمرور الوقت صورة مختلفة للأخوين علي ومصطفى أكثر من ذلك فقد استطاعا أن يأسراني بودهما وحضورهما وقدرتهما العجيبة على التسرية، وانتزاع الضحك، وتحولت من دور الرقيب إلى مكانة الصديق بسرعة وألفة، وقد ظللت أحتفظ بملامح هذه الصورة لهما لسنوات طويلة فلم ينقطع الود ، بعد أن انتهى الدور الذي أسند إلى.
ولا أبالغ كذلك إذا قلت أنني شعرت يوم 22 يوليو 65 بحزن طاغ ، وأنا أقرأ في الصحف ، بيانًا قال أنه تم القبض على مصطفى أمين أثناء مقابلته مع بروس تايلور أوديل، الضابط بوكالة المخابرات الأمريكية ، وأنه - أي مصطفى - يعمل عميلاً للمخابرات الأمريكية ويقدم لها معلومات سياسية واقتصادية وعسكرية ، تضر بأمن البلاد.
ولم أستطع أن أبتلع الخبر بضمير مستريح فقد كان بالنسبة لي مناقضا تماما للصورة التي ظللت أحملها لصاحبه وظل هاجس قوي في داخلي يقول أنه ربما كان . هناك تجاوز . أو سوء تقدير أو سوء فهم أو حتى سوء نية لكن الأمر لا يمكن أن يكون التجسس لصالح وكالة المخابرات المركزية الأمريكية .
وظل هاجسي متصلا لسنوات طويلة حتى حانت اللحظة التي حملتني سيارة مرسيدس سوداء . إلى مبنى جهاز المخابرات العامة ، بوصفي رئيسه الجديد .
ولم أجلس على مكتبي طويلا وأتأمل ، فقد وجدتني أطلب مباشرة ملف قضية مصطفى أمين .
كان الملف دسما بالأوراق ، وحين تلامست يدي معه أصابتني حالة توتر شديد .. وسألت نفسي .
ماذا لو لم أجد في هذا الملف ما لا يقيم أدله ثبوتية على أن مصطفى أمين كان عميلا للمخابرات الأمريكية ، ماذا لو تأكد لي أن القضية كانت شيئا آخر : تلفيقا أو تصفية حسابات .أو إنها قامت على قاعدة من الظن .
ووجدتني مشدوها أقول لنفسي . لن يكون هناك بديل عن أن أخاطب الرئيس وأقول له :
آسف ، لقد اكتشفت أنني لا أصلح لهذه المهمة توقعت وقع المفاجأة عليه . وإنه سيطلب الأسباب ، ولكنني قلت لنفسي . سوف أتمسك بقراري دون أن أبدي سببا . فلم يكن بالأمر السهل بالنسبة لي أن أقبل برئاسة جهاز المخابرات المصرية بكل تاريخه المجيد . وسمعته المشهودة على مستوى كل أجهزة المخابرات في العالم كله . ثم أكتشف أن دوره كان أن يلفق قضية تجسس لصحفي . بل لصديق .
وحين انتهيت إلى ذلك الخاطر. استرحت وشرعت بشكل مباغت أعدو بين السطور .دون توقف وحين انتهيت . أزحت الملف إلى مقدمة المكتب . وكأنني أزيح كابوسا ثقيلا .
وتتابعت أنفاسي وشعرت بأنني أريد أن أتكلم مع أحد . وطلبت أحد مساعدي ووجدتني أقول له دون مقدمات وأنا أشير إلى الملف :
إنها قضية تجسس مع المخابرات المركزية الأمريكية بنسبة مائة في المائة .
ورد مساعدي قائلا :
إنها كذلك بالفعل وهي إحدى عمليات الجهاز الناجحة ونحن ما نزال نحتفظ اعتزازا وفخرا – ببعض أشرطة القضية ووثائقها الأصلية . معروضة في متحف هيئة الأمن القومي في المبنى المجاور .. ولا أعتقد إنها ستنقل من هناك يوما إلى الأرشيف ..
أضاف رئيس جهاز المخابرات العامة السابق وهو يضغط على حروفه :
بدأت أتأمل للمرة الأولى ملامح غرفتي الرحبة . وأحس بدفئها . وانتابني شعور بأن المقعد الذي أجلس عليه قد أصبح أعلى وأقوى . ثم تحللت في ذاكرتي صورة مصطفى أمين تماما.
**
وقدر لي بعد ذلك أن التقي بأحد كبار المسئولين السابقين في الجهاز . وكان الرجل كريما معي . فقد قدم لي تفاصيل ووقائع أخرى من جوف القضية . وكان ذلك قبل صدور كتاب الأستاذ محمد حسنين هيكل . بين الصحافة والسياسة بعدة سنوات وحين صدر الكتاب بمعلوماته الموثقة . أخذت أقارن بين الوقائع التي سمعت والوقائع التي قرأت . وكونت صورة واسعة عميقة لما حدث ، أما بعض التفاصيل . فأنها تستحق الآن بالفعل عناء محاولة التأمل والمراجعة .
**
كيف تم كشف القضية . أو كيف تبين لأجهزة الدولة أن "مصطفى أمين " يقوم بعمل تجسسي لصالح المخابرات الأمريكية من خلال أحد ضباطها في مصر ؟
الغريب أن "مصطفى أمين " كان في دائرة الثقة . فقد كان مقربا من الحكم كما كانت كتاباته كلها تلهج ثناء عليه وعلى الثورة . وعلى " جمال عبد الناصر "ولم يكن هناك أي مبرر بهذا المعنى . لمراقبته . أو البحث وراءه . فضلا عن تلفيق تهمة كاذبة له . وفضلا عن لقاءاته مع كافة المسئولين فقد كان يرسل إلى صلاح نصر وهو في موقع رئيس جهاز المخابرات . تقارير متصلة عن كل شيء تصله أخباره داخل مصر . ولم يطلب منه أحد ذلك . لكنه كان يمارسه بإصرار وانتظام .. وعلى إمتداد سنوات طويلة .
ولولا أن عاملا خارجيا قد ظهر في القضية وحدد بدايتها ولولا دقة معلومات ورصد ومتابعة جهاز المخابرات العامة الذي كشف بجهده الخاص . الخيط الأول وتابعه بدأب وصبر . ما كان يمكن أن يدخل " مصطفى أمين " في دائرة الشك ثم اليقين ثم يضبط متلبسا بحالة التجسس .
خلفية الحدث العامة ، نشاط محموم متصاعد لوكالة المخابرات المركزية الأمريكية في مصر . بعد أن تدهورت العلاقات بشكل كبير بين القاهرة وواشنطن . ووصلت إلى حد صراع الإرادات . بين "عبد الناصر " و"جونسون " الذي راح يهدد باستخدام سلاح القمح ضد مصر .
أما الخلفية الخاصة ، التي شكلت الخيط الأول . فكانت عبارة عن تقرير من أحد رجال المخابرات العامة في العاصمة اليونانية (أثينا) كان تاريخ التقرير 6 مارس 1964 وكان يتضمن معلومات محدده بأن المخابرات المركزية الأمريكية ستوفد أحد ضباطها إلى مصر ، تحت ستار أنه مستشار في السفارة الأمريكية بالقاهرة وأن اسم هذا الضابط هو ( بروس تيلور اوديل )!
لكن بروس لم يظهر في القاهرة ألا في شهر أغسطس عام 1964 .وحين أصدرت قيادة الجهاز أمرا بمتابعة ورصد حركته بدقة . كانت تقارير المتابعة الدقيقة تؤكد على امتداد أربعة أشهر متصلة أنه يظهر بمظهر ديبلوماسي عادي . بعد ذلك مباشرة . وبشكل مفاجئ ظهرت صورة "مصطفى أمين " فوق خريطة لقاءاته واتصالاته . ولم يلبث وضع الصورة التي تطور خلال الشهور الأربعة التالية، فقد أصبح اللقاء بينه وبين "مصطفى أمين" دوريًا وفي موعد محدد هو يوم الأربعاء أسبوعيًا ، وعلى مائدة غداء ، أو مائدة عمل في بيت "مصطفى أمين"، وكانت المائدة كما تبين - لا تضم سوى اثنين دائمًا ، ضابط المخابرات الأمريكية ، ومصطفى أمين ، وتبين أن ضابط المخابرات يقوم عند كل لقاء بمعلومات تمويه – للهروب من أي رقابة أو متابعة مقترحة ، فقد كان يترك سيارته في شارع بعيد عن شارع صلاح الدين بالزمالك ، حيث شقة "مصطفى أمين" وأنه لم يكن يصعد إلى الدور السادس مباشرة ، وإنما يصل إلى دور آخر، ويكمل طريقه إلى الشقة ، صعودًا أو هبوًطا على درجات السلم .
وفي نهاية شهر إبريل 1965 وضعت هيئة الأمن القومي أجهزة تسجيل تحيط بمكان الاجتماع الدوري المنتظم في بيت "مصطفى أمين" وأصبح لديها بانتظام - أيضًا - تسجيل أسبوعي ، لما يدور في الاجتماع من وقائع ، وبعد أن حصلت على ثمانية تسجيلات منفصلة ، وتبين من خلالها أن ضابط المخابرات الأمريكية يقدم أسئلة مكتوبة إلى مصطفى أمين ، وأن الأخير يقدم إجابته عليها ، وأنها جميعها تدور حول معلومات سياسية ، وعسكرية ، واقتصادية، تمس الأمن المصري في الصميم. كتب رئيس هيئة الأمن القومي في 20يوليو 1965 خطابًا إلى رئيس نيابة أمن الدولة كان نصه (كما أورده الأستاذ هيكل في كتابه):
نحيط سيادتكم أن السيد "مصطفى أمين" - مصري الجنسية ، يعمل رئيس تحرير الأخبار – يقيم 8 شارع صلاح الدين بالزمالك، الدور السادس شقة 62، وفي فيلا تقع في 26 شارع الإسماعيلية المتفرع من طريق الحرية الإسكندرية.
وقد دلت حرياتنا على أن المذكور يقوم بالتخابر والعمل لحساب المخابرات الأمريكية في القاهرة ، والعمل ضد أمن وسلامة الدولة ، يعاونه في ذلك آخرون، ويجتمع المذكور مع مندوب المخابرات المركزية الأمريكية الحالي في القاهرة الساعة 1400 يوم الأربعاء الموافق 21/7/1960.. برجاء التكرم باتخاذ اللازم قانونًا لضبط هذا الاجتماع.
وفي الموعد المحدد بالضبط ، فوجئ بروس ومصطفى أمين بضبطهما في بيت الأخير وكانت التسجيلات والوثائق الحية ، تؤكد دون أدنى شك أن مصطفى أمين يعمل جاسوسًا للمخابرات الأمريكية.
***
ثمانية أشرطة تسجيل كانت - وما تزال - لدى جهاز المخابرات العامة ، بوقائع اللقاءات الدورية بين ضابط المخابرات الأمريكية بروس تايلور أويدل، وتلك بعض نماذج من هذه التسجيلات.
• صوت مصطفى أمين:
هناك مسألة مهمة: كانت هناك سيارة قادمة من السويس إلى الإسماعيلية ، سيارة عسكرية فيها عدد من الضباط أوقفت عند الكيلو 25، وعند تفتيشها وجدوا فيها 241 كيلو ديناميت رقم السيارة 39036.
• صوت مصطفى أمين:
لقد وقع انفجار في مؤخرة المدمرة المصرية "القاهر" الانفجار وقع داخل المدمرة ، وقُتل فيه عدد كبير جدًا من الضباط والجنود هناك 45 جريحًا كثيرون منهم حالتهم سيئة ، هذه المدمرة أحسن مدمرات الأسطول البحري .
• صوت مصطفى أمين:
أبلغني (ر) أي الرئيس عبد الناصر- أنه تم اكتشاف خلايا سرية في وحدات المشاة بالجيش المصري ، وأنه لايعرف ميول هذه الخلايا بعد..
• صوت مصطفى أمين:
زادت وطأة مرض السكر على (ر) بعد أن علم بانقلاب الجزائر ضد بن بيللا . كان المرض قد أصابه بعد انقلاب سوريا.
• صوت مصطفى أمين:
إننا سنطلب شحن أسلحة جديدة من روسيا ، يبدو أن ذلك سيتم عند سفر وفد مصري للاشتراك في احتفالات موسكو.
• صوت مصطفى أمين:
الحالة المالية سيئة جدًا ، و(ر) قال أنه سيخصص 15 مليون جنيه اعتمادًا إضافيًا للجيش.. وأن هناك اقتراحين على مكتب وزير التموين واحد بشأن رفع ثمن الخبز أو خلطه ، والثاني بشأن رفع قيمة منتجات البترول.
• سؤال من (أوديل) إلى مصطفى أمين:
هل تستطيع أن تحصل على نسخة من نص كلام (ر) في الاجتماع السري للهيئة البرلمانية للاتحاد الاشتراكي.
وعد مصطفى بالحصول عليه وتسليمه.
• سؤال من (أوديل ) .
من الذي قام بعملية الأنفجارات التي وقعت لخط أنابيب البترول في ليبيا ؟
أجاب مصطفى بأنه عزت سليمان – أحد كبار المسئولين في المخابرات العامة انذاك .
• سؤال من أوديل :
لدينا تقارير عن مقابلات المشير عامر مع زعماء وقبائل (جهم) في اليمن .لكن هناك فجوة في تحركات عامر لا تعرف ماذا كان نشاطه في أيام 21 ،22 ،23 فهل تستطيع أن تتحرى أين كان في هذه الأيام الثلاثة ؟
• سؤال من أوديل :
هل هناك قوات عسكرية مصرية إضافية ذاهبة لتعزيز القوات الموجودة في اليمن .. ؟
(أجاب مصطفى أمين : نعم ) !
• سؤال من أوديل :
هل تستطيع أن ترتب أمرك لكي تحضر مؤتمر قمة الجزائر أن هذا المؤتمر يهمنا جدا . وقد كانوا يفكرون في إرسالي شخصيا إلى هناك.
كان مطلوبا من مصطفى أمين أن يذهب إلى مؤتمر الجزائر ، نيابة عن الضابط المسئول عن المخابرات المركزية الأمريكية في مصر.
***
قرر في اليوم التالي للقبض على مصطفى أمين ، أن يقوم وزير الخارجية ، السيد محمود رياض ، باستدعاء السفير الأمريكي في القاهرة المستر لوشيوس بايل " وإبلاغه باستياء مصر مما جرى واعتبار مستر " بروس تايلور اوديل " شخصا غير مرغوب فيه ( وكان أوديل قد استقل أول طائرة وغادر مصر عقب الواقعة مباشرة ) .
وكتب محمود رياض مذكرة عن مقابلته للسفير الأمريكي كان نصها كما يلي :
مكتب الوزير
22/7/1965
السفير الأمريكي مستر باتل .
استدعيته الساعة 15:30 وأبلغته بموضوع القبض على مصطفى أمين يوم 20 يوليو في الإسكندرية أثناء تقديم تقريرا لمستر بروس أوديل الملحق بالسفارة الأمريكية .
وأنه تبين من التحقيق الأول ومن الأوراق التي ضبطت أن مستر أوديل قد وجه أسئلة بخط يده إلى مصطفى أمين وأن المعلومات التي قدمها له الأخير كانت تتضمن معلومات سياسية وعسكرية تمس أمن الدولة وسلامتها . وأن زيارة الملحق الأمريكي لمصطفى أمين لم تكن زيارة عادية حيث أن مصطفى أمين كان يقدم له تقارير أسبوعية .
ذكر السفير أنه صدم بالحادث .. ورجا ألا يترك أي أثر على العلاقات بين البلدين التي يعمل على تدعيمها .
.................
.................
وزير الخارجية
محمود رياض
***
في السجن وبعد أن ووجه مصطفى أمين بالاتهام ، وسمع الشرائط المسجلة . واكتشف أن كل شيء ثابت في أوراق وتسجيلات المخابرات العامة . لم يجد بديلا من أن يطلب أوراقا وأقلاما . حيث قرر أن يكتب اعترافا تفصيليا لجمال عبد الناصر يستدر عطفه ويطلب رحمته . وقد اعتكف مصطفى أمين أربعة أيام كاملة يدون رسالته إلى " عبد الناصر " وقد وصلت إلى ستين صفحة بخط يده .
وفي مساء يوم 18 أغسطس – كما يقول " محمد حسنين هيكل " كنت مدعوا إلى العشاء مع جمال عبد الناصر في استراحة المعمورة بالإسكندرية . وخرجنا بعد العشاء نتمشى على شاطئ البحر ونتحدث طويلا وبعيدا عن كل شيء .
وفجأة قال لي الرئيس .
على فكرة سوف أعطيك نسخة من خطاب بعث به مصطفى أمين من ستين صفحة . ثم أضاف .
لا أظنك تستطيع أن تقول أن ضغطا وقع عليه من أي نوع لكي يكتب خطابا من ستين صفحة . بالضغط يمكن لأحد أن يكتب صفحة أو صفحتين . أما أن يكتب بالضغط ما يكاد أن يكون كتابا كاملا .. فهذا مستحيل .
ثم استطرد الرئيس .
لكي أكون دقيقا وأمينا معك فأني أعتقد أنه فوجئ بالتسجيلات وبكميات ما تحتويه من مصائب ثم أنهم طمأنوه إلى أقصى حد لكي يعترف : قالوا له فيما أتصور أن خبر القبض عليه لم ينشر بعد وأنه إذا اعترف اعترافا كاملا فإن الموضوع يمكن أن يكون محل نظر . وقالوا له أن اعترافا مفصلا هو الشيء الوحيد الذي يمكن أن يوفر إمكانية حصر الضرر الذي يمكن أن ينشأ نتيجة لما قاله لضابط المخابرات الأمريكي ، وقد يساعد هذا على التصرف في القضية .."
وأعطى جمال عبد الناصر هيكل صورة من الاعتراف بخط يد مصطفى أمين وتلك على كل بعض سطوره .
كتب مصطفى أمين إلى جمال عبد الناصر .
أنني أشعر أنني أسأت إليك وأنني لم أعد جديرا بالثقة التي وضعتها في ..
وأنني على استعداد لأن أعمل ما ترون ولو كان ثمن ذلك التضحية برأسي . إذا كانت هذه هي الوسيلة لإصلاح ما أفسدت أو ما أكون قد أسأت به إليك في هذه الأحاديث . ولهذا سأحاول أن أحدد بعض ما قلته على لسانك . كذبا – في أحاديثي مع بروس أوديل .
في حديثي معه يوم الأربعاء 7 يوليو 1965 قلت له عندما تحدثنا عن حادث سقوط الطائرة انتينوف على بعد 11 كيلو من السويس أن جميع ركابها قد لقوا حتفهم فيما عدا ضابط روسي تمكن من النجاة . وأن ثمن الطائرة يبلغ حوالي مليون جنيه . وأن الضابط الروسي الذي نجا رفض التحدث إلى السلطات المصرية وتوجه إلى السفارة الروسية .
• جرى حديث عن الحالة في العراق وقلت على لسانك أن الحالة في العراق سيئة . وأن أمين هويدي . ألغى أجازته وأن 12 وزيرا ناصريا سيستقيلون .. وأنك تفكر في استدعاء القوات المصرية الموجودة في العراق .
• قال بروس أن نهاية خالد محي الدين قد قربت وتساءل ماذا سيكون رد فعل الرئيس عبد الناصر إذا أثبتنا أن خالد محي الدين عميل شيوعي سوفيتي وقلت له أن الرئيس لن يصدق ذلك في خالد محي الدين .
• تحدثت معه عن صفقة القمح الروسي . وقلت بلسان سيادتكم أنه برغم أن الصفقة لم تكن كبيرة ألا أنكم أمرتم بالإشادة بها . وأنكم قمتم بأنفسكم بالاتفاق على هذه الصفقة مع الاتحاد السوفيتي ، برغم من أن السفير الروسي والسفارة الروسية نفسها كانت ترى أنه من الصعب أن تحصل مصر على كمية من هذا القمح في الظروف الحاضرة.
• قلت لبروس على لسانكم أن الماريشال تيتو أرسل لكم رسالة يقترح فيها أن تؤيدوا روسيا في موقفها من فيتنام وأن تعملوا على أن تؤيد الجزائر والهند هذا الموقف . وذلك لأن روسيا في حاجة إلى هذا التأييد نظرا لموقفها السيء بسبب نزاعها مع الصين ، وأن تيتو سيزور موسكو ويقنع الزعماء الجدد. بأن يعطوا معونة ضخمة للجمهورية العربية في مقابل هذا الموقف .
• جرى حديث عن الوضع الداخلي فقلت أن سيادتكم مهتمون بتقوية الاتحاد الاشتراكي، ومهتمون بالوزارة الجديدة، وأن المرشح لرياسة الوزارة : هو "زكريا محيي الدين".
• جرى حديث مع بروس عن موقفنا من بريطانيا في الخليج العربي واليمن وقلت له على لسانكم أن الرئيس على استعداد أن يهديء الحالة ويصل إلى اتفاق مع بريطانيا باستخدام نفوذ مصر على شعوب المنطقة بشرط أن توقف بريطانيا مساعدتها للملكيين ضد الجمهورية في اليمن وأن الرئيس قال أنه لا يريد أن تستخدم القاعدة الجديدة الموجودة في ليبيا ضد مصر .
• جرى حديث مع بروس:عما تقوم به المخابرات الأمريكية في المنطقة، وذكرت على لسانكم أنكم تعتقدون أن المخابرات الأمريكية تقوم بنشاط ضد مصر في كل المنطقة ،/ وأنها هي التي أسقطت الناصرية في انتخابات ليبيا، والناصرية في انتخابات السودان، وأنها تسيطر على جيش الملك فيصل في السعودية ، وأنها تسيطر على الحكم في تونس، وأنها هي التي أقامت الحصار حولنا من السعودية، ومن ليبيا ، ومن السودان ، ومن المغرب ومن تونس.
• تحدثنا عن الميزانية ، وذكرت لبروس على لسان سيادتكم أنه سيخصص مبلغ 17 مليون جنيه ومبلغ عشرين مليونًا في الميزانية القادمة لشراء القمح. وأن هناك فكرة لخلط الخبز ورفع ثمن البترول (!()
• قلت لبروس على لسانكم أننا سنرسل علماء إلى الصين وأننا سوف نصنع القنبلة الذرية، وأنكم اتفقتم على ذلك في زيارة شواين لاي.
• قلت على لسان سيادتكم أنكم طلبتم من المشير عامر تخفيض نفقات الجيش لأن البلد تواجه صعوبات ، وأنكم ذكرتم أن هناك بعثة ستسافر لشراء أسلحة من الاتحاد السوفييتي .
• قال لي بروس أن الحكومة الأمريكية تريد أن تواصل بعض توجيهاتها إلى السيد رئيس الجمهورية ، في قالب يقبله وذلك عن طريقي بصورة مباشرة أو غير مباشرة ، فقلت أن أحسن طريقة لهذا أن أقوم بتبليغ الرئيس ببعض الأنباء المبكرة عن التصرفات التي ستقوم بها الحكومة الأمريكية حيال مصر، وبذلك يقتنع الرئيس بأنه على بينة من هذه الأمور عندما تُنشر بعد ذلك في أمريكا بطريقة رسمية.
• عرض علي ّ في العام الماضي كشفًا بأسماء لبعض محرري أخبار اليوم وموظفيه الشيوعيين ، وطلب مني رأيي هل هؤلاء شيوعيون حقيقة أم في ركاب الشيوعية، فأخبرتهم رأيي في من سألني عنهم ، وقد أحضر بعد ذلك بروس هذا الكشف وعاد يسألني عن اسم شخص طنطاوي ، وهل هناك اثنان طنطاوي ، ومن هو الشيوعي منهما ، فأجبته على سؤاله (!!).
• بهذه المناسبة اذكر أن أوديل طلب منى أن أبلغ الرئيس جمال عبد الناصر بما يلي :
1- أن الحكومة الأمريكية قررت ألا تدفع لمصر سنتا واحدا ، من المعونة ألا إذا سحبت كل قواتها من اليمن وتوقفت عن مساعدة الكونغو.. وهادنت إسرائيل ولم أبلغ سيادتكم هذا التهديد .. ثم عاد وسألني هل أبلغت الرئيس ما قلته فكذبت عليه وقلت : نعم:
2- أن الحكومة الأمريكية قررت انتهاج سياسة القوة والحزم قاصدا من ذلك تخويف الرئيس جمال عبد الناصر واجباره على إتباع السياسة التي تتلاءم مع سياسة الولايات المتحدة في المنطقة .
ولم أبلغ سيادتكم بهذا التهديد . ثم عاد وسألني في الأسبوع التالي هل أبلغت الرئيس ما قلته لك فكذبت عليه وقلت : نعم (!)
3- محاولة الوقيعة بين مصر والاتحاد السوفيتي .. فقد أعطاني عدة مرات مقالات نشرت في عدد صحف سوفيتية منها ما يمس مصر وطلب مني أرسلها إلى الرئيس جمال عبد الناصر وكذبت عليه وقلت أنني أبلغتها لسيادتكم تليفونيا .
4- الأشعار دائما بعجز مصر المالي ،فقد طلب مني أن أبلغ سيادتكم بأن بنوك العالم قررت ألا تعقد قروضا مع مصر إذا ثبت أن الولايات المتحدة لن تستأنف إرسال المعونة .
ولم أبلغ سيادتكم هذا الخبر وكذبت عليه وقلت نعم أبلغت الرئيس .
5- محاولة الإيقاع بين مصر والدول العربية .
.. وتنحصر باقي أهدافهم علاوة على إيصال هذه التوجيهات إلى سيادتكم في الحصول على معلومات بعضها سياسي ، وبعضها عسكري ، وبعضها اقتصادي
***
ثم....
ودون تعليق آخر .. إلا يكفي ذلك كله .. وهكذا صدر حكم القضاء في قضية مصطفى أمين بالإدانة .
لماذا وكيف خرج من السجن بعد ذلك وبإفراج صحي .. ؟
سأترك للأستاذ " محمد حسنين هيكل " يروي واقعة الإفراج عن مصطفى أمين .. بأبعادها وظلالها العميقة .
كان الحوار حول جولدمائير .. وكان المتحدث السادات والمخاطب هيكل .
قال السادات مستطردا .
طلباتها لا تنتهي هذه المرة ، ولكني لن أعطيها الفرصة لأراوغ .. أنني أطاوعها فيما تطلبه حتى أجعل عليها من الصعب أن ترفض ما أطلبه.
وواصل كلامه.
الآن تريد مني أن أفرج عن كل المسجونين عندي من جواسيس إسرائيل .. غريبة أن تلح على الولد مزراحي .. لابد أنه كان مهما جدا بالنسبة لهم.. تصور هي أيضا تريد أن تأخذ جثث الأولاد الصهاينة الذين قتلوا لورد موين سنة 1945 في القاهرة ، ركبت رأسها مع هنري يقصد كيسنجر – وصممت عليهم .
لم يقاطعه هيكل فاستمر .
طبعا هنري استغل الفرصة وطلب مني هو الاخر أن أفرج عن عدد من الأشخاص حكم عليهم في قضايا تجسس لصالح المخابرات الأمريكية .. على أي حال لن أوجع رأسي بهؤلاء جميعا . سوف أعطيهم لهم وأخلص نفسي ..
ثم فاجأ هيكل ، على غير انتظار أو توقع كما يقول .. بسؤال :
"ما رأيك في الإفراج عن مصطفى أمين ألم تطلب مني أكثر من مرة أن أفرج عنه .
ويبدو كما يضيف هيكل – أن علامات دهشة بدت على ملامحي فقد استطرد بالحرف الواحد .
- لماذا تشعلق حواجبك من الدهشة هكذا ،إنهم يطلبونه وأنا أريد أن أجاملهم فيه .
وتساءل هيكل .من؟
وقال السادات :
كثيرون .. الأمير سلطان طلبه مني ، وكمال أدهم أيضا ، وسكت لحظة ثم استطرد .
ولماذا لا أجامل الأمريكان فيه .
قال هيكل .
الأمر لك بالطبع ، وإن كنت أخشى من الإفراج عنه في هذا الإطار . الذي كنت تتكلم فيه إساءة إليه . لماذا لا تجعل فاصل أسبوع أو أسبوعين بين الإفراج عنه وبين كل هؤلاء الذين طلبتهم جولدا مائير وطلبهم هنري كيسنجر.
ونظر السادات إلى هيكل بنصف ابتسامة ونصف عين وقال له .
أنت تدعي أنك تفهم في السياسة وأنا أقول لك العكس .. لو أنك كنت تفهم في السياسة لوافقتني على ما قلت بالعكس .من الأفضل الإفراج عن مصطفى ضمن هذه الصفقة حتى لا يتجاسر يوما ويفتح فمه . وإذا فتحه فإننا نقدر أن نضربه ب......."
وصمت السادات ، ولم يعلق هيكل وهكذا أخرج مصطفى أمين ، بإفراج صحي من السجن ، ضمن صفقة جواسيس طلبتهم جولدا مائير .. وطلبهم هنري كيسنجر .
***
ثم ماذا يكون أن يضاف بعد ذلك كله ..؟
جوانب الصورة واضحة . وأبعادها جلية . ولا تحتاج إلى تعليق .
لكن الجو ما يزال قائظا . والقلب لا يزال مفعما .
لقد ذهبت أجيالنا إلى ميادين القتال .. ودفعت بالدم ثمنا غاليا .. لأمن الوطن وحين وضعت الحرب أوزارها .التقطت بعضنا المنافي وذهبنا هنا وهناك ندفع ثمنا غاليا . للسلام الكاذب .
وفي كل الأحوال فقد ظللنا أشباحا غائمة في مؤخرة المسرح . بينما اتسعت مقدمة المسرح لبعض الجواسيس والعملاء .. الذين ما يزالون يطلون وجوههم بألوان كاذبة . للنضال والديمقراطية .
أما أن لهذه السماء الهامدة فوق رؤوسنا أن تمطر !
*******
"سنة ثانية" جاسوسية.. !
جاءني صوته كأنه أنفاس البحر في جوف ذلك الصيف الصحراوي، قفز الجسور الأولى دفعة واحدة كعادته، وبدأ من المياه العميقة:
هل تعرف، لقد التقى مصطفى أمين في مقره الصحفي بالاسكندرية، مع أحد كبار المحامين، وطلب منه دراسة إمكانية رفع دعوى ضد صحيفة "صوت العرب".. ولقد أعفاني الصديق الذي تحدث مع هذا المحامي الكبير من عبء التعليق على ذلك. وهو ينقل لي تعليق المحامي ذاته، فقد كانو لا يخلو من دلالة.
قال : أية قضية ؟ لقد قالوا عنه أنه جاسوس. وذلك ليس اتهامًا مرسلاً أو معلقًا، فثمة أحكام قضائية، حولت هذا الاتهام إلى حقيقة دامغة.
صمت ثم أضاف :
يبدو أن مصطفى أمين نفسه لا يصدق أنه احترف دور الجاسوس بالفعل ، ففي كل ما يصدر عنه ثمة إشارات نفسية عميقة تنبئ بذلك ، ولعل علم النفس ينوب عنا في الاجتهاد والتفسير .
لقد كذب الرجل، ثم ابتلع كذبته كالسمكة، وحين استقرت بهيكلها العظمى كاملة في جوفه، صدقها وتعامل معها على أنها حقيقة، ولم يتوقف عن محاولة صيدها من أعماقه المضطربة، ووضعها في أوراق الآخرين.
واصل صوته اندفاعه:
بعض الذين قرءوا من الجانب الآخر، كان تقديرهم أنكم نشرتم قائمة الاتهامات ، ولم تتركوا للمتهم فرصة للدفاع عن نفسه..
• قاطعته:
إنه كما قلت ليس متهمًا، ومع ذلك فليقدم دفاعه..
- قال:
- وهل تعتقد أن لديه دفاعًا يقال ؟!
• والحل؟
- في مثل هذه الأحوال تنتدب المحكمة محاميًا ليقوم بهذا الواجب..
• لقد دبج آلاف الصفحات، محاولاً بكل السبل أن يبرأ نفسه، فهل نسوق دفاعه، ونترك للآخرين حق التمحيص.
- أظنها فكرة صائبة.. ما دام الأمر كذلك، فقد تعرف أنه ما يزال لدى أوراق إضافية من تحقيقات القضية ووقائعها.. وتستطيع لو شئت أن تلقي عليها نظرة..
• حسنًا..
- قال: إنك لا تبدو متحمسًا..
• قلت: تعرف أنه ليس لي ثأر هائم في وقائع ذلك التاريخ، فعندما كان رجال المخابرات يضبطون مصطفى أمين ملتبسًا بالتجسس لصالح دولة أجنبية، كنت ما أزال أقف في ساحة المدرسة، أردد نشيد الصباح..
وليس ذلك هو السبب على كل حال..
ما أخشاه حقًا أن يكون في كل ما يحدث محاولة لاستدراجنا إلى التاريخ: معارك في التاريخ ، وثارات في التاريخ، وأكاذيب في التاريخ.. ولست من عشاق هذه السلفية الجديدة.. مع ذلك سأحاول.
***
حين انبسطت أمامي بعد ذلك هذه الكومة الكبيرة من الأوراق لم أستطع أن أقاوم، فحصت السطور، ثم الكلمات، ثم الحروف.
قرأت طويلاً وكثيرًا.. ودونت بعض الخطوط ، ورسمت بعض الألوان، وعلى طول ما قرأت وغالبت وانفعلت، لم يستوقفني شيء كذيل حوار قصير بين ضابط المخابرات الأمريكي (بروس) وبين مصطفى أمين.. فقد كانت كلمات الحوار تأخذ طريقها إلى عقلي، وكأنها صيغت من مادة شديدة الانفجار.
في نقطة على حوار مسجل يطلب فيه مصطفى أمين من (بروس) أن يساعده في تهريب أمواله إلى خارج مصر، تضيف آخر كلماته بالحرف الواحد:
"لست مستعدًا لأن أُبقى هنا على مليم واحد".
ويقاطعه ضابط المخابرات الأمريكية، وهو في حالة ذهول:
الذي يقرأ ما تكتبه يقول أنك وطني متعصب، كيف تكتبه وتتحدث معي بهذا الأسلوب..
ويرد مصطفى أمين، وفي نبرات صوته هدوء مقنع.
"أنه كلام فارغ للاستهلاك المحلي، أجلس واكتبه في خمس دقائق، قبل أن أبعث به إلى المطبعة ، ثم لا أفكر فيه بعد ذلك":
وللأسف الشديد فإن التسجيل كان صوتيًا فقط، وإلا كانت ملامح وجه مندوب المخابرات الأمريكية، كفيلة بأن تغني عن أي تعليق:
إنك تبدو من خلال ما كتبته وطنيًا متعصبًا، فكيف تبيع وطنك إلى هذا الحد، وبهذا الثمن.."!!
وبقدر ما أدهشني السؤال الذي رماه مندوب المخابرات الأمريكية في وجه عميلة، بقدر ما أدهشتني إجابة العميل، الهادئة ، الواثقة من نفسها:
"إنه كلام فارغ"!!
غير أن هذه الإجابة على كل، لا تصلح تفسيرًا مقنعًا لتلك الازدواجية، التي أقتطعها جزعا (بروس) وهو يتعامل مع عميله المزدوج، لكن تاريخ مصطفى أمين في التجسس والجاسوسية يزيل هذا التناقض الشكلي تمامًا، فلقد كان لديه حس الجاسوس المحترف، الذي يتقن عمله ويدافع عنه من طول إدمانه له. ولقد بدأ هذا التاريخ قبل واقعه (بروس) بسنوات طويلة، ولعل إحدى وثائق الخارجية البريطانية التي رفع الحظر عنها قبل سنين قليلة (وأوردها الأستاذ محمد حسنين هيكل في كتابه بين الصحافة والسياسة) تغنينا عن الشرح والتفصيل، لأنها لا تترك الكلام، مجرد شبهة معلّقة ، أو رجم بالغيب.
هذا هو نص وثيقة الخارجية البريطانية:
"وثيقة رقم 80/1018 أ.د.من سكرتير السفارة البريطانية في القاهرة إلى وزارة الخارجية البريطانية.
السفارة البريطانية - القاهرة – 19 فبراير 1952.
1- الرجاء الرجوع إلى البرقية رقم 45بتاريخ 19 فبراير الخاصة بالقصة الداخلية الحقيقية للتغيير الأخير في الوزارة".
2- مصطفى أمين هو المصدر الرئيسي للمعلومات الواردة في تلك البرقية، أعطانا أيضًا التقرير التالي للاجتماع الذي انعقد يوم 28 يناير لتقرير سياسة الوفد.
3- وكما أفاد مصطفى أمين فقد حضر هذا الاجتماع كل من النحاس ، وسراج الدين، وكريم ثابت، وعبود باشا. وقد أوصى كريم ثابت بصفته خبير الوفد بالمسائل المتعلقة بالملك بأن المهم هو إظهار الولاء. وإذا أظهر النحّاس، وبرغم قراره الولاء للملك عن طريق تعاونه عن طيب خاطر مع علي ماهر، فإن موقفه سيكون إيجابيًا ، بالمقارنة بمواقف "سياسي المعارضة" الذين رفضوا الاشتراك في وزارة علي ماهر "لأن الملك لم يدعِه لتناول الغداء" والملك ما يزال ميالاً إلى الوفد، وإذا أجاد الوفديون اللعب بورقهم، فإن ثابت لا يظن أن رجوعهم إلى الحكم خلال شهرين مستحيل . وقد قبل النحاس هذه النصيحة ..الخ ..الخ ".
المهم أن مصطفى أمين هو الذي أفاد بذلك، وهو المصدر الرئيسي للمعلومات الواردة في هذه البرقية – حسب نص الوثيقة الانجليزية، ومصطفى أمين هو الذي سلم السفارة الانجليزية نص تقرير الاجتماع المذكور الذي عقد يوم 28/1/1952 لتقرير سياسة الوفد ، كما تقول الوثيقة أيضًا. وكان ذلك قبل ستة وثلاثين عامًا، وقبل أن يكون لدى مصر جهاز مخابرات أصلاً، يمكن أن يتهمه مصطفى أمين بأنه تآمر عليه، ولفق له الاتهام، أليس تاريخًا طويلاً من الاحتراف؟!
***
جانب آخر يمتد كالشرخ العميق، تحت سطح أوراق التحقيق كلها، وقد جعل القشعريرة تسري في عروقي بالفعل، وهو يتعلق بطبيعة العلاقة بين مصطفى أمين وبين مندوب المخابرات الأمريكية ، ودون تدخل مني سأترك للوثائق ، فرصة أن ترسم ملامح هذه العلاقة بدقة، لكن ذلك يحتاج إلى مدخل أطول..
لم يكن مندوب المخابرات الأمريكية بروس، واسمه في المخابرات الأمريكية الدارجة يعني المومس، أول ضابط مخابرات أمريكي يتعامل مع مصطفى أمين فقد تعامل مع سلسلة طويلة من ضباط المخابرات المركزية، مثل هندرسون، بيل ميللر، مايلز كوبلاند، كيرمين روزفلت، ثورنتون، وقد تعرّف على بروس، حين سلمه له جون سيدر، الوقائع تثبت أن بروس أكمل مهمة سيدر، وأن مصطفى أمين واصل دوره مع ضابط المخابرات الجديد، فوق قاعدة واسعة من علاقته بسلفه، فقد عرض عليه بروس قائمة كان مصطفى أمين قد قدمها قبل سنوات للضابط السابق حول عدد من الصحفيين، الذي تتحرى المخابرات المركزية عن ميولهم السياسية، ليميز بين اسمين متقاربين في القائمة، ويحدد أيهما هو الشيوعي، وقد فعل ما طُلِب منه، وقام بالتحديد، لنراجع بعض أوراق محضر التحقيق الذي أجرته نيابة أمن الدولة العليا مساء يوم 22/7، أي في اليوم التالي مباشرة للقبض عليه.
س: فصل لنا موضوع مقابلتك لبروس أوديل الذي وجد معك بمسكنك بالا سكندرية.
ج: تعرفت باوديل هذا في فندق هيلتون على مائدة غداء مع مستر جون سايدر الملحق بالسفارة الأمريكية بالقاهرة، من بضعة شهور، وقال لي أن بروس أوديل الذي عرفني به يعتبر من أهم الموظفين الجدد بالسفارة، وأنه خبير بشئون الشرق الأوسط.
س: ومن هو سايدر الذي عرفك ببروس تايلور؟
ج: اسمه جون سايدر، وكان موظفًا بالسفارة الأمريكية القسم السياسي، يعني ملحقًا وأنا أعرفه طوال فترة عمله في مصر من حوالي سنتين، ومكنش فيه اتصال منتظم بيننا.
س: لم عرفك سايدر هذا ببروس أوديل؟
ج: أن أعرف كثيرين جدًا من موظفي السفارة الأمريكية، وأحرص على أن تكون لي علاقة وثيقة بهم، وسايدر عرفني ببروس مبدئيًا، لأن يعرف أنني أحب أن يكون لي علاقة بالأشخاص المهمين في السفارة وسايدر قال لي عند تقديم بروس، أنه صاحب نفوذ على السفير الأمريكي، وصديقه جدًا، وبعدها بروس اتصل بي بمناسبة حريق السفارة الأمريكية أصبح يتردد على وعادة كان بييجي لي في بيتي أسبوعيًا يتغدى ، وأحيانًا كان بينقطع، وكنّا بنتفق على الموعد التالي في نهاية المقابلة.
س: كيف يكون لمجرد ملحق في السفارة نفوذ على السفير.
الفكرة العامة أن أعضاء القسم السياسي في السفارة هم من رجال المخابرات المركزية".
ماذا عن ملامح العلاقة بينهما بعد ذلك، هذه مقاطع من التسجيلات الصوتية، تحدد الصورة بدقة.
• يسأل مصطفى أمين بروس:
هل أستطيع أن أعرف عنوان منزلك؟
- ويجيب بروس:
هذا لا يدخل في نطاق علاقتنا ، لا تسألني عن عنوان منزلي ، ولاعن أي شيء في حياتي ، إن ما أريد أن أذكره لك سأقوله بمشئتي.
• بروس يأمر مصطفى أمين :
• سأسافر إلى الاسكندرية وعليك أن تحضر لي هناك ، لكي نعقد جلسة عمل ، الموعد الأربعاء 21/7/ .
ويذهب مصطفى أمين ملبيًا إلى الاسكندرية يوم 20/7 لكي ينتظر موعده مع بروس ، على أساس أن يعود إلى القاهرة في اليوم التالي ويعود بالفعل ، ولكن في سيارة المخابرات العامة هذه المرة .
• بروس يطلب من مصطفى أمين :
"إذا سألت عني فاطلب زوجتي ، وقل أنا مصطفى دون أن تذكر اسمك بالكامل..".
• بروس يقول لمصطفى امين (تعليقًا على معلومات نقلها إليه في اجتماع الأسبوع الماضي):
"أنت تتحدث كلامًا غير دقيق، وأريدك أن تتحرى بدقة عن المعلومات التي تجمعها ، وأريدك أن تأتي إليّ بالمصدر الذي حصلت منه على هذه المعلومات".
• بروس يقول لمصطفى أمين:
"إن رؤسائي في واشنطن يسألون عما إذا كان من الممكن الاتصال بعلي أمين في لندن ، وهل فاتحته في ذلك قبل أن يسافر كما سبق وأن عرضت عليك".
- يجيب مصطفى أمين:
"نعم فاتحته وليس عنده مانع".
• يسأل أوديل: وما هي الطريقة التي يمكن بها الاتصال بعلي أمين في لندن".
- يجيب مصطفى أمين: "مندوبكم يتصل به هناك".
• يتساءل بروس معترضًا: "وهل يكون هذا عمل مخابرات إذا اتصلنا به تليفونيًا علمت المخابرات البريطانية بذلك، وشعرت بالاتصال ونحن نريد الاتصال بغير علمك".
• مرة أخرى يسأل بروس: "هل يمكن أن يسافر شقيقك ويتصل بمندوبنا خارج لندن؟.
- يجيب مصطفى أمين : ممكن.
• يسأل بروس: "وكيف نبلغ على أمين بذلك؟".
- يجب مصطفى : "اكتب له خطابًا".
ويكتب مصطفى أمين الخطاب لشقيقه حتى يتمكن مندوب المخابرات الأمريكية في لندن من الاتصال به دون مقدمات ويسلم الخطاب لبروس على الفور لكنه يتعجل في المقابلات التالية معه ، وصول الخطاب إلى شقيقه.
ويجيب بروس في كل مرة :"لاتقلق، فغن مثل هذه الخطابات لا تُرسل إل لندن مباشرة ، إنه لكي يصل الخطاب إلى أرش روزفلت ، مندوب المخابرات الأمريكية في بريطانيا ، وقد تعرف عليه الأخوان مصطفى وعلي ، كما اعترف الأول عام 1944 للمرة الأولى – لابد وأن يمر على ست جهات على الأقل..
ويبدو أنه رأى قلق عميله يتضاعف فأضاف.
من السفارة هنا، إلى وكالة المخابرات المركزية في واشنطن، ثم إلى فرع العمليات ، ثم إلى فرع أوروبا إلى منطقة لندن ، وأخيرًا إلى أرشي روزفلت.
****
نعود إلى التحقيقات والاعترافات لاستجلاء جانب آخر من مهمة مصطفى امين حسب اعترافاته الموثقة في تحقيق نيابة أمن الدولة العليا يوم 5/8/1965:
س: هل كان يطلب منك بروس أوديل بصفته الرسمية أن تبلغ رسائل معينة للسيد الرئيس"؟
ج: أيوه، وقد أبلغتها فعلاً وهي متعلقة بحريق السفارة الأمريكية وبموقف جونسون من المعونة الأمريكية وإصراره على أن يبقى له حق إعطاء المعونة ، برغم قرار البرلمان ، وأحيانًا أخرى في الثلاثة أشهر الأخيرة طلب مني بروس أن أُبلِّغ الرئيس بطريقتي الخاصة بعض المعلومات ولم أُبلِّغها".
س: وما الذي أخبرك بالضبط في هذا الشأن؟"
ج: هو قال لي أن أذكر بعض توجيهات للرئيس على أنها معلومات حصَلت عليها نتيجة اتصالاتي برجال السفارة الأمريكية دون أن أحدد اسمه على وجه التحديد، ولم أبلغ هذه التوجيهات للسيد الرئيس لأني شعرت أنها تهويش."
س: وما هي هذه التوجيهات التي أوصى إليك بنقلها إلى السيد الرئيس ؟"
ج: "أن الحكومة الأمريكية لن تدفع لمصر سنتًا واحدًا، إلا إذا سحبت قواتها من اليمن ، وإلا إذا توقفت عن مساعدة الكونجو ، وإلا إذا هدأت الأمور مع إسرائيل ، وأن الرئيس جونسون عنيف، وأنه قرر استعمال سياسة القوة ، كما أذكر أنه طلب مني أيضًا في إحدى المرات ، أن أنقل معلومات للرئيس أن الملك فيصل قال أنه سيجعل من اليمن مقبرة لجمال عبد الناصر ، ومعلومات بالإيقاع بين مصر والدول العربية ، وإشعار الرئيس بعجز مصر المالي وإبلاغه أن البنوك الكبرى الأجنبية أوقفت فتح الاعتمادات المالية ، بعد توقف المعونة الأمريكية ، وأنها لن تستأنف فتح اعتمادات لمصر ، إلا بعد تقديم أمريكا المعونة لمصر ، ولم أبلغ شيئًا من هذه التهديدات للسيد الرئيس ."
س:"وما الذي قصده بروس أوديل من ذلك فيما تعتقد؟"
ج: "قصد من ذلك أني عندما أنقل له هذه التوجيهات وهو يعتقد بمدى علاقتي برجال السفارة الأمريكية فيولد لديه اعتقاد بأن هذه المعلومات صحيحة ، فيتأثر بذلك فيتغير سياسته تجاه أمريكا."
إضافة إذن إلى المعلومات العسكرية ، والاقتصاد التي كان بروس يطلبها في شكل أسئلة محددة خلال اللقاء ، ثم يتلقى الإجابة عنها في لقاء الأسبوع التالي ، مدعمة بالمصادر ومنسوبة إلى كبار المسئولين في الدولة، وفي مقدمتهم رئيس الدولة ذاته. كان دور مصطفى أمين أن ينقل إلى الرئيس معلومات مضللة مدروسة" يتلقاها من بروس ، وينسبها إلى غيره، وهدف هذه المعلومات على وجه التحديد بنصف كلمات مصطفى أمين في التحقيق : "أن يغير الرئيس سياسته تجاه أمريكا" .
ويمكن أن تتعمق هذه الصورة ، بطلب لمصطفى أمين من بروس تضمنته إحدى أشرطة التسجيلات :
- مصطفى أمين، لدي مجموعة من الأوراق ، المهمة أريد أن أنقلها خارج البلاد بأي صور ، وأريد منكم أن تساعدوني في ذلك".
• بروس: "أنني لا أستطيع أن أفعل ذلك إلا بعد الرجوع إلى رئاستي في واشنطن.."
في الأسبوع التالي يسأل مصطفى أمين: "هل وصلك الرد؟"
• ويجيب بروس: "لا لم يصل بعد".
- ويسأل مصطفى أمين :"هل من الممكن إرسال هذه الوراق إلى سعيد فريحة في بيروت؟"
• ويجيب بروس متحديًا: "كيف نفعل ذلك، وما يدريك ماذا سيفعل سعيد فريحة بهذه الأوراق إذا وقعت في يده؟ هل أنت في عجلة شديدة للتخلص من هذه الأوراق ؟"
- ويجيب مصطفى أمين: "أنا لست في عجلة ، ولكننا سنضطر إلى الاستعانة بها خلال عام من الآن.."
• سأله بروس : "وأين تحتفظ بهذه الأوراق ؟"
- أجاب الجاسوس: "لدي في المنزل".
• "أن هذه عملية خطيرة جدًا ، وكيف تكون لديك الشجاعة ، وتحتفظ بمثل هذه الأوراق في المنزل . كيف تكون جريئا إلى هذا الحد "
- " هذا هو السبب الذي يجعلني ألح عليك في نقلها سريعا ؟"
يجيب بروس :
" وهو كذلك .. لقد رحلت عائلتي إلى الإسكندرية ، والبيت شاغر الان . وعليك أن تنفذ الآتي ، عليك أن تسلم هذه الحقائب لسائقك .. وتفهمه أنها كتب لعلي أمين مرسلة له إلى لندن ، يجب أن يكون السائق لدى الساعة الثامنة مساء تماما في بيتي بالمعادي ، وسيكون بيتي خاليا تماما من الخدم ، في الساعة الثامنة تماما سوف أنزل من المنزل عن طريق السلم الخلفي وأفتح باب الجراج وأن يدخل السائق السيارة إلى الجراج بظهرها .. "
وهكذا سافرت الأوراق عن طريق الحقيبة الديبلوماسية للمخابرات المركزية الأمريكية ، وضمتها 4 حقائب ملابس أحجامها 80×50×40 .
****
في أشرطة أخرى من التسجيلات ثمة أسئلة لضابط المخابرات الأمريكية ، وإجابات لمصطفى أمين عنها ، تستحق الدراسة قبل التأمل . والأمثلة كثيرة :
• سؤال :" هل يعمل يوسف السباعي في المخابرات المصرية ؟"
- إجابة : لا
• سؤال :" من الذي فجر أنابيب البترول في ليبيا ؟"
-إجابة : عزت سليمان (كان يشغل في ذلك الوقت منصب رئيس الخدمة السرية في جهاز المخابرات العامة ، ويعتبر أسمه من الأسرار العسكرية ) .
• سؤال : " ما هو رد الفعل على المقال الذي نشر في صحيفة نيويورك تايمز حول عدد القوات المصرية في اليمن وأنها وصلت إلى مائة ألف ؟ "
- إجابة : " الرقم قد يكون قريبا من الحقيقة "
• سؤال : " هل لديك تأكيد أن عامر ( عبد الحكيم عامر ) ذهب إلى اليمن ؟ "
- إجابة : لا لم يذهب .
• سؤال : " أين صدقي سليمان ( قائد سلاح الطيران ) لم يظهر له أخيرا نشاط ؟ "
- إجابة :" كان في موسكو "
• سؤال : "هل فهمت من (ر) أي الرئيس – أنه على استعداد لبحث تسوية في اليمن ؟ "
- إجابة :" قرر لي (ر) أنه يبحث عن حل يحفظ للجيش كرامته ، بحيث لا تعود القوات وهي تشعر أنها انهزمت "
• سؤال : " هل هناك قوات إضافية لتعزيز القوات الموجودة في اليمن ؟ "
- إجابة :" نعم"
• سؤال : " هل تعرف شيئا عن الرسالة التي جاء بها رئيس حكومة سيلان السابق ؟"
- إجابة :" لا "
• سؤال :" هل يظنون أن الإتحاد السوفيتي سيزيد مساعدته لهم ، عندما تضغط عليهم الولايات المتحدة ؟ "
- إجابة :" أنهم يعرفون أن الإتحاد السوفيتي ليس عنده شيء يعطيهم ؟!
****
ومنذ أن غادر مصطفى أمين السجن في إفراج صحي : أوائل عام 1974 بين مجموعة من الجواسيس طلبت جولدامائير وهنري كيسنجر بالإفراج عنه مع بشائر السلام الأمريكي ، لم يتوقف مصطفى أمين عن تبرئة نفسه ولقد بدأت هذه المحاولة ، بعد الإفراج عنه مباشرة ، بحوار مع مجلة لبنانية ، اسمها " كل شيء".
سأله المحرر، ألم تفكر في رفع قضية تطالب فيها بإعادة محاكمتك حتى تثبت أنك كنت مظلومًا من التهمة التي لفقتها لك مراكز القوة في الماضي، خصوصًا أن العفو الكريم عنك الذي صدر من الرئيس السادات لا يعني من الناحية القانونية سقوط التهمة التي وجهت إليك في الماضي؟".
ويجيب مصطفى أمين ومايزال تراب السجن عالقًا بجبينه.
أولاً أحب أن أذكر أن العفو الذي نلته من الرئيس السادات لم يكن عفوًا صحيًا .
وثانيا أنا أشكر كل شيء لأنها طالبت فور الإفراج عني بإعادة محاكمة مصطفى أمين وهذا فعلا كان يدور في خلدي وقد طلبت مرارا ورسميا أن تعاد محاكمتي ، ولكن قيل أن مصلحة البلد تقتضي الاتذاع علنا تفاصيل قضيتي . وهذا ما سيحدث حتما لو أعيدت المحاكمة . ولكن عندي وعدا رسميا من الدولة بأن تعاد المحاكمة في ظروف قريبة مناسبة . ومن حسن الحظ فإن كثيرا من أبطالها والذين اشتركوا فيها ما يزالون على قيد الحياة .
ويسأله المحرر :
وطبعا في مقدمتهم صلاح نصر رئيس دولة المخابرات قبل عام 1967 ، والذي قيل أنه نظم وأخرج عملية إلصاق تهمة التجسس بك .
ويرد مصطفى أمين :
صلاح نصر هو الذي يقول الآن أن التهمة التي وجهت إليَ كانت ملفقة .."
ويسأله المحرر : "هل قال ذلك بنفسه ؟ "
ويجيب مصطفى أمين :" الحكاية أن مستشفى القصر العيني كان يضمنا معا في الآونة الأخيرة ، ولم أشأ أن أقابله شخصيا ولكن حدث أن رأى بعض أساتذة كلية الطب . وقالوا أنهم يريدون أن يعرفوا منه الحقيقة عن قضية مصطفى أمين فكان جوابه أنه يريد أن يشهد أمام الله بأن مصطفى أمين بريء من تهمة التخابر مع دولة أجنبية ضد مصلحة بلده ، وأنه على استعداد لأن يذهب إلى المحكمة ويعلن الحقيقة ، وكان من بين الذين سمعوا هذا الحديث د. إبراهيم عبود ، و د. بهي الدين شلش ."
وإذا كان مؤكدا كما هو معروف وثابت – أن الإفراج عن مصطفى أمين كان إفراجا صحيا . فمن المؤكد أيضا انه لم يقدم طلبا واحدا .لمسئول واحد في الدولة ، بإعادة محاكمته كما أنه لم يتلق ردا من أحد على ذلك بأن ظروف البلد لا تتحمل إعادة المحاكمة .. بسبب أسرار القضية . لكن الواضح الان على الأقل أن القضية أصبحت مغطاة بشبكة مليئة بالثقوب . التي لا تخطئها العين .فلماذا لا يتقدم بطلب رسمي لإعادة محاكمته .. !
أما بالنسبة لموقفي السادات وصلاح نصر من القضية فيمكن الاستعانة بشهادة كل منهما .
ولقد كانت شهادة السادات سابقة على الإفراج عن مصطفى أمين إفراجا صحيا . أما شهادة صلاح نصر فهي تالية على ما نسبه إليه ، في حديثه الصحفي السابق .
سأترك للأستاذ محمد حسنين هيكل يعيد رواية الجانب المتعلق بشهادة السادات :
بعد أيام من إعلان مشروع قانون لتصفية الحراسات وصل الأستاذ سعيد فريحة إلى القاهرة يقول لي :
أن كثيرين من أصدقائه يرون أن الفرصة سانحة الان لإعادة طرح موضوع الأستاذ مصطفى أمين على الرئيس الجديد " .
ومع أنني لم أجد صلة مباشرة بين موضوع إنهاء الحراسات وبين موضوع الأستاذ مصطفى أمين . فلم يكن هناك بأس من المحاولة . ورفعت سماعة التليفون أتصل بالرئيس السادات وكان في بيته بالجيزة . أقول له : " أن سعيد فريحة معي ويريد مقابلته " وكانت إجابته على الفور " ليس لدى الان ارتباطات .. هات سعيد معك .. وتعالوا إلى هنا فورا .
وذهبنا وكان الرئيس – كما يضيف هيكل متشوقا إلى أن يسمع أخبارا عن العالم العربي . وراح سعيد يحكي ويحكي . ثم تذكر الموضوع الذي جاء من أجله ، فأدار الحديث إلى شئون مصر في عصر أنور السادات ثم قال له :
أنك تبدأ الآن صفحة جديدة بعفو عام . فهل نطمع أن يشمل هذا العفو قضية مصطفى أمين ؟ "
وأنتفض السادات في كرسيه وقال : " جرى إيه يا سعيد ؟! عفو عام يشمل مصطفى أمين .. أنا لا أعفو عن الجواسيس .."
وقال سعيد فريحة : " ولكن يا سيادة الرئيس ما وقع فيه مصطفى نوع من الخطأ . ونحن لا نجادل فيه .."
وقاطعه السادات : " لم يكن نوعا من الخطأ .. كان تجسسا .. بالعربي الفصيح تجسس .. ولو لم أكن واثقا من الموضوع مائة في المائة لأفرجت عنه من أول يوم .. أنا أعرف تاريخ مصطفى حتى من قبل القبض عليه وأنا بنفسي حذرت " جمال " وحذرت هذا الأستاذ الجالس هنا .. وأشار إلى هيكل .. قبل أن يضيف بحدة : " سعيد .. اقفل هذا الموضوع ولا تفتحه معي أبداً "
في الطريق سار محمد حسنين هيكل وسعيد فريحة صامتين .. ثم قطع فريحة الصمت قائلا :
"يا ويلي .. شو ها العنف .." ثم استطرد : "مع جمال عبد الناصر كنا نستطيع أن نتناقش .. وهذا الرجل قفل الباب على الفور" ..
أما شهادة صلاح نصر التي تلت الإفراج الصحي عن مصطفى أمين وحديثه الصحفي ، الذي نسب فيه إلى صلاح نصر قوله بأن التهمة كانت ملفقة فقد حرص صلاح نصر على أن يسجلها كتابة قبل وفاته وأن يرسلها إلى كل الجهات المسئولة في مصر ، كتب صلاح نصر ما نصه :
لقد حاول مصطفى أمين الاتصال بي أثناء إقامتي في مستشفى المنيل الجامعي للعلاج .. وكانت حريتي ما تزال مقيدة . فأرسل لي مع د. بهي الدين شلش موحيا له – على لسان الرئيس السادات – أن هناك أزمة ثقة بين الرئيس وبيني . وأن الرئيس يريد ما يثبت غير ذلك . وبأن البرهان الوحيد على حسن نيتي هو أن أوقع شهادة تبرئة مصطفى أمين من تهمة التخابر والتهريب التي نسبت إليه وحوكم عليها عام 1965 .
وتعجبت للأمر ، وأحسست للوهلة الأولى أنها مناورة رخيصة ، من مصطفى أمين فهو يريد أن يضغط على لتوقيع الشهادة ليتاجر بها ، فرفضت رفضا قاطعا .
ويضيف صلاح نصر في شهادته .
لقد قلت للدكتور شلش بالحرف الواحد :
إذا كان جاسوسا مثل مصطفى أمين هو الذي سيمنحني حريتي فأنني أفضل أن أقضي بقية حياتي في السجن ، وعندما كرر د. شلش المحاولة مصحوبة بتهديدات . من مصطفى أمين ، وطلب مني أن أوقع على خطاب مكتوب ببراءة مصطفى أمين ، علقت على ذلك قائلا :
لم يدر بخلدي يوما أن مصطفى أمين لم يكن سوى جاسوس أو عميل أمريكي ، فهو جاسوس مائة في المائة ، وقضيته ثابتة الأركان
ماذا بقى من دفوع مصطفى أمين ؟
كان دفعه الثاني بعد ذلك ، أن التسجيلات مزيفة ، وأنه قد تم تركيبها بطريقة فنية خاصة ، وقد حاول أن يقنع القراء بذلك تفصيلا في كتابه سنة أولى سجن .
لكن عودة سريعة إلى محضر نيابة أمن الدولة العليا يوم 30/8/1965 تفضح زيف إدعائه .
وهذا هو نص المحضر :
س: ثابت من التسجيلات التي استمعت إليها ، أن كثيرا ما كنت تسمع أصوات الأوراق تقلب في أثناء الحديث ، فهل كنت تعرض معلوماتك مكتوبة ، وهل كان بروس أوديل يكتب الأخبار التي تنقلها إليه ، ويكتب الأسئلة التي يوجهها اليك؟!
ج: أنا استمعت لأحد عشر شريطا عن بعض الأحاديث التي جرت على لساني ، ولسان بروس تايلور في الاجتماعات التي كنا نعقدها سويا بمنزلي وجميعها بصوتي وصوت بروس ، ويتخللها بعض الأحاديث للخادم باللغة العربية ، وليس لي اعتراض على عملية التفريغ فهي سليمة ، وما هو مفرغ فيما عرض عليَ من أوراق تطابق الكلام الواضح في التسجيلات بصوتي وصوت بروس .
وكان دفعه الثالث : أنه قام بمهمة تخابر مع مندوب المخابرات الأمريكية ليحصل منه على معلومات تفيد الدولة ، وأن عبد الناصر قد سمح له أن يتصل برجال السفارة الأمريكية عام 1952 ، وأنه كان ينقل المعلومات التي يحصل عليها إلى المسئولين .
أما عن تكلفة رئيس الجمهورية له بإجراء هذه الاتصالات فقد أكد خطاب رئاسة الجمهورية ، الموجود ضمن ملف القضية بالنص ، أن المتهم لم يبلغ أيا من المسئولين بأمر اتصاله ، بالمستر بروس أوديل الملحق السياسي بالسفارة الأمريكية بالقاهرة ، كما أنه لم ينقل من أو إلى أي من المسئولين أية أخبار منقولة عنه ، كما أن رئيس الجمهورية لم يقابل أو يتصل بالمتهم ، منذ تعيين السيد خالد محيي الدين رئيسا لمجلس إدارة أخبار اليوم .
ويعترف مصطفى أمين خلال أوراق التحقيق ، وخطاب اعترافه التفصيلي الذي أرسله إلى الرئيس عبد الناصر بأنه لم يطلع على اتصاله ، بمندوب المخابرات الأمريكية ، ولم ينقل إلى أحد من المسئولين خبرا واحدا نقل إليه أو نقله إلى المندوب ، كما أنه لم يكن يتصل أو يلتقي بعبد الناصر مطلقا ، وعلى امتداد مئات الصفحات في تحقيقات النيابة ، لا يجد مصطفى أمين خبرا واحدا نقله إلى مسئول طوال الشهور السابقة على واقعة القبض عليه ، سوى خبر واحد ، لم يكن له علاقة بمندوب المخابرات الأمريكية ، فقد علم من مصادر السفارة الأمريكية أن الأحزاب السودانية هائجة جميعها على مصر ، لأن الحزب الشيوعي السوداني وزع كتابا سياسيا ضد هذه الأحزاب ، وكتب عليه أنه مطبوع في مؤسسة أخبار اليوم .. ويضيف مصطفى أمين . ونظرا لخطورة الخبر بادرت وأبلغت الأستاذ سامي شرف بمضمون هذه البرقية .
وإذا كان بمقدوره أن يتصل بمكتب الرئيس ليبلغ عن كتاب في السودان وعليه اسم مؤسسة أخبار اليوم ، باعتبار ذلك عملا خطيرا ، فلماذا لم يبلغ عن كلماته وكلمات ضابط المخابرات الأمريكية حول الحصار الاقتصادي الأمريكي على مصر ، والمعونة الأمريكية وحرب اليمن ، وعن الميزانية وشراء أسلحة من موسكو ، وعن وجود جهاز سري يعمل ويتحرك عند اغتيال الرئيس ، وعن وجود خلايا سرية بالقوات المسلحة المصرية ، وعن صلة المخابرات السوفيتية بالصحافة المصرية ، وعن حقيقة القمح الروسي ، وعن انقلاب الجزائر ، وعن ... وعن ... وعن ... مئات القضايا والأخبار والتعليمات والأسئلة والإجابات ، التي تتدفق عبر مئات الصفحات في القضية ، شاهدة على الحرب الخفية ، وأسلحتها المشروعة ، ضد مصر القوية ، وتقدمها السياسي والاجتماعي .
و بعد ، مصطفي أمين كان جاسوسا لأمريكا، ليس الكلام مستندا إلي كتاب (بين الصحافة والسياسة) رائعة محمد حسنين هيكل ولا كتب ومذكرات ووثائق صانع المخابرات المصرية ومؤسسها وضحيتها أيضا صلاح نصر، بل الدليل الجديد هو عبارة عن كتاب صدر في الولايات المتحدة تحت عنوان «ميراث من الدماء.. تاريخ وكالة المخابرات المركزية الأمريكية».. وهو كما يعرضه أكثر من موقع علي الإنترنت كتاب ضخم وموسوعي يقدم تاريخ الوكالة منذ إنشائها عام 1947 وحتي نهاية عصر جورج بوش، مركزا علي خيبات المخابرات وعملياتها الفاشلة.. الكتاب من تأليف «تيم وينر» مراسل صحيفة «نيويورك تايمز».. وقد عمل في أفغانستان وباكستان وأغلب بلاد الشرق الأوسط ومنها مصر، ويقوم منذ عشرة أعوام بتتبع وتغطية أنشطة وكالة المخابرات المركزية الأمريكية.. وقد حصل كتاب «ميراث من الدماء» الذي ألفه «تيم وينر» علي جائزة بوليتزر الأمريكية الصحفية الشهيرة اعترافا بأهميته ودقته، ويقع كتاب «ميراث من الدماء» في 702 صفحة تتناول وقائع جرت علي مدي عهود 16 رئيسًا للمخابرات.. وأهم ما يكشف عنه الكتاب بالنسبة لنا في هذا المقال هو صلة مصطفي أمين بالمخابرات الأمريكية حيث كانت الـ«سي آي إيه» تدفع له الأموال مقابل الحصول علي معلومات وعلي نشر تقارير إخبارية مؤيدة للسياسات الأمريكية، كما يؤكد الكتاب بالوثائق والاعترافات والأدلة، حيث كان مصطفي أمين علي قائمة من تدفع لهم المخابرات الأمريكية مبالغ مالية، وأن مدير المحطة واسمه «بروس أوديل» كان يتقابل بصفة منتظمة مع مصطفي أمين في شقته بالزمالك.
وقد كشف محمد حسنين هيكل نقلا عن الكتاب ذاته في حلقاته بقناة الجزيرة مجددا، ومن وثائقه الخاصة عن أن سر كشف عمالة مصطفي أمين لوكالة المخابرات المركزية الأمريكية جاء من العراق لأن (بروس تايلور أوديل) مندوب وكالة المخابرات المركزية الأمريكية في القاهرة والذي كان يتلقي المعلومات من مصطفي أمين أسبوعيا جاء إلي مصر مطرودا من العراق بعد نجاح انقلاب حزب البعث عام 1963 علي نظام حكم «عبد الكريم قاسم» وقام وزير الداخلية العراقي «حازم جواد» بإبلاغ الأجهزة الأمنية المصرية بحقيقة «بروس تايلور أوديل» وطبيعة نشاطاته، لذا تم وضعه تحت رقابة صارمة من أجهزة الأمن المصرية منذ وصوله للقاهرة، ومن خلال مراقبته تمت ملاحظة لقاءاته الأسبوعية مع مصطفي أمين، وتم إعلام الرئيس عبد الناصر بالأمر، فأصدر عبد الناصر قراره بوضع مصطفي أمين تحت المراقبة مما أدي إلي كشف عملية التجسس كلها. يقول هيكل إن وكالة المخابرات المركزية الأمريكية طلبت من مصطفي أمين تسجيل مكالماته مع الرئيس عبد الناصر ليقوم خبراؤها بتحليل صوت الرئيس لمعرفة حالته النفسية، كما طلبت منه توجيه أسئلة معينة للرئيس عبد الناصر لكي يتم تحليل إجابات عبد الناصر ومعرفة حقيقة نواياه وطريقة تفكيره. كما كان مصطفي أمين يسأل أطباء الرئيس عبد الناصر باستمرار عن حالة الرئيس الصحية ليقوم بتبليغها لضابط وكالة المخابرات المركزية الأمريكية!
و بعد ؟!
ثم ماذا يمكن أن يضاف ؟
ما تزال صورهم وهم يلفون حول صدورهم أعلام الفروسية والوطنية المزيفة أمام عيوننا كل يوم ، وما يزال حبرهم الكاذب الزور يملأ الأعمدة والصفحات ، ويحاول أن يغسل العقول كل يوم .
وما تزال أصواتهم تدعي النبوة في عصر غادره الأنبياء .
وما تزال أجيالنا تنازع بين الرماد والورد ، كأنه محكوم عليها بأن تظل قابعة بين الأنقاض ، كحفريات قديمة انتهى دورها دون أن يبدأ .. أتركونا نخرج من متحف التاريخ .. نريد أن نتنفس تحت الشمس .
****
أحمد عز الدين
No comments:
Post a Comment