Thursday, 15 December 2016

{الفكر القومي العربي} article

عن التأقلم والإندماج ولو متأخراً
صباح علي الشاهر
 
 
في أواخر التسعينات من القرن الماضي ، وبينما كنت جالسا مع صديق لي على مصطبة في أحد باركات لندن، إذا بصديق يهرع صوبنا ملوحاً بشيء أحمر، عندما إقترب منا عرفنا أنه يحمل جوازاً ، كان يصرخ بلغة إنكليزية هي لغة مستجد عليها : ( لقد أصبحت إنكليزيا !) ، وكانت إلى جوارنا عجوز تداعب كلبها ، وإذا بها تنتفض وتصرخ بصاحبنا ، ولا ندري لماذا إستفزها صراخه ، قالت له ما ترجمته حرفياً ( لست إنكليزياً ، ولن تكون ، أنت زبالة في حاوية إسمها بريطانيا ) وقتها لم نكن قد تعرفنا على أي بريطاني عنصري، ولكن على ما يبدو كانت البريطانية العجوز عنصرية، بحيث لم تطق البقاء، فجرت كلبها بعنف، وهذا قلما يحدث، وخرجت وهي تدمدم .
والحقيقة أن صاحبي لم يصبح إنكليزيا ، ولن يصبح أبداً .. إنما هو شخص منح جواز سفر بريطاني، وحاز على المواطنه التي تجعله يعيش بلا قلق وباستقرار وضمان .
وقتها كتبت مقالات متسلسلة في " القدس العربي" عن الهجرة، وركزت على التأقلم والإندماج . كان في نيتي أن أشبع  هذا الأمر بحثاً وتنقيباً ، إلا أن تعاقب الأحداث لم يسمح لي بإكمال ما نويته .
أن تمنح جواز سفر سويدي فهذا لا يعني أنك أصبحت سويدياً ، بل مواطناً في السويد ، وقد تكون من أصول شرقية أو أفريقية أم أمريكية لاتينية ، أو (أوذر) .. نفس الشيء يقال بالنسبة لمن منح جوازا بريطانيا أو المانيا أو فرنسيا .
كل الذي يستطيعه من يأتي دولاً أوروبية بعد أن يكون قد قضى نصف عمره في بلده الأصلي أن يتأقلم، أما أن يندمج فهذا أمر متعذر وإن أدعى البعض أنه أندمج، فهذا ليس سوى وهماً .. فإن تندمج لا يعني أنك تستمع للموسيقى الغربية وأغاني الجاز، ولا أن تكون زبوناً دائميا للـ ( البب) بدلاً عن المقهى،  ولا حتى أن تحضر الحفلات الغنائية والأماسي الشعرية ، فطالما كانت أمك العراقية مثلاً تهزك وأنت في القماط ، وتلولي لك ( دي لي لول يا وليدي دي لي لووول )، وطالما كان أول لحن تسمعه إذناك أنين الناي، أو صوت المؤذن عند الفجر، فإن الإيقاعات المتفرعة من هذا الشجو هي ما يطربك ، وإن إدعيت مكابرة غير هذا.. حتى الجيل الثاني لن يندمج تماماً، ربما الجيل الثالث أو الرابع، والذي ربما ينام على عزف أنامل أمه وهي تضرب على البيانو، ولسنا بحاجة للتدليل على هذا من ملاحظة التجمعات الهندية أو الصينية، وحتى الكاريبية، والتي مضى على إستيطان بعضها خمسة أجيال أو أكثر .
قد تأكل السمك المسقوف بالشوكة والسكين، هذا أمام الآخرين، لكنك عندما تكون لوحدك فلن ترى لطعم المسكوف سوى الأكل بالأصابع، وربما مع البصل الأخضر، يبدو أن المسكوف لن يكون مسكوفاً أذا لم يطيّب على الحطب، وبالطريقة العراقية البغدادية إياها، ويتم تناوله مع الأحباب. رغم أني أكلت المسقوف هنا في لندن، وفي دبي، وفي داتشا في موسكو، وفي مزرعة في بلغاريا، لكنني في الحقيقة تناولت سمكاً مشوياً، ولم أتناول المسقوف قط ، فالمسقوف أكلة عراقية، مادة،  وشواءاً، وتقديما، وطريقة تناول.. نفس الشيء يقال بالنسبة للكباب العراقي الذي ينبغي أن تلفه بالخبز المطيب على التنور، والذي لن تصنعه إلا من ثلاثة أثلاث ، ثلث لحم هبرة بقري ، وثلث لحم ضلوع غنم ، وثلث دهن لية ، لا توجد إلا في الغنم العراقي، غنمنا أبو لية .. 
هل أنا هنا أتحدث عن شكليات، أم عن شيء لا حيلة لنا فيه ؟
في بلاد الغربة يلتحق كل وما جبل عليه، فاليساري يتجه للأحزاب اليسارية، ويقراً الصحف اليسارية أو ذات الصبغة اليسارية، واليميني يتجه للأحزاب اليمينية، ويقرأ الصحف اليمنية أو ذات الصبغة اليمينية .. كل يحاول ترميم ذاته، عبرإختيار أقرب الأمور إلى ما إعتاد عليه وخبره، لكن هذا لا يمنع أن البعض وهو أقل القليل يتحول من اليمين إلى اليسار، ومن اليسار إلى اليمين، متوهماً أنه طالما تغيرت الجغرافية فإن مفاهيم اليمين واليسار تختلف .
نعرف يمينين تحولوا إلى اليسار بفعل أحاسيسهم الإنسانية الطاغية ، من هؤلاء على سبيل المثال، لا الحصر، تولستوي العظيم، الذي إمتلك أراض واسعه، قام بتوزيعها على الفلاحين، وهنا في لندن ( توني بن) اللورد الذي تخلى عن لقبه وكرس حياته للدفاع عن الفئات المسحوقة، ومناصبة الأمبرالية والإحتكاريين العداء، والذي قاد ملايين المتظاهرين اليساريين ضد الحرب، وإحتلال العراق، لكنني قلما أعرف يسارياً تخلى عن اليسارية وإتجه إلى اليمين إلا وأصبح مشوهاً أو نكتة ، أوفي الأقل همش نفسه في عتمة أباطيل الماكنة الإعلامية لأصحاب الكارتيلات . 

No comments:

Post a Comment