فلنتناول كل واحدة بشىء من التفصيل :
الحلقة الأولى
أولا : دلالات العدوان العسكرى الإسرائيلى فى الخامس من يونيه عام 1967
بإتخاذ قرار العدوان والغزو الإسرائيلى لدول الطوق العربى وخصوصا مصر كان يعنى مجموعة من الحقائق السياسية والاستراتيجية هى :
الحقيقة الأولى : أن محاولات إحتواء ، أو إغراء ، أو إغواء النظام الناصرى من جانب الولايات المتحدة قد باءت بالفشل ( مبدأ إيزنهاور – مراسلات جون كيندى – قطع المعونة والحصار الاقتصادى فى عهد جونسون ) .
الحقيقة الثانية : أن هذا النظام الناصرى يحقق نجاحات على الصعيد الاقتصادى والتنموى ، كما على الصعيد السياسى ، بما قد يهدد مستقبلا النموذج الإسرائيلى ، كما قد يهدد حلفاء وعملاء الولايات المتحدة فى المنطقة ( الرجعيات العربية ) .
الحقيقة الثالثة : أن هذا النظام الناصرى قد أعاد بناء البنية الاجتماعية والسياسية فى البلاد بما يهدد عمليا اقتلاع قوى ونفوذ الطبقات الاجتماعية الموالية والحليفة مع الغرب سواء البريطانى ، أو الأمريكى .
الحقيقة الرابعة : أن هذا النظام الناصرى بتعميقه التعاون والعلاقات الاقتصادية والسياسية والعسكرية مع الاتحاد السوفيتى ، قد أصبح يهدد مصالح الولايات المتحدة فى المنطقة ، ويعرقل مشاريعها الاستراتيجية فى هذه المنطقة الحساسة من العالم .
المستوى الأول : كيف جرى إختراق النظام السياسى المصرى بعد الخامس من يونيه عام 1967
تكشف المعلومات والوثائق ، ومذكرات كبار الساسة ( هنرى كيسنجر – نيكسون – جيمس بيكر وأخرين ) ، وكذا رجال الاستخبارات والأمن ، وكبار الصحفيين الأمريكيين ذوى الصلات الوثيقة بأجهزة الإستخبارات وقاداتها ( بوب ودوورد Bob Woodward – جوزيف ترنتوJoseph J. Trento ف – تيم ورمر Tem Warner - وعميلة الإستخبارات البريطانية السابقة " أنى ماشون " Annie Machonفى كتابها الذى صدر عام 2015 ) . عن عمليات واسعة النطاق قد جرت من أجل إختراق النظام السياسى المصرى على
النحو الذى نعرضه عليكم الأن :
لم تنتظر السياسة الأمريكية وأجهزة إستخباراتها ، وخصوصا الاستخبارات المركزية الأمريكية CIA طويلا التفاعلات الاجتماعية لإجراء تحولات سياسية فى الدول الهامة لمصالحها ، وإنما عجلت فى الكثير من الحالات لتحقيق هذه التحولات والتغييرات المطلوبة ، إما بإغتيال قيادات ورؤوساء دول يعوقون هذه المصالح ، أو بتنفيذ إنقلابات عسكرية دموية ضد الزعماء الذين يمثلون عقبات أمام تلك المصالح ، حتى لو كان هؤلاء الزعماء والرؤساء منتخبون إنتخابيا ديموقراطيا من شعوبهم .
حدث هذا فى الإنقلاب العسكرى الذى دبرته الإستخبارات المركزية الأمريكية CIA بقيادة الجنرال " زهدى " فى إيران ضد الحكومة الوطنية التى يقودها الدكتور " محمد مصدق " عام 1953 ، بعد أن تجرأ الرجل بتأميم شركة النفط الإنجليزية وغيرها من المصالح النفطية ، وبعدها أعادوا شاه إيران الهارب " محمد رضا بهلوى " إلى الحكم .
وقد تكرر بعدها بعدة شهور فى جواتيمالا عام 1954 ، وذلك بتدبير إنقلاب عسكرى ضد الرئيس المنتخب ديموقراطيا " أربينز " Arbeins الذى كان قد أمم شركة الفواكه الأمريكية ، التى كانت بمثابة الواجهة العلنية لنشاط وكالة الاستخبارات الأمريكية فى أمريكا الوسطى كلها (1) .
ونفس الأمر فى محاولة إغتيال الزعيم الصينى " شواين لاى " عام 1955 أثناء إنعقاد مؤتمر باندونج فى أندونيسيا بواسطة القنصل الأمريكى فى هونج كونج " وليم كورسن " W.Corson ومن خلال دس السم فى طعام الرجل (2) .
كما نجحت المخابرات المركزية الأمريكية بالتعاون مع شركة التليفون والهاتف الأمريكية فى تشيلى AT& T فى تدبير إنقلاب عسكرى دموى ووحشى ضد الرئيس الإشتراكى المنتخب ديموقراطيا " سلفادور الليندى " عام 1973 ، وقتل الرجل وراح ضحية هذا الانقلاب عشرات الآلاف من الضحايا والمفقودين على مدى عشرين عاما من هذا الحكم العسكرى الفاشى الذى قادة الجنرال " بانوشيه " .
ويشير ضابط الاستخبارات الاقتصادى الأمريكى – وهذه هى المرة الأولى التى نسمع بها بهذه الوظيفة – " جون بيركنز " Perkins بشجاعة إلى ما قامت به الاستخبارات المركزية الأمريكية من إغتيال رئيس الأكوادرور المنتخب ديموقراطيا البروفيسير " خايمى رولدوس " فى حادث طائرة غامض يوم 24 مايو 1981 ، وهو ما تكرر بنفس الأسلوب فى أغتيال الزعيم الوطنى المستقل فى بنما " عمر توريخوس " بعدها بشهرين فى 31 يوليو 1981 ، وهو ما عاد وتكرر كثيرا ، كان أخرها المحاولة الفاشلة لإسقاط الطائرة المروحية التى كان يستقلها الرئيس اليسارى المنتخب فى بوليفيا " إيفو مورالس " فى شهر نوفمبر عام 2019 ، والتى أعقبها مباشرة تنظيم إنقلاب عسكرى أجبره على الاستقالة
، وكذلك تلك المحاولات المتكررة والتى تجاوزت عشرات المرات لإغتيال الزعيم جمال عبد الناصر والزعيم الكوبى التاريخى " فيدل كاسترو " والتى باءت جميعها بالفشل .
وقد ترتب على عمليات الاغتيال والانقلابات العسكرية تحقيق المطالب الأمريكية فعلا ، ففى الأكوادور وبعد نجاح إغتيال الرئيس " خايمى رولدوس " فى 24 مايو عام 1981 ، تولى بعده الرئيس " أوزفالد أورتاور " الذى أعاد المزايا الأمريكية بما فيها إعادة إفتتاح المعهد الصيفى للغات SIL الذى كان بمثابة الواجهة العلنية لجهاز الاستخبارات المركزية الأمريكية فى البلاد ، وكذلك تحقق للولايات المتحدة مطالبها بعد إزاحة حكومة الدكتور مصدق فى إيران عام 1953 ، وعودة الشاه والعسكر لحكم البلاد .
ويشير الكاتب الصحفى الأمريكى البارز " بوب ودووارد " Bob Woodward فى كتابه الهام ( الحجاب .. الحروب السرية للاستخبارات المركزية الأمريكية ) ، إلى أن أسلوب الاغتيالات Assignation قد أستمر فى عقدى الثمانينات والتسعينات ، سواء فى محاولات أغتيال العقيد القذافى فى ليبيا ، أو غيره من المسئولين المناوئين للمصالح الأمريكية فى كثير من دول العالم (3) كما أكدته عميلة الإستخبارات البريطانية السابقة " أنى ماشون " Annie Machonفى كتابها الذى صدر عام 2015 وأحدث ضجة هائلة فى الأوساط الإستخبارية والإعلامية العالمية .
فى هذا السياق التاريخى الطويل ، يمكن فهم وتفسير السلوك الأمريكى فى منطقة الشرق العربى ، الذى يمثل لها مصالح إستراتيجية وحيوية ، تصل إلى حد أعتباره جزءا من مكونات الأمن القومى الأمريكى ، ومن هنا لم يكن غريبا والأمر كذلك أن يكون جمال عبد الناصر الذى ناهض السياسات الأمريكية فى المنطقة لمدة ثمانى عشرة عاما ، واحدا من أهم أهداف نشاط الاستخبارات المركزية الأمريكية ، وتكرار محاولات إغتياله ماديا أو معنويا بعد أن فشلت محاولات كل من الرئيسين " دوايت إيزنهاور " و " جون كينيدى " فى إحتواءه أو ترويضه ، ووقف ما إعتبرته الإدارات الأمريكية إندفاعا مصريا نحو التعاون مع الاتحاد السوفيتى والكتلة الشرقية ، وعندما لم تفلح هذه الجهود أطلقت إسرائيل فى عدوانها على مصر فى الخامس من يونيه عام 1967 ، لتنزل هزيمة عسكرية قاسية بالنظام الناصرى وبقية دول المواجهة العربية ، والتمهيد بالتالى لإجراء تغييرات سياسية داخلية فى مصر بعناية وعلى نار هادئة وعبر إختراق من الداخل هذه المرة .
وكما كان يحدث فى عمليات الإختراق المتبادل بين أجهزة الإستخبارات الكبرى ( مثل KGB السوفيتى و CIA الأمريكى و MI6 البريطانى ) سواء بزرع جواسيس أو إقتناص وتجنيد قيادات ومسئولين فى الوظائف العليا فى هذه البلدان ، كما يشير " بوب ودوارد " ، فيبدو أن الوقائع تؤكد أنهم قد نجحوا فى مصر .
وبرغم بعض الإشارات غير المؤكدة ، لصحفى كبير ومطلع مثل الاستاذ محمد حسنين هيكل ، حول وجود شبهات على إغتيال الرئيس جمال عبد الناصر بطريقة غامضة ، وشكوك تحيط بنائبه ( أنور السادات ) ، الذى قام بنفسه بإعداد فنجان من القهوة للرئيس جمال عبد الناصر أثناء راحته فى فندق " هليتون " ، بين جلسات المؤتمر الذى إنعقد بالقاهرة فى 24-28 سبتمبر من عام 1970 ، وقبل ساعات قليلة من وفاة الرجل ، لوقف حمام الدم الفلسطينى فى الأردن ، ومحاولته وقف إندفاع الملك الأردنى ( الحسين بن طلال ) لتصفية المقاومة الفلسطينية فى بلاده ، فتبقى هذه الإشارات غير موثقة وغير مدعومة (4) ، أللهم سوى شواهد سياسات السادات بعد توليه الحكم فعلا ، والتى تمثل إنقلابا جذريا على سياسات الرئيس جمال عبد الناصر ، وفتح وتسليم المنطقة العربية كلها للولايات المتحدة الأمريكية بعد حرب أكتوبر عام 1973 .
كما أن الربط بين بعض الوقائع الغريبة وغير المفهومة أو المبررة ، التى أتى بها الرئيس أنور السادات بعد توليه الحكم فى شهر اكتوبر عام 1970 ، والكتابات التى تحمل إشارات واضحة من أهم الكتاب والصحفيين المطلعين فى دوائر الاستخبارات الأمريكية والسياسة الأمريكية عموما ، قد تعطى مسارا لا يبتعد كثيرا عن الحقيقة والواقع .
فوفقا للكاتب الأمريكى البارز والمطلع Bob Woodward فأن الرئيس أنور السادات كان أحد أهم المصادر الاستخبارية لدى جهاز الاستخبارات المركزية الأمريكية حتى من قبل توليه الحكم ، وقد نشأت هذه العلاقة فى منتصف عقد الستينات وقبل وفاة الرئيس جمال عبد الناصر ، وكان الوسيط هو السيد " كمال أدهم " مدير المخابرات السعودية ، والذى أدى إلى وضع السادات على قوائم المدفوعات المالية للاستخبارات الأمريكية Payroll (5) .
وهو ما يعود ليؤكد عليه المؤرخ الأمريكى المتخصص فى شئون الاستخبارات المركزية الأمريكية " جوزيف ترونتو " Joseph J. Trento فى صفحة (105) من كتابه قائلا أن فضيحة بنك الإعتماد والتجارة عام 1991 ، والذى كان بمثابة واجهة للاستخبارات المركزية الأمريكية من جهة ، والمخابرات العامة السعودية من جهة أخرى ، قد بينت أن هذا البنك كان يستخدم لعمليات غسل أموال وفى تمويل عصابات المخدرات والإرهابيين (**من ضمن البنوك التى لعبت دور الواجهة لعمليات جهاز الإستخبارات المركزية الأمريكية فى إستراليا بنك هوجان هاند ) كما كشفت قوائم وأسماء الحاصلين على مرتبات ومدفوعات منتظمة من جهاز CIA وكان من بينهم نائب الرئيس المصرى السيد أنور السادات (6) .
ويعود " بوب ودوارد " صفحة (87) ليشير إلى نفس الأمر حينما نجح المرشح الجمهورى " رونالد ريجان " فى الانتخابات الرئاسية عام 1980 ، وقبل توليه منصبه فى العشرين من يناير عام 1981 ، حيث يقضى العرف السياسى أن يقوم رئيس المخابرات المركزية الأمريكية فى الحكومة المغادرة " ستنسفيلد تيرنر " Stansfield Turner بتقديم ملخص Briefing
للرئيس الجديد ، وفى حضور المدير المرشح لوكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية " وليم كيسى " Casey، وقد تضمن العرض المختصر أهم وأكثر أنشطة الوكالة فى العالم ، وفى إدارة عمليات التجسس والتنصت ، وخصوصا على الاتحاد السوفيتى أو غيرها ، وهنا جاء العرض الخاص بمصر وقال " تيرنر" أن الاستخبارات الأمريكية لديها عملاء فى مصر من قمة السلطة وحتى القاع ، وأن الرئيس المصرى أنور السادات معروف جيدا لدى الاستخبارات المركزية الأمريكية (7) .
وهذا التعبير ( معروف جيدا لدى الاستخبارات ) مصطلح معتمد ومتداول لدى رجالات الدولة والأجهزة الاستخبارية بما يعنى أنه عميل Agent أو متعاون معها ، وهو نفس الوصف الذى استخدمه الرئيس الفرنسى " فرانسوا ميتران " بعدها بعدة سنوات فى وصف علاقة الرئيس المصرى ( حسنى مبارك ) مع الأجهزة الاستخبارية الفرنسية أثناء عقد صفقة طائرات الميراج عام 1972 .
ويعود " بوب ودووارد " للتأكيد على أن الولايات المتحدة قدمت مساعدات عسكرية وإستخبارية للسادات حتى يتمكن من الإحتفاظ بالسلطة والحكم فى مصر (8) .
ثم يكرر " بوب ودووارد " بإصرار الواثق من مصادر معلوماته فى صفحة (312) بأن السادات كان يتلقى دخلا منتظما Regular Income من الوكالة وعبر السيد كمال أدهم.
فإذا ربطنا بين هذه المعطيات والمعلومات التى يقدمها أربعة من أكبر المطلعين على الأحداث ، ولديهم نوافذ مطلة وكاشفة على مراكز صناعة القرارات والمعلومات ( جوزيف ترنتو – بوب ودووارد – تيم وارنر - محمد حسنين هيكل ) ، وبين كثير من تصرفات وسياسات السادات غير المفهومة فى السياق الوطنى والمنطقى نستطيع ان نصل إلى نتائج على درجة معقولة جدا من الحقيقة .
خذ مثلا تصرف السادات غير المفهوم وغير المبرر ، حينما كشف لضيفه السعودى " كمال أدهم " والمعروف بصلاته القوية جدا والولاء المطلق للولايات المتحدة وأجهزة أستخباراتها، وبحكم موقعه الحساس كمدير للمخابرات السعودية ، عن سر عملية " عصفور أفندى " التى نجحت فيها أجهزة الأمن القومى المصرى منذ عام 1968 فى زرع أربعة ميكروفونات تنصت داخل السفارة الأمريكية فى القاهرة ، وظلت طى الكتمان تنتج منجما من المعلومات لمصر ، ثم بمجرد أن عرف بأمرها الرئيس السادات بعد توليه الحكم من الكاتب الكبير " محمد حسنين هيكل " ، أن أفشى بسرها إلى ضيفه السعودى وكأنها مزحة ثم أطلق العنان لضحكته المصطنعة ، وبعدها بأيام قليلة كانت أجهزة أمن السفارة الأمريكية تقوم بعملية مسح شامل لكل ركن من أركان السفارة ، وتنزع الميكروفونات من أماكنها الأربعة (9) ...!!
كما تفسر هذه الوقائع والمعلومات ، تصرف السادات الغريب والشاذ من طلب وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية – غير الرسمى – الذى نقله إليه وزير الخارجية الأمريكية " سيروس فانس " أثناء زيارته للقاهرة عام 1977 بطلب محرك من محركات طائرة الميج (21) المعدلة التى كانت تتسلح بها القوات الجوية المصرية ، وتمثل العمود الفقرى للتسلح الجوى لسوريا والجزائر وليبيا وعدد أخر من الدول العربية ، والاتحاد السوفيتى نفسه ، فإذا بالسادات يقهقه ضاحكا ضحكته السمجة ، وينادى على وزير دفاعه " الفريق أول عبد الغنى الجمسى " ، ليأمره بتوفير طائرة كاملة لتقديمها إلى الولايات المتحدة وسط دهشة وذهول وزير الدفاع المصرى وأستغرابه (10) .
وخذ أيضا العلاقة الغامضة والملتبسة بين الرئيس السادات وسكرتيره الشاب للمعلومات " أشرف مروان " ، الذى أستولى على بعض الوثائق والمستندات ومشروعات القرارات من خزينة الرئيس " جمال عبد الناصر " عشية وفاته ، والتى كانت تتضمن مشروع قرار جمهورى بتعيين السيد عبد اللطيف بغدادى نائبا أول للرئيس عبد الناصر ، مما كان يعنى إزاحة السادات من مشهد وتسلسل القيادة فى حال وفاة أو تخلى عبد الناصر عن الحكم ، وما تكشف بعد ذلك بثلاثة عقود عن صلات مشبوهة بين أشرف مروان وجهاز الموساد الإسرائيلى وعمله معهم منذ مطلع عام 1970(11)
كما كشف اللواء مجدى عمارة – أحد قادة ألوية الحرس الجمهورى – ما ترتب على واقعة تدهور العلاقة الشخصية بين الرئيس أنور السادات وقائد الحرس الجمهورى اللواء الليثى ناصف ، الذى لعب دورا حاسما فى تمكين الرئيس السادات فى أزمة مايو عام 1971 من الحكم ، وأعتقال كل معارضيه من كبار رجالات الدولة ، فقد ترتب على تدهور هذه العلاقة بين الرئيس السادات واللواء الليثى ناصف ، تدهور مقابل بين الأخير واللواء " أحمد إسماعيل على " الذى كان يشغل وظيفة مدير المخابرات العامة المصرية ، قبل ان يتولى منصب وزير الحربية فى أواخر عام 1972 ، حيث جرى أبعاد اللواء الليثى ناصف إلى لندن بحجة العلاج ، ثم قتل الرجل بطريقة غامضة من خلال إلقاءه من نافذة شقته بالطابق الحادى عشر فى لندن (12) .
وخذ أيضا قصة أفراج الرئيس السادات عام 1974 عن الجاسوس مصطفى أمين والتى وردت قصتها فى عدة مصادر ، أحدثها الكتاب الموسوعى الذى أعده الصحفى الأمريكى المرموق "تيموينر" Tem Warner مراسل صحيفة (نيويورك تايمز) ، والذى عمل في أفغانستان ، وباكستان ومعظم بلدان الشرق الأوسط ومنها مصر، ويقوم منذ عشرة أعوام بتتبع وتغطية أنشطة وكالةالمخابرات المركزية الأمريكي ، وقد صدر الكتاب في الولايات المتحدة عام 2008 تحت عنوان(ميراث من الدماء.. تاريخ وكالة المخابرات المركزية الأمريكية) (13) .
ويقدم الكتاب تاريخ الوكالة منذ إنشائها عام، 1947 وحتي نهاية عصر جورج بوش، مركزاعلي خيبات المخابرات وعملياتها الفاشلة ، وقدحصل الكتاب علي جائزة " بوليتزر" الأمريكية الصحفية الشهيرة اعترافا بأهميته ودقته ،ويقع الكتاب في 702 صفحة تتناول وقائع جرت علي مدي عهود 16 رئيسًا للمخابرات المركزية الأمريكية CIA، وأهم مايكشف عنه الكتاب بالنسبة لنا هو صلة مصطفي أمين بالمخابرات الأمريكية حيث كانت الـوكالة تدفع له الأموال مقابل الحصول علي معلومات ، وعلي نشر تقارير إخبارية مؤيدة للسياسات الأمريكية ،كما يؤكد الكتاب بالوثائق والاعترافات والأدلة ، أن مدير المحطة فى القاهرة أسمه "بروس أوديل" كان يلتقى مع مصطفي أمين بصفة منتظمة في شقته بالزمالك .
يروى الأستاذ " محمد حسنين هيكل " واقعة الإفراج عنه فى كتابه الهام ( بين الصحافة والسياسة )، من خلال حوار جرى بينه وبين الرئيس السادات ، وقد بدأ الحوار حول جولد مائير ..قال السادات مستطردا :
( طلباتهالا تنتهي هذه المره ، ولكني لن أعطيها الفرصة.. أنني أطاوعها فيما تطلبه حتى أجعل عليها من الصعب أن ترفض ما أطلبه ) .
وواصل كلامه:
( الآن تريد مني أن أفرج عن كل المسجونين عندي من جواسيس إسرائيل .. غريبة أن تلح على الولد مزراحي .. لابد أنه كان مهما جدا بالنسبة لهم.. تصور هي أيضا تريد أن تأخذ جثث الأولاد الصهاينة الذين قتلوا لورد موين سنة 1945 في القاهرة ،ركبت رأسها مع هنري- يقصد كيسنجر – وصممت عليهم) .
لم يقاطعه هيكل فاستمر السادات :
( طبعا هنري استغل الفرصة وطلب مني هو الأخر أن أفرج عن عددمن الأشخاص حكم عليهم في قضايا تجسس لصالح المخابرات الأمريكية .. على أي حال لن أوجع رأسي بهؤلاء جميعا.. سوف أعطيهم لهم وأخلص نفسي ) .
ثم فاجأ السادات هيكل،على غير انتظار أو توقع كمايقول بسؤال :
( مارأيك في الإفراج عن مصطفى أمين.. ألم تطلب مني أكثر من مرة أن أفرج عنه) .
ويبدو- كمايضيف هيكل – أن علامات دهشة بدت على ملامحي فقد استطرد بالحرف الواحد .
( لماذا تشعلق حواجبك من الدهشة هكذا، إنهم يطلبونه وأنا أريد أن أجاملهم فيه) .
وتساءل هيكل. .من؟
وقال السادات :
( كثيرون .. الأمير سلطان طلبه مني، وكمال أدهم أيضا) .
وسكت لحظة ثم استطرد .
( ولماذا لا أجامل الأمريكان فيه ) .
قال هيكل:
( الأمر لك بالطبع ،وإن كنت أخشى من الإفراج عنه في هذا الإطار الذي كنت تتكلم فيه إساءة إليه . لماذا لا تجعل فاصل أسبوعأ وأسبوعين بين الإفراج عنه وبين لهؤلاءالذين طلبتهم جولدا مائير وطلبهم هنري كيسنجر) .
ونظرالسادات إلى هيكل بنصف ابتسامة ونصف عين وقال له:
( أنت تدعي أنك تفهم في السياسة وأنا أقوللك العكس .. لوأنك كنت تفهم في السياسة لوافقتني على ماقلت بالعكس .من الأفضل الإفراج عن مصطفى ضمن هذه الصفقة حتى لا يتجاسر يوما ويفتح فمه . وإذا فتحه فإننا نقدر نضربه ب.......")
وصمت السادات،ولم يعلق هيكل وهكذا أخرج مصطفى أمين، بإفراج صحي من السجن، ضمن صفقةجواسيس طلبتهم جولدامائير .. وطلبهم هنري كيسنجر(14)، وزاد عليها أن عين الأخوين مصطفى وعلى أمين كرؤوساء تحرير لجريدة الأهرام بديلا لمحمد حسنين هيكل ، لعدة أسابيع ثم جرى نقلهما رؤوساء تحرير جريدة أخبار اليوم الواسعة الانتشار ... !!