مقاربة لجغراسياسية مكان: ( إشكالية الوطني والقومي )
صباح علي الشاهر
ربما تكون بلداننا العربية هي الوحيدة بين دول العالم المعاصر، التي تعيش حالة من الضبابية بين ما هو وطني وما هو قومي، والأنكى أن يحدث تضاد وتصارع بين الوطنية والقومية ، فالفرنسي لا يشعر أن ثمة فرق بين أن يكون الفرنسي وطنياً وقومياً في آن معاً، وكذلك الأمر بالنسبة للصيني والأمريكي والروسي والهندي، وأظن أن هذا الأمر يسري على بلاد خلق الله كلها، مع إستثناءات طفيفة تتعلق بتلك الأمم التي ما زالت مُبعثرة بين أوطان عديدة، ولم تفلح بعد في تشكيل وطن لها، كالأمة الكردية مثلاً، لذا فلا فرق عندهم بين الأمن القومي أو الوطني ، الإقتصاد القومي أو الوطني، التنمية القومية أو التنمية الوطنية، المصالح القومية أو المصالح الوطنية ، فالمصطلحان في النهاية يشيران إلى شيء واحد، ألا وهو الوطن الشاخص المُحدد، وبغض النظر عن كون هذا الوطن يتشكل من أمة واحده، أو أمة سائدة، أو عدة أمم، وبغض النظر عن كون هذا الوطن يمتد عميقاً في أحشاء التأريخ، أو وطناً مُستحدثاً لا وجود له قبل بضعة مئات، أو بضع عشرات، من السنين مثلاً، لاحظوا أن هذه الأوطان المُستحدثة هي الأوطان الأشد تمسكاً بالمصطلح القومي، والأكثر إستعمالاً له، فعندهم المصالح القومية، والأمن القومي، والإقتصاد القومي، والثقافة القومية، ليس هذا فحسب بل أنهم يكررون دونما ملل الحديث عن الأمة، التي لا وجود لها ( الأمة الأمريكية) ، التي هي مجموعة شعوب مُستجلبه من شتى أنحاء المعمورة، معتقدين أنها ( أي الأمة الأمريكية) في دور الصيرورة الحتمية، وأن مهمتهم إنضاج هذه الصيرورة، ولسنا في مجال لومهم، فقد إتجهوا الإتجاه الصحيح، الذي لو نجحوا فيه فإنهم سوف يقدمون خدمة للبشرية، توازي أو تتفوق على ما قدموه من خدمة في مجال العلم والتكنولوجيا، لكننا نميل إلى أنهم سوف لن يفلحوا في هذا، قد يحافظون على الوطن الموّحد، القوي والمزدهر، إلى أبعد مرحلة ممكنة، وقد ينجحوا في تكرّيس مفهوم المواطنة الأمريكية، لكنهم لن يخلقوا أمة أميركية، فالأمم لا تُخلق عبر عملية متواصلة من الإندماج العفوي ظاهرياً، والقسري فعلياً، وحيث أنهم ليسوا في وارد الصهر القومي والأثني الذي ما عاد يسمح به عصرنا الحديث، فإن إنبثاق أمة أمريكية بهذا المعنى يبدو متعذراً إن لم يكن مستحيلاً، إن ما هو موجود حالياً في أمريكا إنما هو شعوب أمريكية، لم تتحوّل بعد إلى شعب واحد، شعوب تتكلم لغات عدّة، وهي من أجناس وأعراق مختلفة، وأديان ومذاهب وعقائد لا حصر لها، وتنحدر من خلفيات وثقافات مختلفة، وهذا التنوع ليس مصدر ضعف لها، وإنما مصدر غنى، لكنه ليس أرضية مناسبة لإنبثاق أمة ، أما ما يجري في تلك الدويلة اللقيطة من محاولة خلق أمة على أساس ديني فهو والخرافة صنوان، فالأمة لا تتشكل من عنصر الدين فقط، ولا حتى اللغة والدين معاً، ولا التأريخ والثقافة، وإنما أيضا العيش المشترك، والجغرافية الموحدة، والمصير المشترك، وكل هذا مجتمعاً يفعل فعله في صيرورة تأريخية ممتدة عبر مرحلة زمانية مديدة .
أكثر التعابير لؤماً، القول بإننا – نحن العرب- شعوب ناطقة باللغة العربية، بمعنى إننا مثل تلك الشعوب الناطقة بالفرنسية ( الفرانكوفونية ) الأفريقي، والجنوب آسيوي، أو الناطقة بالإنكليزية ( دول الكومونولف البريطاني ) أو الناطقة بالروسية ( كومونولف الدول المستقلة )، لكن الناطقين بالفرنسة من الفرانكوفونية ليسوا فرنسين ، والناطقين باللغة الإنكليزية من الكومونولف البريطاني ليسوا إنكليز، كذلك الناطقين باللغة العربية ليسوا حكماً عرباً، فمنهم الترك، والفرس، والكرد، والهنود، والأفغان، وفي كل بقعة من بقاع العالم ثمة من يتقن العربية ويخدمها، لأنه يعتقد أن بخدمتها خدمة لدينه الإسلامي، وهؤلاء وإن كانوا مسلمين ينطقون العربية، لكنهم ليسوا عرباً، أما سكان الجغرافية العربية فهم ليسوا عرباً لأنهم ناطقين باللغة العربية، وإنما لأنهم عرب.
عرب يتوزعون على أكثر من عشرين وطن، يتقاسمون غرب آسيا وشمال أفريقيا، وينبثون في كل أرجاء العالم، في هجرة إختيارية أو قسرية، ممتدة منذ الإبتلاء بالإستعمار، وإلى ما يشاء الله .
الألمان، أمة في وطن اسمه ألمانيا، والفرنسيين أمه في وطن اسمه فرنسا، وكذلك الروس والهنود، والصينيين، وغيرهم ، لذا فقد تطابق عندهم الوطني والقومي، وهم يسعون لمد نفوذهم تارة باسم الفرانكوفونية بالنسبة لفرنسا، أو الكومونولف البريطاني بالنسبة للبريطانين ، او كومونولف الدول المستقلة بالنسبة للروس، أما الأمريكان فهم يجهدون دونما كلل من أجل خلق أمة، أما نحن فأمة حائرة بين الوطن القومي المنشود، ووطن واقع الحال القائم، والفعلي الملموس، الذي هو جزء من وطن الحلم المنشود.
نحن الأمة الوحيدة، الضائعة بين ما هو قومي وما هو وطني.
يخيّل لي أن القوميين هم أول من أساء للقومية، عندما أدلجوها . القومية ليست أيدولوجيا، ولا عقيدة. الأيدلوجيا، وكذا العقيدة ، يمكن أن تؤمن بها اليوم، وتغادرها غداً، أو تتخلى عنها وقتما تتوفر لك قناعات أخرى مختلفة، أما فيما يتعلق بالقومية فأنت لا تستطيع الخروج من جلدك، وإلا أصبحت شيئاً آخر، غير ما أنت عليه.
القومية ليست الإشتراكية، ولا العدالة الإجتماعية، لا الرأسمالية، ولا الإقطاعية، القومية مثلما الوطنية هي هوية، تلتصق بالمرء رغماً عنه، تلازمة من المهد إلى اللحد، حتى لو تخلى عنها، فسيظل موسوماً بها، أقصى ما يمكن أن يقال عنه لو إندمج في بلاد الإغتراب، إنه بريطاني من اصول عربية، أو هندية، أو فارسية، أو تركية، ربما ستكتمل مواطنة الجيل الثالث والرابع، بعد أن تكون كل الحبال قد إنقطعت، وبعد أن تناغي الجدّة حفيدها بلغة صافية، إنكليزية، أو فرنسية، أو ألمانية، لا لكنة فيها.
ربما يضع القوميون المتحمسون خطط وبرامج لنهضة الأمة، أو توحيدها بإعتبارهم مناضلون من أجل أن يكون للأمة موقعها بين الأمم، لكن خططهم هذه وبرامجهم، ليست هي القومية، وإنما هي وسائل وطرق لنهضتها، وهي تدخل في باب الحراك السياسي، وعليه فلا يمكن لأحد أن يطرد أحد من فضاء العروبة لأنه لايؤمن بالبرامج والخطط لهذا التنظيم القومي أو ذاك، الكل يمكنه التحدث عن العروبة والقومية، ولكن لا يحق لأحد أن يحتكر تمثيلها، كائن من كان .
القومية أبسط كثيراً من كل تنظير، أنها واقع حال، وهوية لبشر، موسومين بكونهم عرب أو كرد، فرس أو ترك إلخ.
لا تحاج القومية إلى فلسفة، ولا لعلم جمال خاص، ولا لنظرية تُصطنع أصطناعاً، فالفلسفة والنظرية تتسمان بالكونية، المسلمون لم يعرفوا أنهم مسلمون بعد ظهور الفلسفة الإسلامية ، ولا الألمان عرفوا أنهم ألمان بعد ظهور الفلاسفة الألمان، فدائرة بحث الفلسفة والفلاسفة أشمل من كل أمة ودين، ومرحلة تأريخية، أنها دائرة شاملة مكانياً وزمانياً، تتجاوز البشر، وحتى الطبيعة، وتبحث ماوراء الطبيعة .
وبعيداً عن المجاملات، فالعروبة مثلاً لا ترتبط بدين أو مذهب، فكل الأديان والمذاهب، والأيدلوجيات والعقائد، ضمن عباءة العروبة، تحتويها وتعبر عنها، وتمثلها، ومثلما هي الوطنية فكذلك القومية، هي كالبداهة الأولى، فلا تثقلوها بلغو الكلام، وأبحثوا عن وسائل وطرق إنهاض الأمة ووحدتها، وعليكم بردم الهوة المفتعلة ما بين ما هو وطني وما هوقومي ، إذ كلما هو وطني حقيقي، هو قومي بالضرورة، والعكس صحيح.
-يتبع-
No comments:
Post a Comment