Sunday, 19 October 2014

{الفكر القومي العربي} article

 
شقاوات الزمن الرديء!
صباح علي الشاهر
 
كلما تأملت فيما يحدث زدت يقيناً أن مقارنة شقاوات أيام زمان بشقاوات زمننا الرديء غير منصفة، رغم التشابه الكبير بينهما في العديد من الأوجه، إلا أن الإختلافات القليلة، والتي رغم قلتها فإنها جوهرية بحيث تبطل المقارنة من الأساس، أو ترجح كفة شقاوات أيام زمان على كفة شقاوات زماننا الرديء .
لعل أول الإختلافات أن شقاوات أيام زمان كانوا أقوياء بذاتهم، إذ حباهم الله بقوّة جسدية وجسارة تؤهلهم لمنازلة أقرانهم، وتقبل الفوز أو الخسارة، أما شقاوات زماننا فهم ضعفاء بأنفسهم، أقوياء بغيرهم، ورغم أنهم لا ينازلون أحداً بذاتهم، وإنما بسواهم من الأتباع والمريدين، إلا أنهم لا يتقبلون الخسارة، مهما كانت فاقعة، فطالما الجرح ليس في جسدهم، فلا يهم أن كثرت الجراح في أجساد غيرهم، ألم يقولوا "أن الجرح لايؤلم سوى صاحبه" !
شقاوات أيام زمان لم يختلفوا عن غيرهم في مستوى معيشتهم، بل هم دون غيرهم، هم جميعاً كانوا من الفئات ما دون المتوسطة، والفقيرة على وجه التحديد، يلبسون ما يلبسه الناس، ويأكلون ما يأكله الناس ، ويعيشون في بيوت لا تختلف عن بيوت أفقر الناس، يجالسون الناس في المقاهي ويخالطونهم في الشوارع والأزقة، ولم يكونوا ليتمايزوا عن غيرهم بشيء، أما شقاوات زماننا هذا فهم فئة متميزة عن سواها في كل شيء، بالمسكن الذي يتسع باستمرار ويأكل ما يجاوره، والملبس الذي ينبغي أن يفرض على الناس المهابة ليس للابسه بل للخرقة التي تلفه، والمأكل على قاعدة الأكل مع معاوية أدسم،  والمركوب، حيث لايسير شقاوة اليوم إلا بموكب مهيب من رباعيات الدفع، وهم لا يخالطون الناس في شارع أو مقهى، أو ناد، وإذا قدر أن يكونوا في مكان ما، فلكي تصورهم كاميرات التلفزة والناس من حولهم تهتف باسمهم، والحماية تدفع بالمتدافعين الراغبين بلمس الذي لا يلمس إلا في الخيال .  
وإذ كان شقاوات الأمس لا يملكون سوى قوت يومهم، فإن شقاوات الزمن الأغبر أصبحوا بين ليلة وضحاها فاحشي الغنى، ينفقون أموالاً لا نفاذ لها، لا يعرف أحد من أين يحصلون عليها، وهم جميعاً بلا عمل، فلا أحد فيهم طبيب يزاول الطب، أو مهندس يزاول الهندسة، أو تاجر يزاول التجارة، أو حرفي أو مهني أو صناعي، كلهم وبلا إستثناء عاطلون ومعطلون، وهم كابن الراوندي يعلم الناس على الصلاة لكنه لا يصلي، يدعون للزهد في حين يسرفون في كل شيء، يدعون للتواضع، وهم أكثر خلق الله كبرا وغروراً، يدعون للأثرة وهم يأكلون مال الله ومال عباده، والأعجب أنهم يطالبون بالمساواة، لكنهم يمدون أكفهم لخلق الله كي يقبلوها.
مهمتهم التي أوكلت إليهم  توزيع البركات على الناس، وتعريفهم بالطريق الموصل إلى الله، والمسالك المؤدية إلى الجنة.. الأمن ليس شغلتهم، هو شغلة غيرهم، وهنيئاً لذاك الذي تصيبه شضية وهو في طريقه من عمله إلى بيته، فهو شهيد، على زوجته أن تزغرد وإبنته أن تصبغ كفيها بالحناء، ويكفيه فخراً أن المبجل سيصلي على جثمانه، مزكياً بهذا طريقه إلى جنات تجري من تحتها الأنهار.
شقاوات أيام زمان ليس من مهامهم توزيع البركات، وهم لا يطمحون حتى بالحصول على حجر في الجنة ، لكنهم يوقنون بالفطرة أن رحمة الله واسعة، وهي ستشملهم حتماً طالما أغاثوا ملهوفاً، وأجاروا خائفاً، وأطعموا جائعاً، وعملوا معروفاً، وأشاعوا الأمان وسط الناس، هكذا فهموا الدين الذي لم يقرأوه في كتاب فقيه، ولا درسوه على يد شيخ.  شغلتهم توفير الأمن والسلامة، ومنع الإعتداء على الغير، وإنصاف الناس، كل الناس، وعدم التجاوز على حقوقهم، يتساوى في هذا متدينهم وعربيدهم، مسلمهم وذميهم، هم لا يئمون الناس في الصلاة، لا يجيدون الكلام، ولا يحسنون الخطابة، لا يدعون العلم، لا علم الدنيا ولا علم الآخرة، لكنهم سباقون لدفع الغائلة عن الناس، تجدهم في الصدارة في الملمات، يتفانون في دفع البلاء عنهم، فهم لمثل هذا وجدوا، وشقاوات الزمان الأغبر يتزينون بزي القتال، ويردسون في  القاعات الفارهة، ويرفعون قبضاتهم أمام الكاميرات، وسط تهليل مريديهم الذين يتمسحون بجلابيبهم.
شقاوات الزمن الماضي يستشيرون غيرهم من ذوي الإختصاص في كل معضلة، لأنهم وإن كانوا حماة الحي إلا أنهم يقرون بقصورهم، فهم لم يدخلوا المكتب، ولم يفكوا الخط، ولا يدعون أنهم جهابذه في الفلك والدين والسياسة والإقتصاد والفلسفة، وعلم الأولين والآخرين، وشقاوات الزمن الرديء يُشيرون ولا يُشارون، يُراجَعون ولا يُراجِعون، لهم القدح المُعلى في كل شيء، وقد زقوا العلم زقا، من دون معلم ولا مدرسة، هو إلهام رباني، وشيء توارثوه.
شقاوات أيام زمان، يوقرون الكبير، ولكل شقي منهم كبير، أو كبار يرجع أو يرجعون إليهم، وشقاوة الزمن الرديء صغار، ولكن لا كبير لهم ..
شقاوات أيام زمان صعدوا إلى مرتبة الشقاوة بجهدهم، وعرقهم المداف بدمهم، وبعد نزالات أمام الناس وليس في غرف مظلمة، كانت بطولاتهم عارية، شفافة، على المكشوف وعلى الملأ، ولم تصنع صنعاً في دهاليز مظلمة، ولأغراض لا علاقة للناس بها، لم يكن شقي الأمس إبن شقي، ولا حفيد شقي، فالشقاوة مثل الزعامة، مثل البطولة، مثل العلم، لاتورث، ولا توّرث، وإنما هي سعي وكسب وتحصيل، وجد وإجتهاد.
وأخيراً فإن شقاوة أيام زمان كانت حقيقة ، أما شقاوة الزمن الرديء فهي كذبة، وخديعة، ومسخرة !  

No comments:

Post a Comment