"الإخوان" و"دفتر سيجارة" لبول شاوول والثقافة في مصر
مقاومة التدخين أم التباس معنى الدين والمعرفة؟
شر البلية ما يضحك حقاً. هكذا قلت لنفسي حين قرأت خبر مصادرة ديوان "دفتر سيجارة" للشاعر والمسرحي والناقد اللبناني بول شاوول، الصادر عن الهيئة العامة لقصور الثقافة في طبعة ثانية قبل فترة. لكن ما يضحكني ليس شراً كله في الحقيقة. فبالرغم من أن نشر صفحة ثقافية في بقعة من العالم خبراً عن ديوان شعر ووصفه بأنه يجب أن يصادر لأنه يحرض على التدخين، يعدّ "مسخرة كوميدية" بالنسبة إلى أي جهة ثقافية أو جماعة فكرية أو حتى أي صحيفة محترمة. إلا أن نشره في صحيفة "الحرية والعدالة" التابعة لـ"حزب العدالة والحرية" الممثل لـ"الإخوان" في مصر، أعاد إلى ذهني فورا المشهد الكوميدي الذي يثير ضحكي بامتياز، والخاص بذلك "الرقيب الغامض" الذي ينحصر عمله في تسويد صفحات من صحيفة أو مجلة بها ذراع امرأة أو جزء عارٍ من بدنها.
الجدية التي قد يقوم بها مثل هذا المواطن بعمله، هي عندي جدية لا تبعث سوى على السخرية، لأنه يقوم بعمله المدهش والعبثي بإخلاص شديد، وبيقين أنه مسؤول عن تخليص العالم من شرور العري والابتذال، وربما سيستغفر في كل مرة تقع عيناه على الجسد العاري قبل أن يغطيه بقلمه، من دون اي اعتبارات أخرى فكرية أو إنسانية.
بمثل هذا اليقين كتب محرر أو أكثر تقريراً خبرياً في الحرية والعدالة عن مصادرة الديوان لأنه "يحرّض على التدخين"، وباليقين نفسه صدر قرار المصادرة، ولعل من وقّع القرار قد فعل ذلك بجبين متقلص من فرط الجدية والإحساس بأهمية القرار في المحافظة على الأخلاق العامة وحماية النشء من التدخين ربما!
متخذ قرار المصادرة، كما هو حال كل قرار مصادرة في الحقيقة، تعبير عن ضحالة ثقافية ولعلها أخلاقية أيضاً، لأن الأصل في الفكر، أن يواجه دائماً بمثله لا بمنعه. وهذا ليس من أدبيات المتأسلمين الجدد ونموذجهم المعاصر ممثلا في جماعة "الإخوان المسلمين"، ولا غيرهم الحقيقة.
إن ما يُضحك في شأن مسح الصور في الصحف باللون الأسود، أنه بينما يمسح صورة، تتوالد في فضاء الإنترنت، مثلا، ألوف الصور الجديدة لكل ما يعتقد أنه مبتذل ولا أخلاقي من صور عارية وافلام جنسية وسوى ذلك، وأنه لا يدرك أن الإنسان يمتلك وعياً بصيرة تمكّنه من الحكم على كل شيء بنفسه، وأنه كإنسان يستوي مع الآخرين، لا يحق له مصادرة المعرفة أو البصيرة عن الآخرين.
كما أن ما يثير السخرية كذلك في قضية منع ديوان بول شاوول، وهو ديوان شعري فني، يمتلئ بالدلالات الشعرية واللغوية والفنية، أنه لا يمكنه أن يدعو شخصا للتدخين ولن يمنع مدخّنا عنه كذلك. فما علاقة التحريض على التدخين بما يقوله شاوول: "يحس أحياناً وهو يشعل السيجارة وكأن أجراساً بعيدة تحترق عليها، وكأن دخاناً عميقاً آتياً من الحفر. والطفولة، والموتى، يتلاشى أمامه وهو جالس وحده يشعل السيجارة من السيجارة. وتحترق وراءه أجراس بعيدة وضباب يطلع من كل الأدوية والأحراش التي عبرها ذات زمن وتولّت الى الأبد". إذ "يبتسم عندما يلتقي البخار المتصاعد من فنجان القهوة الساخن دخان سيجارته. ويبتسم أكثر عندما يتمازجان ويتلاشيان معاً هواء في هواء أو صمتاً في صمت ورحيلاً في رحيل". أو غير ذلك الكثير من أبيات الديوان التي تتأمل الحياة وفكرة الزمن، وتفلسف معنى الوجود من خلف سحب دخان سيجارة، ومن خبرة ارتباط الشاعر بدخانها حزينا، ومتأملا، ومتفكرا في تجارب الذات والآخر.
هنا أصل لأبرر لماذا إن ما يثير الضحك هنا ليس شرا كله؛ أولا لأنه يبين بجلاء تام الضحالة التي يمتلكها تيار يدّعي أنه تيار إصلاحي بينما هو في الواقع تيار سياسي يتغطى بغطاء الدين، وتاليا لأنه يكشف كيف ان جماعة "الإخوان" بعيدة كل البعد عن الفكر والثقافة، ليس لأن اتباعها يكتفون بقراءة الفقه والفكر الديني، فليس لمن يصادر كتاباً شعرياً معرفة لا بالدنيا ولا بالدين في الحقيقة. لكن لأن الجماعة، كما شأنها في كل شيء، تتعامل مع أنصارها بوصفهم أتباعا ينفذون الأوامر بلا مراجعة، وبينها أن يُحدَّد لهم ما يقرأون وما لا يقرأون. لأن القراءة الحقيقية والعميقة للممنوع من النصوص الفقهية والدينية، ولن أقول للفلسفة والفكر والتراث الفكري الغربي، سوف تؤدي غالبا لانفضاض الكثيرين، ممن يمتلكون رغبة حقيقية في المعرفة، عن الجماعة.
لكن ما لا يدركه "الإخوان" أن المجتمع المصري ليس الجماعة، لكي يحدد لها المرشد ما تقرأ وما لا تقرأ. كما أنه عند المصريين، مثله مثل غيره، رجل لا وصاية له على غيره، يستوي مع كل الآخرين وله حق الإنسان نفسه في المعرفة.
وما يُضحك هنا ليس شراً كله أيضاً، لأن مثل هذا الموقف، وغيره الكثير مما تمارسه جماعة "الإخوان: اليوم مما يعرف بـ"أخونة الدولة" من طريق اختيار رؤساء تحرير للصحف المصرية ينتمون إلى الجماعة بشكل أو بآخر، وما تبع ذلك من محاولات لدسّ الصبغة "الإخوانية" في الإعلام مثلما حدث أخيرا في "أخبار الأدب" التي نشرت في عددها الأخير مقولة لكارل ماركس يمدح فيها الرسول، ويعدّه من أعظم الشخصيات التي أنجبتها البشرية، فضلاً عن نشر صورة لماريلين مونرو مع تغطية صدرها! هو العمل الضروري الذي كان من المهم أن يراه الكثيرون ممن كانوا يعتبرون الجماعة يمثلها أنصار الله، وأنهم ضحايا الاعتقال والتعذيب في عهد مبارك، على رغم أن مبارك لم يميز بين خصومه، ففي المعتقل يلقى الكل القدر نفسه من الإهانة والتعذيب، ايا يكن سبب الاعتقال.
الأهم من هذا كله أن "الإخوان" يثبتون الوهم الكبير الذي يعيشون فيه ويصدّقون أن في إمكانهم، بالالتفاف والحيلة وباستخدام شعارات الديموقراطية التي وصلوا بها الى الحكم، أن يثبّتوا نفوذهم، على طريقة "الحزب الوطني" المنحل الممثل للسلطة في مصر خلال العقود الثلاثة الماضية، وبالذهنية نفسها تقريبا، في نهج إدارة الدولة، وفي النظرة الدونية للثقافة، وفي توهم أن السلطة يجب أن تكون وصية على التفكير.
وهذا ما يثير السخرية ايضاً، لأن الثورة التي قامت وأسقطت نظاماً عتيداً في بضعة أيام لم تندلع لأنها تعتقد وهماً أن الديموقراطية هي الانتخابات، التي وصل فيها "الإخوان" إلى الحكم. لا، فالثوار، وكل المطالبين بالحرية والديموقراطية، يدركون أن الانتخابات ليست إلا آلية من آليات تنظيم عملية تداول السلطة وشرعية المعارضة، لكن هذا ليس كل شيء، فلا ديموقراطية بلا حرية، ولا ديموقراطية حقيقية من دون شعب لا يلغي أفراده، ولا ديموقراطية أيضاً من دون أفراد يدركون أنفسهم كشعب واحد. وهذا بعيد تماماً وغائب عن جماعة تنظر بتعال إلى الآخرين، وتتصور وهماً أنها تمتلك الحقيقة الواحدة، إضافة إلى أن مشروعها المضمر للدولة الدينية وفق ما تظهره العديد من الدلالات في محاولات صياغة الدستور وفق هذا الهوى، إضافة إلى دلالات أخرى عدة تكشف أن الانهيار الحتمي سيكون المصير واقرب مما يتصور أحد.
بعيدا إذاً من السيجارة والدخان، ومن أن كتاب بول شاوول سيعيش طويلاً، بينما سينتهي "الإخوان" يوماً، كما غيرهم من اصحاب المشاريع السلطوية مثلما يعلمنا التاريخ، فإن الحقيقة التي يعلمنا التاريخ إياها أيضاً أن الثورة عمل مستمر لا يهدأ حتى يتحقق إحساس من قاموا بها بأنهم مواطنون أحرار في بلد حر.
الجدية التي قد يقوم بها مثل هذا المواطن بعمله، هي عندي جدية لا تبعث سوى على السخرية، لأنه يقوم بعمله المدهش والعبثي بإخلاص شديد، وبيقين أنه مسؤول عن تخليص العالم من شرور العري والابتذال، وربما سيستغفر في كل مرة تقع عيناه على الجسد العاري قبل أن يغطيه بقلمه، من دون اي اعتبارات أخرى فكرية أو إنسانية.
بمثل هذا اليقين كتب محرر أو أكثر تقريراً خبرياً في الحرية والعدالة عن مصادرة الديوان لأنه "يحرّض على التدخين"، وباليقين نفسه صدر قرار المصادرة، ولعل من وقّع القرار قد فعل ذلك بجبين متقلص من فرط الجدية والإحساس بأهمية القرار في المحافظة على الأخلاق العامة وحماية النشء من التدخين ربما!
متخذ قرار المصادرة، كما هو حال كل قرار مصادرة في الحقيقة، تعبير عن ضحالة ثقافية ولعلها أخلاقية أيضاً، لأن الأصل في الفكر، أن يواجه دائماً بمثله لا بمنعه. وهذا ليس من أدبيات المتأسلمين الجدد ونموذجهم المعاصر ممثلا في جماعة "الإخوان المسلمين"، ولا غيرهم الحقيقة.
إن ما يُضحك في شأن مسح الصور في الصحف باللون الأسود، أنه بينما يمسح صورة، تتوالد في فضاء الإنترنت، مثلا، ألوف الصور الجديدة لكل ما يعتقد أنه مبتذل ولا أخلاقي من صور عارية وافلام جنسية وسوى ذلك، وأنه لا يدرك أن الإنسان يمتلك وعياً بصيرة تمكّنه من الحكم على كل شيء بنفسه، وأنه كإنسان يستوي مع الآخرين، لا يحق له مصادرة المعرفة أو البصيرة عن الآخرين.
كما أن ما يثير السخرية كذلك في قضية منع ديوان بول شاوول، وهو ديوان شعري فني، يمتلئ بالدلالات الشعرية واللغوية والفنية، أنه لا يمكنه أن يدعو شخصا للتدخين ولن يمنع مدخّنا عنه كذلك. فما علاقة التحريض على التدخين بما يقوله شاوول: "يحس أحياناً وهو يشعل السيجارة وكأن أجراساً بعيدة تحترق عليها، وكأن دخاناً عميقاً آتياً من الحفر. والطفولة، والموتى، يتلاشى أمامه وهو جالس وحده يشعل السيجارة من السيجارة. وتحترق وراءه أجراس بعيدة وضباب يطلع من كل الأدوية والأحراش التي عبرها ذات زمن وتولّت الى الأبد". إذ "يبتسم عندما يلتقي البخار المتصاعد من فنجان القهوة الساخن دخان سيجارته. ويبتسم أكثر عندما يتمازجان ويتلاشيان معاً هواء في هواء أو صمتاً في صمت ورحيلاً في رحيل". أو غير ذلك الكثير من أبيات الديوان التي تتأمل الحياة وفكرة الزمن، وتفلسف معنى الوجود من خلف سحب دخان سيجارة، ومن خبرة ارتباط الشاعر بدخانها حزينا، ومتأملا، ومتفكرا في تجارب الذات والآخر.
هنا أصل لأبرر لماذا إن ما يثير الضحك هنا ليس شرا كله؛ أولا لأنه يبين بجلاء تام الضحالة التي يمتلكها تيار يدّعي أنه تيار إصلاحي بينما هو في الواقع تيار سياسي يتغطى بغطاء الدين، وتاليا لأنه يكشف كيف ان جماعة "الإخوان" بعيدة كل البعد عن الفكر والثقافة، ليس لأن اتباعها يكتفون بقراءة الفقه والفكر الديني، فليس لمن يصادر كتاباً شعرياً معرفة لا بالدنيا ولا بالدين في الحقيقة. لكن لأن الجماعة، كما شأنها في كل شيء، تتعامل مع أنصارها بوصفهم أتباعا ينفذون الأوامر بلا مراجعة، وبينها أن يُحدَّد لهم ما يقرأون وما لا يقرأون. لأن القراءة الحقيقية والعميقة للممنوع من النصوص الفقهية والدينية، ولن أقول للفلسفة والفكر والتراث الفكري الغربي، سوف تؤدي غالبا لانفضاض الكثيرين، ممن يمتلكون رغبة حقيقية في المعرفة، عن الجماعة.
لكن ما لا يدركه "الإخوان" أن المجتمع المصري ليس الجماعة، لكي يحدد لها المرشد ما تقرأ وما لا تقرأ. كما أنه عند المصريين، مثله مثل غيره، رجل لا وصاية له على غيره، يستوي مع كل الآخرين وله حق الإنسان نفسه في المعرفة.
وما يُضحك هنا ليس شراً كله أيضاً، لأن مثل هذا الموقف، وغيره الكثير مما تمارسه جماعة "الإخوان: اليوم مما يعرف بـ"أخونة الدولة" من طريق اختيار رؤساء تحرير للصحف المصرية ينتمون إلى الجماعة بشكل أو بآخر، وما تبع ذلك من محاولات لدسّ الصبغة "الإخوانية" في الإعلام مثلما حدث أخيرا في "أخبار الأدب" التي نشرت في عددها الأخير مقولة لكارل ماركس يمدح فيها الرسول، ويعدّه من أعظم الشخصيات التي أنجبتها البشرية، فضلاً عن نشر صورة لماريلين مونرو مع تغطية صدرها! هو العمل الضروري الذي كان من المهم أن يراه الكثيرون ممن كانوا يعتبرون الجماعة يمثلها أنصار الله، وأنهم ضحايا الاعتقال والتعذيب في عهد مبارك، على رغم أن مبارك لم يميز بين خصومه، ففي المعتقل يلقى الكل القدر نفسه من الإهانة والتعذيب، ايا يكن سبب الاعتقال.
الأهم من هذا كله أن "الإخوان" يثبتون الوهم الكبير الذي يعيشون فيه ويصدّقون أن في إمكانهم، بالالتفاف والحيلة وباستخدام شعارات الديموقراطية التي وصلوا بها الى الحكم، أن يثبّتوا نفوذهم، على طريقة "الحزب الوطني" المنحل الممثل للسلطة في مصر خلال العقود الثلاثة الماضية، وبالذهنية نفسها تقريبا، في نهج إدارة الدولة، وفي النظرة الدونية للثقافة، وفي توهم أن السلطة يجب أن تكون وصية على التفكير.
وهذا ما يثير السخرية ايضاً، لأن الثورة التي قامت وأسقطت نظاماً عتيداً في بضعة أيام لم تندلع لأنها تعتقد وهماً أن الديموقراطية هي الانتخابات، التي وصل فيها "الإخوان" إلى الحكم. لا، فالثوار، وكل المطالبين بالحرية والديموقراطية، يدركون أن الانتخابات ليست إلا آلية من آليات تنظيم عملية تداول السلطة وشرعية المعارضة، لكن هذا ليس كل شيء، فلا ديموقراطية بلا حرية، ولا ديموقراطية حقيقية من دون شعب لا يلغي أفراده، ولا ديموقراطية أيضاً من دون أفراد يدركون أنفسهم كشعب واحد. وهذا بعيد تماماً وغائب عن جماعة تنظر بتعال إلى الآخرين، وتتصور وهماً أنها تمتلك الحقيقة الواحدة، إضافة إلى أن مشروعها المضمر للدولة الدينية وفق ما تظهره العديد من الدلالات في محاولات صياغة الدستور وفق هذا الهوى، إضافة إلى دلالات أخرى عدة تكشف أن الانهيار الحتمي سيكون المصير واقرب مما يتصور أحد.
بعيدا إذاً من السيجارة والدخان، ومن أن كتاب بول شاوول سيعيش طويلاً، بينما سينتهي "الإخوان" يوماً، كما غيرهم من اصحاب المشاريع السلطوية مثلما يعلمنا التاريخ، فإن الحقيقة التي يعلمنا التاريخ إياها أيضاً أن الثورة عمل مستمر لا يهدأ حتى يتحقق إحساس من قاموا بها بأنهم مواطنون أحرار في بلد حر.
آخر الأخبار
title
الأكثر قراءة
title2012-09-26
إبرهيم فرغلي
"الإخوان" و"دفتر سيجارة" لبول شاوول والثقافة في مصر
مقاومة التدخين أم التباس معنى الدين والمعرفة؟
شر البلية ما يضحك حقاً. هكذا قلت لنفسي حين قرأت خبر مصادرة ديوان "دفتر سيجارة" للشاعر والمسرحي والناقد اللبناني بول شاوول، الصادر عن الهيئة العامة لقصور الثقافة في طبعة ثانية قبل فترة. لكن ما يضحكني ليس شراً كله في الحقيقة. فبالرغم من أن نشر صفحة ثقافية في بقعة من العالم خبراً عن ديوان شعر ووصفه بأنه يجب أن يصادر لأنه يحرض على التدخين، يعدّ "مسخرة كوميدية" بالنسبة إلى أي جهة ثقافية أو جماعة فكرية أو حتى أي صحيفة محترمة. إلا أن نشره في صحيفة "الحرية والعدالة" التابعة لـ"حزب العدالة والحرية" الممثل لـ"الإخوان" في مصر، أعاد إلى ذهني فورا المشهد الكوميدي الذي يثير ضحكي بامتياز، والخاص بذلك "الرقيب الغامض" الذي ينحصر عمله في تسويد صفحات من صحيفة أو مجلة بها ذراع امرأة أو جزء عارٍ من بدنها.
الجدية التي قد يقوم بها مثل هذا المواطن بعمله، هي عندي جدية لا تبعث سوى على السخرية، لأنه يقوم بعمله المدهش والعبثي بإخلاص شديد، وبيقين أنه مسؤول عن تخليص العالم من شرور العري والابتذال، وربما سيستغفر في كل مرة تقع عيناه على الجسد العاري قبل أن يغطيه بقلمه، من دون اي اعتبارات أخرى فكرية أو إنسانية.
بمثل هذا اليقين كتب محرر أو أكثر تقريراً خبرياً في الحرية والعدالة عن مصادرة الديوان لأنه "يحرّض على التدخين"، وباليقين نفسه صدر قرار المصادرة، ولعل من وقّع القرار قد فعل ذلك بجبين متقلص من فرط الجدية والإحساس بأهمية القرار في المحافظة على الأخلاق العامة وحماية النشء من التدخين ربما!
متخذ قرار المصادرة، كما هو حال كل قرار مصادرة في الحقيقة، تعبير عن ضحالة ثقافية ولعلها أخلاقية أيضاً، لأن الأصل في الفكر، أن يواجه دائماً بمثله لا بمنعه. وهذا ليس من أدبيات المتأسلمين الجدد ونموذجهم المعاصر ممثلا في جماعة "الإخوان المسلمين"، ولا غيرهم الحقيقة.
إن ما يُضحك في شأن مسح الصور في الصحف باللون الأسود، أنه بينما يمسح صورة، تتوالد في فضاء الإنترنت، مثلا، ألوف الصور الجديدة لكل ما يعتقد أنه مبتذل ولا أخلاقي من صور عارية وافلام جنسية وسوى ذلك، وأنه لا يدرك أن الإنسان يمتلك وعياً بصيرة تمكّنه من الحكم على كل شيء بنفسه، وأنه كإنسان يستوي مع الآخرين، لا يحق له مصادرة المعرفة أو البصيرة عن الآخرين.
كما أن ما يثير السخرية كذلك في قضية منع ديوان بول شاوول، وهو ديوان شعري فني، يمتلئ بالدلالات الشعرية واللغوية والفنية، أنه لا يمكنه أن يدعو شخصا للتدخين ولن يمنع مدخّنا عنه كذلك. فما علاقة التحريض على التدخين بما يقوله شاوول: "يحس أحياناً وهو يشعل السيجارة وكأن أجراساً بعيدة تحترق عليها، وكأن دخاناً عميقاً آتياً من الحفر. والطفولة، والموتى، يتلاشى أمامه وهو جالس وحده يشعل السيجارة من السيجارة. وتحترق وراءه أجراس بعيدة وضباب يطلع من كل الأدوية والأحراش التي عبرها ذات زمن وتولّت الى الأبد". إذ "يبتسم عندما يلتقي البخار المتصاعد من فنجان القهوة الساخن دخان سيجارته. ويبتسم أكثر عندما يتمازجان ويتلاشيان معاً هواء في هواء أو صمتاً في صمت ورحيلاً في رحيل". أو غير ذلك الكثير من أبيات الديوان التي تتأمل الحياة وفكرة الزمن، وتفلسف معنى الوجود من خلف سحب دخان سيجارة، ومن خبرة ارتباط الشاعر بدخانها حزينا، ومتأملا، ومتفكرا في تجارب الذات والآخر.
هنا أصل لأبرر لماذا إن ما يثير الضحك هنا ليس شرا كله؛ أولا لأنه يبين بجلاء تام الضحالة التي يمتلكها تيار يدّعي أنه تيار إصلاحي بينما هو في الواقع تيار سياسي يتغطى بغطاء الدين، وتاليا لأنه يكشف كيف ان جماعة "الإخوان" بعيدة كل البعد عن الفكر والثقافة، ليس لأن اتباعها يكتفون بقراءة الفقه والفكر الديني، فليس لمن يصادر كتاباً شعرياً معرفة لا بالدنيا ولا بالدين في الحقيقة. لكن لأن الجماعة، كما شأنها في كل شيء، تتعامل مع أنصارها بوصفهم أتباعا ينفذون الأوامر بلا مراجعة، وبينها أن يُحدَّد لهم ما يقرأون وما لا يقرأون. لأن القراءة الحقيقية والعميقة للممنوع من النصوص الفقهية والدينية، ولن أقول للفلسفة والفكر والتراث الفكري الغربي، سوف تؤدي غالبا لانفضاض الكثيرين، ممن يمتلكون رغبة حقيقية في المعرفة، عن الجماعة.
لكن ما لا يدركه "الإخوان" أن المجتمع المصري ليس الجماعة، لكي يحدد لها المرشد ما تقرأ وما لا تقرأ. كما أنه عند المصريين، مثله مثل غيره، رجل لا وصاية له على غيره، يستوي مع كل الآخرين وله حق الإنسان نفسه في المعرفة.
وما يُضحك هنا ليس شراً كله أيضاً، لأن مثل هذا الموقف، وغيره الكثير مما تمارسه جماعة "الإخوان: اليوم مما يعرف بـ"أخونة الدولة" من طريق اختيار رؤساء تحرير للصحف المصرية ينتمون إلى الجماعة بشكل أو بآخر، وما تبع ذلك من محاولات لدسّ الصبغة "الإخوانية" في الإعلام مثلما حدث أخيرا في "أخبار الأدب" التي نشرت في عددها الأخير مقولة لكارل ماركس يمدح فيها الرسول، ويعدّه من أعظم الشخصيات التي أنجبتها البشرية، فضلاً عن نشر صورة لماريلين مونرو مع تغطية صدرها! هو العمل الضروري الذي كان من المهم أن يراه الكثيرون ممن كانوا يعتبرون الجماعة يمثلها أنصار الله، وأنهم ضحايا الاعتقال والتعذيب في عهد مبارك، على رغم أن مبارك لم يميز بين خصومه، ففي المعتقل يلقى الكل القدر نفسه من الإهانة والتعذيب، ايا يكن سبب الاعتقال.
الأهم من هذا كله أن "الإخوان" يثبتون الوهم الكبير الذي يعيشون فيه ويصدّقون أن في إمكانهم، بالالتفاف والحيلة وباستخدام شعارات الديموقراطية التي وصلوا بها الى الحكم، أن يثبّتوا نفوذهم، على طريقة "الحزب الوطني" المنحل الممثل للسلطة في مصر خلال العقود الثلاثة الماضية، وبالذهنية نفسها تقريبا، في نهج إدارة الدولة، وفي النظرة الدونية للثقافة، وفي توهم أن السلطة يجب أن تكون وصية على التفكير.
وهذا ما يثير السخرية ايضاً، لأن الثورة التي قامت وأسقطت نظاماً عتيداً في بضعة أيام لم تندلع لأنها تعتقد وهماً أن الديموقراطية هي الانتخابات، التي وصل فيها "الإخوان" إلى الحكم. لا، فالثوار، وكل المطالبين بالحرية والديموقراطية، يدركون أن الانتخابات ليست إلا آلية من آليات تنظيم عملية تداول السلطة وشرعية المعارضة، لكن هذا ليس كل شيء، فلا ديموقراطية بلا حرية، ولا ديموقراطية حقيقية من دون شعب لا يلغي أفراده، ولا ديموقراطية أيضاً من دون أفراد يدركون أنفسهم كشعب واحد. وهذا بعيد تماماً وغائب عن جماعة تنظر بتعال إلى الآخرين، وتتصور وهماً أنها تمتلك الحقيقة الواحدة، إضافة إلى أن مشروعها المضمر للدولة الدينية وفق ما تظهره العديد من الدلالات في محاولات صياغة الدستور وفق هذا الهوى، إضافة إلى دلالات أخرى عدة تكشف أن الانهيار الحتمي سيكون المصير واقرب مما يتصور أحد.
بعيدا إذاً من السيجارة والدخان، ومن أن كتاب بول شاوول سيعيش طويلاً، بينما سينتهي "الإخوان" يوماً، كما غيرهم من اصحاب المشاريع السلطوية مثلما يعلمنا التاريخ، فإن الحقيقة التي يعلمنا التاريخ إياها أيضاً أن الثورة عمل مستمر لا يهدأ حتى يتحقق إحساس من قاموا بها بأنهم مواطنون أحرار في بلد حر.
الجدية التي قد يقوم بها مثل هذا المواطن بعمله، هي عندي جدية لا تبعث سوى على السخرية، لأنه يقوم بعمله المدهش والعبثي بإخلاص شديد، وبيقين أنه مسؤول عن تخليص العالم من شرور العري والابتذال، وربما سيستغفر في كل مرة تقع عيناه على الجسد العاري قبل أن يغطيه بقلمه، من دون اي اعتبارات أخرى فكرية أو إنسانية.
بمثل هذا اليقين كتب محرر أو أكثر تقريراً خبرياً في الحرية والعدالة عن مصادرة الديوان لأنه "يحرّض على التدخين"، وباليقين نفسه صدر قرار المصادرة، ولعل من وقّع القرار قد فعل ذلك بجبين متقلص من فرط الجدية والإحساس بأهمية القرار في المحافظة على الأخلاق العامة وحماية النشء من التدخين ربما!
متخذ قرار المصادرة، كما هو حال كل قرار مصادرة في الحقيقة، تعبير عن ضحالة ثقافية ولعلها أخلاقية أيضاً، لأن الأصل في الفكر، أن يواجه دائماً بمثله لا بمنعه. وهذا ليس من أدبيات المتأسلمين الجدد ونموذجهم المعاصر ممثلا في جماعة "الإخوان المسلمين"، ولا غيرهم الحقيقة.
إن ما يُضحك في شأن مسح الصور في الصحف باللون الأسود، أنه بينما يمسح صورة، تتوالد في فضاء الإنترنت، مثلا، ألوف الصور الجديدة لكل ما يعتقد أنه مبتذل ولا أخلاقي من صور عارية وافلام جنسية وسوى ذلك، وأنه لا يدرك أن الإنسان يمتلك وعياً بصيرة تمكّنه من الحكم على كل شيء بنفسه، وأنه كإنسان يستوي مع الآخرين، لا يحق له مصادرة المعرفة أو البصيرة عن الآخرين.
كما أن ما يثير السخرية كذلك في قضية منع ديوان بول شاوول، وهو ديوان شعري فني، يمتلئ بالدلالات الشعرية واللغوية والفنية، أنه لا يمكنه أن يدعو شخصا للتدخين ولن يمنع مدخّنا عنه كذلك. فما علاقة التحريض على التدخين بما يقوله شاوول: "يحس أحياناً وهو يشعل السيجارة وكأن أجراساً بعيدة تحترق عليها، وكأن دخاناً عميقاً آتياً من الحفر. والطفولة، والموتى، يتلاشى أمامه وهو جالس وحده يشعل السيجارة من السيجارة. وتحترق وراءه أجراس بعيدة وضباب يطلع من كل الأدوية والأحراش التي عبرها ذات زمن وتولّت الى الأبد". إذ "يبتسم عندما يلتقي البخار المتصاعد من فنجان القهوة الساخن دخان سيجارته. ويبتسم أكثر عندما يتمازجان ويتلاشيان معاً هواء في هواء أو صمتاً في صمت ورحيلاً في رحيل". أو غير ذلك الكثير من أبيات الديوان التي تتأمل الحياة وفكرة الزمن، وتفلسف معنى الوجود من خلف سحب دخان سيجارة، ومن خبرة ارتباط الشاعر بدخانها حزينا، ومتأملا، ومتفكرا في تجارب الذات والآخر.
هنا أصل لأبرر لماذا إن ما يثير الضحك هنا ليس شرا كله؛ أولا لأنه يبين بجلاء تام الضحالة التي يمتلكها تيار يدّعي أنه تيار إصلاحي بينما هو في الواقع تيار سياسي يتغطى بغطاء الدين، وتاليا لأنه يكشف كيف ان جماعة "الإخوان" بعيدة كل البعد عن الفكر والثقافة، ليس لأن اتباعها يكتفون بقراءة الفقه والفكر الديني، فليس لمن يصادر كتاباً شعرياً معرفة لا بالدنيا ولا بالدين في الحقيقة. لكن لأن الجماعة، كما شأنها في كل شيء، تتعامل مع أنصارها بوصفهم أتباعا ينفذون الأوامر بلا مراجعة، وبينها أن يُحدَّد لهم ما يقرأون وما لا يقرأون. لأن القراءة الحقيقية والعميقة للممنوع من النصوص الفقهية والدينية، ولن أقول للفلسفة والفكر والتراث الفكري الغربي، سوف تؤدي غالبا لانفضاض الكثيرين، ممن يمتلكون رغبة حقيقية في المعرفة، عن الجماعة.
لكن ما لا يدركه "الإخوان" أن المجتمع المصري ليس الجماعة، لكي يحدد لها المرشد ما تقرأ وما لا تقرأ. كما أنه عند المصريين، مثله مثل غيره، رجل لا وصاية له على غيره، يستوي مع كل الآخرين وله حق الإنسان نفسه في المعرفة.
وما يُضحك هنا ليس شراً كله أيضاً، لأن مثل هذا الموقف، وغيره الكثير مما تمارسه جماعة "الإخوان: اليوم مما يعرف بـ"أخونة الدولة" من طريق اختيار رؤساء تحرير للصحف المصرية ينتمون إلى الجماعة بشكل أو بآخر، وما تبع ذلك من محاولات لدسّ الصبغة "الإخوانية" في الإعلام مثلما حدث أخيرا في "أخبار الأدب" التي نشرت في عددها الأخير مقولة لكارل ماركس يمدح فيها الرسول، ويعدّه من أعظم الشخصيات التي أنجبتها البشرية، فضلاً عن نشر صورة لماريلين مونرو مع تغطية صدرها! هو العمل الضروري الذي كان من المهم أن يراه الكثيرون ممن كانوا يعتبرون الجماعة يمثلها أنصار الله، وأنهم ضحايا الاعتقال والتعذيب في عهد مبارك، على رغم أن مبارك لم يميز بين خصومه، ففي المعتقل يلقى الكل القدر نفسه من الإهانة والتعذيب، ايا يكن سبب الاعتقال.
الأهم من هذا كله أن "الإخوان" يثبتون الوهم الكبير الذي يعيشون فيه ويصدّقون أن في إمكانهم، بالالتفاف والحيلة وباستخدام شعارات الديموقراطية التي وصلوا بها الى الحكم، أن يثبّتوا نفوذهم، على طريقة "الحزب الوطني" المنحل الممثل للسلطة في مصر خلال العقود الثلاثة الماضية، وبالذهنية نفسها تقريبا، في نهج إدارة الدولة، وفي النظرة الدونية للثقافة، وفي توهم أن السلطة يجب أن تكون وصية على التفكير.
وهذا ما يثير السخرية ايضاً، لأن الثورة التي قامت وأسقطت نظاماً عتيداً في بضعة أيام لم تندلع لأنها تعتقد وهماً أن الديموقراطية هي الانتخابات، التي وصل فيها "الإخوان" إلى الحكم. لا، فالثوار، وكل المطالبين بالحرية والديموقراطية، يدركون أن الانتخابات ليست إلا آلية من آليات تنظيم عملية تداول السلطة وشرعية المعارضة، لكن هذا ليس كل شيء، فلا ديموقراطية بلا حرية، ولا ديموقراطية حقيقية من دون شعب لا يلغي أفراده، ولا ديموقراطية أيضاً من دون أفراد يدركون أنفسهم كشعب واحد. وهذا بعيد تماماً وغائب عن جماعة تنظر بتعال إلى الآخرين، وتتصور وهماً أنها تمتلك الحقيقة الواحدة، إضافة إلى أن مشروعها المضمر للدولة الدينية وفق ما تظهره العديد من الدلالات في محاولات صياغة الدستور وفق هذا الهوى، إضافة إلى دلالات أخرى عدة تكشف أن الانهيار الحتمي سيكون المصير واقرب مما يتصور أحد.
بعيدا إذاً من السيجارة والدخان، ومن أن كتاب بول شاوول سيعيش طويلاً، بينما سينتهي "الإخوان" يوماً، كما غيرهم من اصحاب المشاريع السلطوية مثلما يعلمنا التاريخ، فإن الحقيقة التي يعلمنا التاريخ إياها أيضاً أن الثورة عمل مستمر لا يهدأ حتى يتحقق إحساس من قاموا بها بأنهم مواطنون أحرار في بلد حر.
تعليقات(0)