Saturday, 17 December 2016

{الفكر القومي العربي} يحيى حسين عبد الهادى يكتب: سوابق

سوابق
بقلم المهندس/ يحيى حسين عبد الهادى

قبل فترةٍ تَسَاءل الكاتب محمد الرطيان (أيهما أخطر: السيارة المفخخة في شارعٍ مكتظٍ بالمارة .. أم الفكرة المفخخة في شارعٍ مكتظ بالأتباع؟) .. أظن أن كل ذى عقلٍ فى مصر صار يعرف الإجابة التى اكتوينا بنارها .. فالسيارة المفخخة تتلاشى بضغطة زر .. أما الفكرة المفخخة فتصنع لنا عشراتٍ من الأزرار المُفَجِّرة التى تُفخخ حياتنا .. إن الفكر الذى فَجَّر نساءً وأطفالاً في كنيسةٍ وهو على يقينٍ بأنه يُرضى اللهَ بفعلته .. هو نفسه الذى استباح سَحْلَ شيخٍ أعزل ورفاقه لأنهم شيعة .. وهونفسه الذى استباح قتل عشراتٍ من الشباب فى أتوبيس إجازاتٍ لأنهم جنود .. وهو نفسه الذى كَفَّرَ نجيب محفوظ وافتخر بأنه لم يفلته من عقابه إلا أنه مات ..
لذلك يكون مثيراً للسخرية أن تُحارب الفكر المفخخ بالتضييق على خصومه .. ويصبح أقربَ للكوميديا السوداء أن يتنادى من كَفَّرَ نجيب محفوظ هو وزملاؤه لتغيير القوانين، بل والدستور، لمجابهة الإرهاب(!)، فضلاً عن أن السوابق التاريخية تجعلنا نستريب من الغرض الحقيقى من معظم دعوات تعديل الدستور .. فهى على الأرجح لا تأتى بخير وتُخفى غرضاً غير مُعلَن .. ولعل أشهرها ما حدث سنة 1980 عندما امتلأت شوارع القاهرة والمحافظات بلافتاتٍ تقول (نعم لتعديل الدستور لتصبح الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسى للتشريع) بدلاً من (مصدر رئيسى) دون أي إشارةٍ لثلاث مواد أخرى في حزمة التعديلات .. كان من المُضحكات المبكيات (وما أكثرها) أن صاحب اقتراح تعديل هذه المادة هو أحد نواب التطبيع من مرافقى السادات فى رحلته المشؤومة للأرض المحتلة .. لم تُضِف الألفُ واللامُ أىَّ جديدٍ على الوضع التشريعى فى البلاد .. لكنها استُخدِمَت (للطرمخة) على الغرض الحقيقى من التعديلات وهو ما عُرِف لاحقاً بتعديل الهوانم الذى جعل بقاء الرئيس فى منصبه غير مُقَيَّدٍ بمدتين وإنما يمتد إلى يوم القيامة أو الوفاة أيهما أقرب .. وشاء اللهُ ألا يُكمل الرئيس السادات مُدَّتَه الثانية ويستفيد بتعديله الأبدى الرئيس التالى مبارك.
بعد هذه السابقة بحوالى ثلاثين عاماً ظهر ترزىٌ جديدٌ أجرى 34 تعديلاً مرةً واحدة .. وكانت الحجة المُعلنة هى إصلاح الدستور وتنقيته من الشوائب بعد مرور أكثر من عشرين عاماً على آخر تعديل .. وكانت الشوائب المقصودة بالتعديلات هى مواد الحريات، لدرجة أن محمد أحمد حسين نائب الحزب الوطنى عن أسيوط استفزه منظر زملائه النواب وهم يتسابقون بحماسة لنزع صلاحياتٍ يمنحها لهم الدستور كممثلين للشعب ويسلمونها طواعيةً إلى رئيس الجمهورية وهتف قائلاً (يا إمَّعات) فأحاله الإِمَّعاتُ إلى لجنة القيم .. أما الغرض الحقيقى وراء التعديلات فكان (تقييف) الدستور ليضمن أن أى انتخاباتٍ رئيسية قادمة لا يجوز أن يترشح لها إلا واحدٌ من اثنين: مبارك أو ابنه الأصغر جمال .. فقام الترزى بحياكة المادة 76 التى دخلت موسوعة الأرقام القياسية كأطول مادة فى تاريخ الدساتير فى العالم (فى حجم قصة قصيرة) .. ويشاء الله أن تُجرىَ أول انتخابات رئاسية تالية ومبارك وابنه والترزى فى السجن وقد سقط دستورهم، وعادت إلى المادة 76 رشاقتها بعد أن تخلصت من الدهون .. لكن يبدو أن لا أحد يتعظ.
تجاربنا تقول إن معظم التعديلات التي تمت عبر عشرات السنين لم تضغط على دعاة الفكر الظلامى وإنما ضَيَّقَت على خصومه من دعاة الدولة المدنية وقَلَّصت من مواد الحريات وضمانات العدالة .. ومفهومٌ أن أى عبثٍ بهذه المواد لن يضار منه الإرهابيون، فالإرهابى لا يعنيه تغليظ العقوبة أو إهدار ضمانات العدالة .. فقد مُلِئت دماغه بفكرٍ مفخخٍ يدفعه للموت .. موته وموتنا معه .. الإرهابى لا يعترف بالدستور أصلاً .. العبث بهذه المواد لن يُضَّار منه إلا الشعبُ، وفى قلبه دُعاةُ الدولة المدنية .. التى لا سيادة فيها إلا للقانون .. ولا تمييز فيها بين مواطنٍ وآخر إلا بالكفاءة .. إن الأفكار الظلامية تختنق وتذبل فى مناخ الحرية والهواء المفتوح والعدالة الحقيقية .. المفارقة أن الأنظمة الفاشية المتتالية سمحت بالفكر المفخخ لأنه كان دائماً أخف على قلبها من أولئك الأفندية الأراذل الذين يزعجونها بمطالب الحريات والديمقراطية وحقوق الإنسان.

إن تحقيق العدالة الناجزة يتحقق بزيادة عدد القُضاة والمحاكم وميكنة المعلومات القضائية، وليس بتقليص ضمانات العدالة .. نحن نطلب العدل حتى لظالمينا .. وأن يفلت عشرةُ مذنبين بجرائمهم أفضل من أن يُدان برئٌ واحد .. ثم هل يوجد فى الدستور ما يمنع الشرطة من أداء عملها بكفاءة؟.
عقب كل جريمةٍ إرهابيةٍ يخرج علينا من يتاجر بهذه الدماء الزَكِيّة ويتخذ ها ستاراً لتمرير معانٍ خبيثةٍ وهَدْمِ قِيَمٍ إنسانيةٍ بديهيةٍ كاحترام الدستور والقانون وحقوق الإنسان وحرية التعبير وضمانات العدالة، وهى الفارق الرئيسى بيننا وبين الدواعش الذين نحاربهم .. ويخرج علينا من يقول (إذا كانت التشريعات والقوانين تُكَبِّلُ إرادة الشعب، فلتُكسَرْ هذه الأغلال، وإذا كانت الدساتير تَحُولُ دون بقاء وحياة الدولة فلتُحرَق هذه الدساتير) .. وهو اختلاقٌ لتناقضٍ لا وجود له، إذ ما التناقضُ بين بقاء الأوطان واحترام الدساتير؟ .. فالدساتير لا تُكبل إرادةَ الشعوب وإنما هى إرادةُ الشعوب، والشعوبُ هى التي تصنعها لتكون عقداً بينها وبين الحاكم .. إذا أخَّلَ به يفقد شرعيته .. وأعظم ما فى الدساتير هى مواد الحريات وضمانات العدالة.
وقد قلنا ونكرر: إن القانون لا يُكَبّلُ الشريف ولكنه يُكَبِّلُ اللص .. والدساتير لا تُكَبّلُ الشعوب ولكنها تُكَبِّلُ الطغاة .. والأوطانُ لا يحرقها احترامُ الدستور وإنما يُضيّعُها احتقارُه. .. والدولُ لا تُعرقلُها الديمقراطيةُ وإنما يَهوِى بها إلى القاعِ صُنّاعُ الفراعنة.
(موقع البداية- الأحد 18 ديسمبر 2016).



No comments:

Post a Comment