الهلاميون هم السائدون
صباح علي الشاهر
ربما لست الوحيد الذي يصعب عليه معرفة اليميني من اليساري، القومي من اللاقومي، الوطني من الكومسموبولتي، الرجعي من التقدمي، وهذا لا يعني أنه لايوجد يميني أو يساري، قومي أو شعوبي، رجعي أو تقدمي، لكنني بت أبحث عنهم بالمسطرة والفرجال، وربما إستعنت بالدربيل، فهم وإن بدا أنهم كُثر، لكنهم في الحقيقة أندر من الندرة، ولعل بعضهم، ولا أريد التخصيص مخافة الإتهام بالعداء للشيوعية، أو الوطنية، أو الأمة المجيدة والخالدة، أصبحوا كالكائنات المنقرضة، إلا أن هذه الكائنات التي يُزعم أنها منقرضة موجودة في المتاحف أما هذه النماذج فلم يعد لها وجود حتى في متاحف الشمع التي تهتم بأشباه السبايس كير، والتي لم يعد لها شغل ومنذ أمد بعيد لا بحنون ولا بالحنونيات!
كي لا أتهم بالإنهزامية والتيئيس والعدمية أبين أني أعرف، معرفة شخصية وأكيدة ـ في هذا الزمن الداعرـ أكثر من قومي حقيقي، وأكثر من وطني حقيقي، وأكثر من يساري حقيقي، ومن المؤكد أنه يوجد الكثيرون غيرهم، إذ كما يقولون لو خليت فُنيت، لكنني أشعر بالأسي لهم وعليهم، مثلما أشعر بالأسي لنفسي وعلى نفسي.
قد يقول البعض لكنك تجاهلت الإسلامي ولم تُشر إليه، لكن السؤال الذي يفرض نفسه هنا، هل يوجد أسلاميون أم متأسلمون؟!
قبل ما سُمي بالربيع العربي كنت مُخدوعاً بوجود تيار إسلامي، مثلي في هذا مثل غيري، وكنت مع أولئك الحالمين بإنبثاق مبادرة تأريخية كبرى، تضع حداً للإحتراب والتناحر والعبثية واللاجدوى، ثم تبين أن المتأسلمين ليس لهم من الإسلام سوى اللحية والزبيبة وسمة الوقار المُخادعة. كانت القوى الإسلامية تدعي وتزعم أنها دعوية، إصلاحية وإرشادية، تهتم بإشاعة القيم الإسلامية النبيلة أكثر من إهتمامها بالسياسة، ولعقود إمتهنت النقد للقوى اليسارية والقومية التي قيض لها أن تحكم، أو تشارك في الحكم في مراحل معينة، وبدت صفحتهم بيضاء كبياض لحى مشايخهم ومفتيهم، وفجأة إنكشف المستور، فإذا بالعاملين من أجل الله والدين طلاب مصالح أنانية ضيقة، تفوقوا في جشعهم وطمعهم وإستئثارهم وظلاميتهم وإستبدادهم على كل من سبقهم، وربما على من سيأتي بعدهم، وتغيرت صورة المتدين ورجل الدين من شخصية الزاهد، البسيط المتواضع، السمح القانع، الهاديء المسالم، إلى ذاك المُتغطرس المُتكبر، الـذي يضع نفسه فوق الناس، المُتشدد المُتعصب، النهم الذي لا حدود لطمعه، المُحب للهيمنة والسيطرة والإستئثار، الذي لا يردعه رادع من أجل تحقيق منافعه، المُستعد دونما تردد لقطع رؤوس العباد بعد تكفيرهم، وحرمانهم بفرمان من رحمة الإيمان.
لقد صعد المتأسلمون وهبطو، صعدوا إلى الحكم وهبطوا في سلم القيم والمثل العليا، هبوطاً لن يستطيعوا بعده إنشاد مزاميرهم على أحد.
وليس المتأسلمون وحدهم من إنحدروا، وإنما "القوميون" أيضاً، أولئك الذين غادروا قمة الوحدة وولجوا دهاليز الطائفية والعشائرية، فاصبحوا بين ليلة وضحاها روافض أو نواصب، يرفعون راية "عمر" تارة وراية "علي" تارة أخرى، لقد تذكر بعضهم مظلومية الشيعة، فلبس السواد مُتأخراً، وانخرط في التنطيمات الإسلامية، وتقلد المناصب الهامة، التي لم يتقلد مثلها عندما كان قومياً متشدداً، مؤمناً شديد الإيمان بقيادة الحزب والثورة، وطفق بعضهم يبحث عن أصول إخوته من عرب الوسط العراقي وجنوبه الهندية والصفوية، وبعد أن كان يحاول تعريب غير العرب، فيعيد الكرد إلى "كرد ابن صعصعه"، هاهوذا اليوم يسلب العروبة ممن هم سنام العرب، لقد ترك البعض راية الوحدة والحرية والإشتراكية والتجأ إلى الدروشة ، لقد حول البعض الخطاب القومي الموحِد، الذي يرص الأمة المُجزأة، ويوحد كل العرب بكل طوائفهم، بكل مذاهبهم، بكل أديانهم، إلى خطاب مُفرق ومُشتت، خطاب قزمي متخلف، هزيل ومُضحك، ينبغي أن نكون قد غادرناه منذ أكثر من ألف عام، والأشد غرابة أن هؤلاء مازالوا يعدون أنفسهم حملة راية العروبة والقومية، فهل بعد هذا الضياع من ضياع؟
أما في ساحة اليسار التي كانت واعدة فحدث ولا حرج. لقد إغتال اليساريون العراقيون والعرب اليسار، أماتوه من دونما إعلان لموته.
غريب أمر بعض" يساريي" هـذا الزمن، يتخلون عن اليسار جملة وتفصيلاً، ويطلقونه بالثلاث، ويتحولون للضفة الأخرى، لكنهم يظلون متمسكين بالشكل الذي أفرغوه من محتواه؟
في قلب اليسار العربي تتربع الحركة الشيوعية بكل فصائلها ومسمياتها، ثم تتلوها الحركات الإشتراكية، ثم حركات التحرر المناهضة للإستعمار والتبعية، الداعية للإستقلال الناجز، والتنمية المستدامة، وتلك الداعية للسلم والصداقة بين الشعوب.
أين هي الأحزاب الشيوعية، وأين تقف؟
أين هي حركات التحرر وماذا تبقى منها؟
أين هي الحركات التي تدعوا للإستقلال والتنمية المستدامة ؟
أين هي حركات السلم والتضامن بين الشعوب؟
أين.. وأين.. وأين؟
إضمحلت حركات السلم والتضامن بين الشعوب وتلاشت، وحلت محلها منظمات ومؤسسات بحثية وإعلامية تعمل ليلاً ونهاراً على إشاعة الكراهية بين الشعوب، وتأجيج نار العداوة والبغضاء بين أمم وشعوب المنطقة و بين مكونات كل شعب.. اليوم لا نسمع من يتحدث عن السلم والتضامن ليس بين الشعوب، وإنما حتى بين أفراد الشعب الواحد.
أصبحت إيران صفوية مجوسية، ولا أحد يتحدث عن عمر الخيام، وحافظ شيرازي، وفردوسي، وصادق هدايت، والشهانامه، وأصبحت تركيا عثمانية، ولا أحد يتحدث عن ناظم حكمت، والخطاط العظيم الآمدي، وعزيز ينسين، وعماد الدين نسيمي، ونديم غورسيل، ونامق كمال، كيف يمكن أن نشيع الصداقة بين الشعوب إذا كنا نثير الحقد والبغضاء، وبإصرار مُثير للريبة؟
هل ثمة من يتحدث اليوم عن التحرر والتنمية، أم الكل يتسابق للحديث عن الإنفتاح وإقتصاد السوق وتشجيع الإستثمار الأجنبي، وبيع ما تبقى من قطاع عام أصبح عالة على الأنظمة؟
هل ثمة من يفكر بالإستقلال الناجز والتنمية المستدامة، والكل يقف على أبواب البنك الدولي، ويسعى بإصرار لرهن مقدرات الوطن لمن لايرحم، وهل ثمة بلد عربي مستقل حقيقة، أو في الأقل يملك قراره بيده؟
وأين هي حركات التحرر وقد أصبحت كل أوطاننا محتلة أو شبه محتلة، أو في طريقها لتكون محتلة؟
ثم أين هي الأحزاب الشيوعية من كل هذا؟
هل هي في طليعة المتصدين لهذه الظواهر وغيرها؟
ماهو برنامجها للتصدي للهيمنة الأمريكية؟
هل وقفت بوجه الإحتلال والمحتلين، أم تواطأت معهم، أو هادنتهم؟
ما هو برنامجها لمواجهة بيع البلد، وما موقفها من مساعي تجزأته وتقسيمه؟
تستوجب الإجابه على هذه الأسئلة منح اليسار الرسمي شهادة وفاة بأثر رجعي .
-
No comments:
Post a Comment