عبد الله الشاعر
ما إن تناهى إلى مسامع محبّي الشيخ قاسم انه قد فارق الحياة حتى توافد المريدون والعارفون من كل أرجاء الضفة الغربية إلى مسقط رأسه في بلدة ديرا لغصون في محافظة طول كرم لإلقاء نظرة الوداع عليه قبل أن يوارى الثرى.
بكل عفوية هبّوا..جاءوا يحملون في قلوبهم اللوعة والأسى، وفي عيونهم أسرار يصعب البوح بها..ما الذي حصل؟.تتساءل الدموع والشفاه والحسرات..والأبصار شاخصة حائرة!!
ما الذي حصل أيها القاطنون جوار الشيخ وفي ربوعه؟
أحد المقربين من الشيخ تولى توضيح ما حصل.. فما الذي جرى؟
ما إن انتهى إلى مسامع الشيخ قاسم أن ثمة من يفسد في البلدة حتى سارع إلى إلقاء خطبة الجمعة في المسجد الذي اعتاد أن يؤم الناس فيه مهاجما المفسدين ومطالبا القصاص منهم.
هي آخر خطبه إذن..وهل نحن بحاجة لأكثر من القصاص؟
حين يكثر الخبث الاجتماعي، ويعمّ الفساد السياسيّ، وتنهار منظومة الأمن في المجتمع فلا شيء اشد إلحاحا من القصاص!!
وبجرأة الشيخ الذي لا يخشى في الله لومة لائم اعتلى الشيخ صهوة المنبر وأعلن بكل وضوح موقفه الذي لا يهادن ولا يرضى بالدنية،ونادى بضرورة المحاسبة والمساءلة دونما نفاق أو تضليل أو خديعة.
هي آخر كلماته قبل أن يعود إلى البيت ويوصي أهله بإيقاظه قبل أذان العصر حتى يذهب للصلاة بالناس.
هما ساعتان أو اقل حتى يهمّ الأهل بإيقاظه فإذا به قد فارق الحياة..قاسم قاسم..ليس ثمة صوت أو حركة أو نفس..لا شيء سوى وجهٍ يشي بالطمأنينة والرضي، وابتسامة تعلو المحيّا.
هو قاسم يرتحل الآن على عجل..فلا القضاء يستمع لرجائنا ولا لدموعنا يلتفت القدر!!
كم مرة أوجعته لهفة المنتظرين خلف السياج، أو أولئك الذين يتخطفهم الموت ورصاص القناصة!
اعتلى صهوة المنابر وصرخ بأعلى صوته ضد اؤلئك الذين أرادوا غسل يد الاحتلال من دمنا..صرخ بملء يقينه ضد صبيان الفقه الأمني المشبوه.. وعرّى كل رويبضة جاء يغتصب الإمارة ويتحدث في شؤون العامة.
كان حضوره ملء الشمس ليضيء العتمة في قلوبنا وعقولنا..ومسيرات امة تعثرت مع الزمن ولم تعد تدرك موضع خطاها!
إيه أبا يحيى،أيها الراسخ في العلم والثورية وحب المساكين..
أيها الساخر من حركات تستنفذ كل (ترسانتها) في الطعن والتنابز والتناحر على أنقاض وطن تقضمه الدبابات ولم تترك لأصحابه غير العنتريات والاقتتال فيما بينهم..وقد قبلوا المهمة!!
يا زاهدا لم تخدعه متع الحياة ولا زخارفها..عرفتك قانتا لله ولم تك من الخانعين..كلما تذكرت محاضراتك في سجن النقب أدركت تلك العظمة التي تسكنك..وعرفت تلك الروح التي كانت عجينة صمودك وكبريائك الذي لا يحدّ.
كان الجميع يتحلّق حوله وهم في كامل شغفهم وتشوقهم وتعطشهم لعلمٍ وفكرٍ كان الشهيد سيد قطب ابرز الحاضرين فيه.
لقد كان مدهشا بحق لاسيما وهو يستحضر آيات الكتاب التي حفظها عن ظهر قلب ويربط بينها ربطا يأخذ بالألباب لتتذوق معه جمال النص القرآني وروعته..وحين يحدثك في فروع الدين الأخرى تجد نفسك إمام عالم بحق فتح الله عليه من خزائن علمه لينهل منها كيفما يشاء.
حين التقيته في الأسر عام 1995 كان برفقته الاسير المحرر أسامه برهم وهو الذي عايش الشيخ قاسم سنوات عديدة في الأسر..وهو الذي خبر الشيخ عن قرب وكان يعلم مدى صلابته ورباطة جأشه..
كان يعلم أن هذا الشيخ الذي حفظ القرآن خلال شهر، وحفظ آلاف الأحاديث النبوية الشريفة، وقرا العديد من كتب التفسير وحفظ معظم ما قاله الشهيد سيد قطب لا بد وان يكون القائد الفذ والمفكر الذي سيترك بصماته الواضحة في المكتبة الإسلامية المعاصرة..
وهذا ما تم بالفعل حيث كتب الشيخ الراحل العديد من الدراسات السياسية والفكرية والدعوية.
حين سافر الشيخ في بداية حياته الدراسية إلى بغداد لدراسة الهندسة لم يطل به المقام هناك فارتحل قاصدا تركيا لدراسة الطب لكنه وفور عودته لفلسطين سارع الاحتلال لاعتقاله ليمكث في الأسر بضع سنين وليلتحق بالدراسة في جامعة النجاح الوطنية ويحصل خلال زمن قياسي على شهادتي البكالوريوس والماجستير وبتفوق لم تعهده الجامعة من قبل.. ليكمل بعد ذلك رحلته العلمية حتى حصل على شهادة الدكتوراه في الشريعة الإسلامية ويعمل مدرسا في جامعة القدس المفتوحة، لينعم في التتلمذ على يديه آلاف الطلبة والباحثين.
حين وقف الأسير المحرر الشيخ خضر عدنان ليلقي كلمة رثاء ووفاء للشيخ كان يخاطبه خطاب التلميذ لأستاذه..كان خضر يدرك مكانة الراحل وأثره الفكري..وكذا كان كل فرسان الحركة ومحبّوها.. لذلك قال الشيخ خضر: وكأني استمع لنحيب الأسرى في الزنازين.. وكأني أبصر الوجنات يخضبها الدمع على الفراق.. ولا غرابة أن يبكي الفرسان حين يرتحل العظماء.
أبا يحيى سلاما وإلى لقاء إن شاء الله في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
* الشيخ قاسم هو شقيق الدكتور عبد الستار قاسم من بلدة دير الغصون في محافظة طول كرم
No comments:
Post a Comment