ساداتُنا رَضِىَ اللهُ عنهم
بقلم المهندس/ يحيى حسين عبد الهادى
(اليوم السابع 6/10/2014)
كل عامٍ وأنتم بخير .. اليوم ليس عيد القوات المسلحة كما تشير التقاويم والأجندات، وإنما هو واحدٌ من أعظم أيام مصر كلها .. ففى مصر بالذات لا تستطيع أن تفصل الجيش عن الشعب .. هما سبيكةٌ واحدةٌ .. هو جيش الشعب .. ليس كمثله جيش .. وهو شعب الجيش .. ليس كمثله شعب.
صباح النصر .. واحدٌ وأربعون عاماً تمر اليوم على واحدٍ من أنبل أيامنا وأطول أيامنا .. يومٍ امتدّ ستة أعوامٍ بدأت مساء التاسع من يونيو 1967 بنزول الملايين من كافة طوائف هذا الشعب فى لحظةٍ واحدةٍ، يُحركهم ضميرهُم الجَمْعى .. يرفضون الهزيمة ويُكلفون أسَدَهُم الجريح بتحقيق النصر .. شئٌ مذهلٌ لا تفعله إلا الشعوب العظيمة .. نحن شعبٌ عظيمٌ يُخبئ تحت سلبياته الكثيرة تحّضُراً وشموخاً .. كان يوماً طويلاً ولكنه كان يوماً عظيماً .. بينما عربة مصابى الحرب تمر فى احتفال الخميس الماضى (تحية لصاحب هذه اللفتة التى تجمع بين الوفاء والذكاء)، مرّ بخاطرى شريطٌ من البطولات والتضحيات التى سجّلَ جمال الغيطانى وعبده مباشر وحمدى الكنيسى ومحمد الشافعى وغيرهم جزءاً ضئيلاً منها .. وأضعاف هذه البطولات التى لم يذكرها شهودها باعتبارها شيئاً عادياً .. شعرتُ أنهم ينوبون عن آلافٍ من الشهداء الذين بذلوا أرواحهم فى هذه المعركة بطُرقٍ شتى .. أقدموا فيها بأنفسهم على الشهادة .. لم يترددوا مع أنهم كانوا شباباً لهم حاضرٌ وأمامهم مستقبلٌ .. لكنهم فضّلوا مصر .. فضّلونا على آبائهم وأمهاتهم وزوجاتهم وأطفالهم الذين كانوا ينتظرونهم .. هؤلاء هم ساداتُنا الحقيقيون .. رضِىَ الله عنهم .. لا أدرى لماذا ألّح على خاطرى أثناء العرض العسكرى هؤلاء الأربعة بالذات من ساداتنا:
سيدنا عويس:
أثناء حرب الاستنزاف كان عويس يعيش فى السويس بلا أهلٍ مع قليلين ممن لم يتم تهجيرهم .. كان قد أتى للسويس منذ عدة سنواتٍ صبياً عمرُه سبعُ سنوات بصحبة بعض أقاربه الصعايدة بحثاً عن الرزق .. بعد النكسة وقد قارب على العشرين ظلّ فى السويس يعيش على قروشٍ قليلةٍ حصيلة شرائه لكميةٍ من الجرجير والليمون من المزارع المحيطة بالسويس ثم بيعها للجنود الذاهبين إلى وحداتهم .. كان قد انضم لعناصر المقاومة التى تعبر القناة من آنٍ لآخر تحت إشراف المخابرات المصرية .. فى أحد الأيام فاجأه قائده بأن يستعد لتنفيذ مهمة .. تململ عويس، إذ لم يكن قد باع حصة اليوم .. فقال له الكابتن غزالى بحسم (عليك أن تختار بين قروش الجرجير وبين الوطن) .. دون ترددٍ اختار الوطن وذهب معهم واستُشهد .. عويس الذى لم يُعطه الوطن أهلاً ولا تعليماً ولا مالاً، اختار الوطن دون أن يشغل نفسه بالكلام الكبير عن تعريف الوطن والانتماء وتبرير التخاذل والرغبة فى الهجرة من هذا البلد (الذى لم يُعطنا شيئاً) كما يقول بعض نشطاء الفضاء الإلكترونى .. هو واحدٌ من هؤلاء المصريين العاديين الذين يعيشون بيننا ويحفظون لهذا البلد ديمومته فى الحرب والسلم.
سيدنا محمد الخبيرى:
كان مُجنداً ريفياً ضمن الكتيبة التى عبرت القناة فى حرب 73 وهاجمت نقطة العدو القوية رقم 149 فى نطاق الجيش الثالث الميدانى .. واستعصت النقطةُ على الاقتحام حوالى خمسة أيامٍ نظراً لوجود مدفع رشاش نصف بوصة يسيطر على طرق الاقتراب كلها ويصيب ويُفشل كل محاولات الاقتحام .. فإذا بهذا الشاب (العادى) ينسى أحلامه وأسرته ومستقبله ويزحف على بطنه حاملاً قاذف اللهب صاعداً إلى أعلى النقطة الحصينة ويُلقى بنفسه على مزغل (فتحة) الرشاش مُفرغاً حمولته من النابالم فتشتعل النقطة ويتساقط مَن فيها قتلى ويستسلم الباقون اختناقاً وتسقط النقطة ويسقط هو شهيداً بعد أن تلقى مئات الطلقات.
سيدنا اللغم البشرى:
روى عبده مباشر قصته فى كتابه ولم يذكُر لنا اسمه .. كان من بين المجموعات الأولى من رجال الصاعقة وأطقم الصواريخ والمدفعية الخفيفة المضادة للدبابات التى عبرت القناة قبل بدء الاقتحام الشامل .. كانت مهمتهم العمل خلف خطوط العدو لإيقاف تقدم احتياطياته عندما يعبر مُشاتُنا القناة إلى أن تعبر مدرعاتُنا .. وكان سيدُنا من رجال الصاعقة .. اشترك مع مجموعته فى المهمة .. أوقفوا طوابير العدو المدرعة ومنعوها من المرور .. وسقط منهم شهداء ولكنهم استمروا .. ونفدت ذخيرته .. فإذا بطابورٍ مدرعٍ جديدٍ يبدأ فى التقدم .. لم يكن هناك وقتٌ للتزود بمزيدٍ من القذائف وقد أصبحت الدبابة الأولى على مسافة عشرات الأمتار فقط، فهل يتركها تمر؟ لقد أدى دوره وواجبه ولم يعُد فى استطاعته أن يقدم شيئاً .. لا .. كان لا يزال لديه ما يُقدمه .. زَحَفَ فوق الأرض حتى لا يراه العدو المتقدم .. وَضَع فوق ظهره لغماً مضاداً للدبابات واستمر فى الزحف حتى أصبح يسُدّ بجسده طريق تقدم الدبابة الأولى .. سحقته الدبابةُ وانفجرت .. وعندما وصلتنا قصته كان اسمه قد سقط لينضم إلى رفاقه الذين لا نعرفهم ولكن الله يعرفهم كما قال عمر بن الخطاب رضى الله عنه.
سيدنا إبراهيم الرفاعى:
يُلقّب بأمير الشهداء .. وكلُهم أُمراء .. كان قائد المجموعة 39 قتال .. كل فردٍ من أبطالها قصةٌ تستحق أن تُروى .. مجموعةٌ نذرت حياتها من أجل مصر .. يُحكى أن مزاحه مع أى فردٍ من افراد المجموعة كان بأن ينزع فتيل إحدي القنابل اليدويه ويقذفها إليه وعلى المقاتل أن يُسرع بالتخلص منها وإلقائها إلي مكانٍ بعيدٍ قبل مرور اربع ثوان وإلا انفجرت .. كانوا يتدربون علي كيفية الموت وألا يموت الفرد قبل أن يأخذ معه عشرةً من أرواح العدو على الأقل ثمناً لروحه .. كانت أول عمليات هذه المجموعة نسف قطار للعدو ثم نسف مخازن الذخيرة التى تركتها قواتنا عند انسحابها من معارك 1967 .. كان ذلك عند الشيخ زويد .. ولم يخطر ببالهم يومها أن نفس المنطقة التى شهدت بطولتهم ضد الصهاينة ستشهد اعتداء بعض المتنطعين الإرهابيين من بنى جلدتهم على زملائهم من أبطال الجيش المصرى .. والحمد لله الذى اصطفاهم إلى رحابه قبل أن يشهدوا هذه الفجيعة.
أما عن استشهاده، فأنقل هنا رواية الرقيب أول صاعقة بحرية/على أحمد أبو الحسن أحد أبطال المجموعة 39 والحاصل على وسام نجمة سيناء بنّص ألفاظه (كنا بعد كل عمليةٍ نشعر كأننا وُلِدنا من جديد، فننزل أجازة .. ولكن بعد إحدى عملياتنا بعد الثغرة عُدنا إلي مقرّنا وبدلاً من الحصول علي أجازةٍ وجدنا الرفاعي وقد سبَقَنا .. وكانت الأوامر أن نعود مرة أخرى إلي الإسماعيلية .. ودخلنا الإسماعيلية ورأينا الأهوال مما كان يفعله الإسرائيليون بجنودنا من الذبح وفتح البطون والعبور فوق الجثث بالدبابات .. وكان العائدون من الثغرة يسألوننا أنتم رايحين فين وكنا نسأل أنفسنا هذا السؤال .. وجاء الأمر لنا بأن نعود إلى فايد مرةً أخرى فعُدنا .. وودّعنا بعضنا قبل الدخول لأننا أيقننا أننا داخلين علي الموت .. ودخلت سياراتنا تحت الشجر وترجّلنا ومعنا أسلحتنا .. وقررنا أن نفعل شيئاً ذا قيمةٍ قبل أن نموت .. وفوجئ اليهود بما ليس في بالهم وبدأنا في التدمير و"هجنا هياج الموت" وصعد أربعةٌ منا فوق قواعد الصواريخ وكان الرفاعي من ضمننا وبدأنا في ضرب دبابات العدو وبدأوا هم يبحثون عن قائدنا حتى لاحظوا أن الرفاعي يُعلّق برقبته ثلاثة أجهزة اتصال فعرفوا أنه القائد وأخرجوا مجموعةً كاملةً من المدفعية .. ورأيناهم فقفزتُ من فوق قاعدة الصواريخ وقفز زملائي ولم يقفز الرفاعي .. وحاولتُ أن أسحب يدَه ليقفز ولكنه (زغدني) ورفض أن يقفز .. وظل يضرب في الإسرائيليين حتى أصابته طلقة .. فأنزلناه وطلبنا باللاسلكى أن تحضر لنا سيارةٌ لنقله .. وسَمِعَنا اليهود وعرفوا الخبر وكانت فرحتهم لا توصف حتى أنهم أطلقوا الهاونات الكاشفة احتفالاً بالمناسبة .. وذهبنا به لمستشفي الجلاء وكانت الدماء تملأ صدره .. وحضر الطبيب وقال لنا (أدخلوا أبوكم) فأدخلناه غرفة العمليات ورفضنا أن نخرج فنهرَنا الطبيبُ .. فطلبنا منه أن ننظر إليه قبل أن نخرج فقال أمامكم دقيقة واحدة فدخلنا إليه وقبّلتُه في جبهته وأخذت مسدسه ومفاتيحه ومحفظته .. وعندما عَلِمنا أن الرفاعي استشهد لم نستطع أن نتماسك .. وكان يوم جمعة يوم 23 رمضان وكان صائماً .. فقد كان يأمرنا بالإفطار ويرفضُ أن يفطر .. وقد تسلمنا جثته بعد ثلاثة أيام .. وفي حياتنا لم نر ميتاً يظل جسمُه دافئاً بعد وفاته بثلاثة أيام وتنبعث منه رائحة المسك.. رحمه الله) .. هكذا قال أحد مرؤوسيه أبو الحسن.
رَحِمَ اللهُ كل ساداتنا من الشهداء الذين ماتوا لنعيش .. وعانت أسرُهم بعدهم لِتَنْعَمَ أُسرُنا .. ورَضِىَ الله عنهم وأرضاهم .. وجزاهم عن مصر خير الجزاء.
No comments:
Post a Comment