Saturday, 27 December 2014

{الفكر القومي العربي} يحيى حسين: عن مكافحة الفساد فى برّ مصر

 
 
 عن مكافحة الفساد فى برّ مصر
بقلم المهندس/ يحيى حسين عبد الهادى
(الأهرام 27/12/2014)
 
يوم الأربعاء 9 ديسمبر أقيم احتفالٌ مهيبٌ بمناسبة اليوم العالمى لمكافحة الفساد حضره السيد رئيس الوزراء وجوقةٌ من المسؤولين يتقدمهم السادة رؤساء الهيئات والجهات الرسمية المسؤولة عن مكافحة الفساد والتى انبثق عنها (اللجنة الوطنية التنسيقية الرئيسية لمكافحة الفساد) والتى يرأسها السيد رئيس الوزراء .. وانبثق عن هذه اللجنة الرئيسية لجنةٌ أخرى فرعية سُميّت (اللجنة الوطنية التنسيقية الفرعية لمكافحة الفساد) يرأسها السيد رئيس هيئة الرقابة الإدارية .. وحتى تاريخه لم تَرِد أى أنباءٍ عن توالد لجانٍ فرعيةٍ أخرى لمكافحة الفساد.
كان العنوان الأبرز لهذه الاحتفالية هو (إطلاق الاستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد 2014- 2018) .. وقد حاولتُ أن أضع يدى على ما يمكن تسميته بالاستراتيجية فيما أُعلن عنه فى هذه الاحتفالية فلم أجد شيئاً إلا كلاماً نظرياً طيباً عن أنواع الفساد وأسباب الفساد وما شابَه ذلك .. ثم تبارى ممثلو الجهات الرقابية فى سرْد إنجازاتهم الكميّة من حيث عدد القضايا التى ضبطوها .. وبقدر ما تُعبّر هذه الأرقامُ الكبيرة عن جهدٍ مشكورٍ ونوايا طيبةٍ بالفعل، إلا أننى أخشى أن يؤدى التسابق على كثرة القضايا إلى تزايد أعداد المظلومين والمُشهّر بهم ظُلماً، فى ظل ما تسرّب للأجهزة الرقابية نفسها من محسوبيةٍ وتوريثٍ للوظائف أدّيا إلى فشلٍ ونقصٍ فى الكفاءة، بل وبعض الفساد، مثلما جرَى على كل مؤسسات الدولة تقريباً فى العشرين عاماً الأخيرة .. إن أوّل خطوات مكافحة الفساد وأصعبها أن تبدأ مؤسسات مكافحة الفساد بإصلاح نفسها والتطهر مما لحق بها، بالتوازى مع استمرار جهودها فى مكافحة الفساد خارجها.
عملياً تحتاج المؤسسات أو الشركات أو الدول إلى أداتيْن رئيسيتين لمكافحة الفساد: القدوة والإجراءات .. وأحسب أن التطور الإيجابى الوحيد فى هذا السياق فى مصر، أن صار لدينا رئيسٌ نحسبه غيرَ فاسدٍ على المستوى الشخصى، وهو تطوّرٌ لو تعلمون عظيمٌ بعدما كان لدينا رئيسٌ لصٌ (بِحُكمٍ قضائىٍ) سطا فى قطرةٍ واحدةٍ مِن بحر فساده على 125 مليون جنيه من المال العام ثم سدّد منها 104 مليون جنيه للتصالح، ولم تُسائله أىٌ مِن الأجهزة الرقابية التى حضرت مؤتمر مكافحة الفساد مِن أين له هذه الملايين التى سدّدها (بافتراض أنه لم يصرف مليماً من راتبه الذى تقاضاه على مدى الثلاثين عاماً من حكمه) .. ولأن أيّاً من هذه الأجهزة لم يُسائله فقد خَرَج علينا أبواقه راقصين ومتبجحين قائلين (قد يكون لصاً لكنه ليس خائناً) وكأن قَدْرَ وقَدَرَ مصر أن تُفاضِلَ بين خائنٍ ولص .. يالتواضع ووضاعة ما يريدونه لمصر .. مصر التى نحلم بها لا ترضى من حيث الطهارة بأقل من أحد العُمَرَيْن رئيساً (والحَدّ الأدنى جمال عبد الناصر).
فيما عدا التطور الإيجابى الذى أشرتُ إليه، فإن واقع مكافحة الفساد لم يتطور خلال السنوات الثلاث التى أعقبت الثورة، بل تدهور (باستثناءاتٍ قليلةٍ) .. فقد بقيت التشريعات التى قنّنت الفساد فى عصر مبارك كما هى .. ولعل كثيرين اندهشوا مثلاً من بقاء قانونٍ يُسقط عقوبة الرشوة بمُضىّ عشر سنواتٍ على وقوعها، وهو القانون الذى أفلَتَ به الرئيس المرتشى أخيراً .. لم تبقَ هذه القوانين الفاسدة فقط ولكن أُضيف إليها المزيد للأسف .. مثل قانون تحصين العقود الحكومية من الطعن عليها إلا من أحد طرفيها (إذا تاب وطَعَن فى نفسه!) .. والكارثةُ أن هذا القانون لا يُلوّث حاضرَنا ومستقبلنا فقط، ولكنه يسرى أيضاً بأثرٍ رجعى .. مما يُعتَبر عفواً شاملاً عن كل مجرمى الخصخصة على سبيل المثال.
لكن مكافحة الفساد لا تتطلب تشريعاتٍ صارمةً فقط من البرلمان القادم، وإنما تتطلب أيضاً اتخاذ إجراءاتٍ فعّالةً وحاسمةً وسريعة التنفيذ دون انتظارٍ إلى ما بعد انتخاب البرلمان.. وعلى سبيل المثال، فإن قرار تحديد الحد الأقصى لدخل الموظف العام من المال العام باثنين وأربعين ألف جنيه، أغلق بضربةٍ واحدةٍ باباً ظل مفتوحاً لمدة عشرين عاماً على الأقل لشفط المال العام إلى جيوب كبار موظفى الدولة، الذين تفننوا فى اصطياد البدلات والمكافآت المليونية من عدة مصادر فى آنٍ واحدٍ.
على نفس المنوال، لماذا لا يَصدُرُ قرارٌ بنشر تشكيلات مجالس الإدارة والجمعيات العمومية للشركات العامة (وهى ليست سراً حربياً) على أحد المواقع الإلكترونية الحكومية؟ .. لكى تتحقق المراقبة الشعبية ويصبح فى مقدور المختصين اكتشاف أى تضاربٍ فى المصالح، وللتحقق مثلاً من صحة ما يُشاع من أن بعض أعضاء أمانة السياسات المُنحلّة قد تم تعيينهم فى المجالس الأخيرة، أو أن أحدهم له شركةٌ خاصة تُنافس الشركة العامة التى يشترك فى إدارتها ويحصد أرباحها.
فى نفس سياق الشفافية، لماذا لا يَصدُرُ قرارٌ بإلزام كل موظفى الإدارة العليا فى الدولة بنشر إقرارات ذِمَمِهم المالية على موقعٍ حكومىٍ متاحٍ للكافة، بحيث يستطيع أى مواطنٍ أن يطعن فى صحة أى إقرار إذا عَلِمَ أن بياناته كاذبة؟ وأظنّ أن ذلك مطلبٌ طبيعىٌ فى ظل دستورٍ يُلزم الموظف الأول فى الدولة (رئيس الجمهورية) بنَشْر إقرار ذمّته المالية فى الجريدة الرسمية.
.
 

No comments:

Post a Comment