حيث تلاحم السياسي والإبداعي
صباح علي الشاهر
مابعد الحرب العالمية الثانية وحتى أواخر الخمسينات من القرن الماضي ( القرن العشرين) تعاظم المد الوطني والقومي في العراق، وتعاظم دور الأحزاب الوطنية، وشهدت هذه الفترة إشتداد الصراعات الإجتماعية – السياسية بين النظام الملكي شبه الإقطاعي، وحليفته الكولونيالية البريطانية من جهة ، والحركة الوطنية الديمقراطية، بكل فصائلها، من جهة أخرى .
وقد تتالت الإنتفاضات والمظاهرات التي هزّت النظام ، مثل وثبة كانون عام 1948، وإنتفاضة عام 1952 ، وعام 1954، وعام 1956، وسالت دماء المتظاهرين في ساحات وشوارع ومعاهد بغداد والمدن العراقية الأخرى، وبذلك تضاعفت نقمة الشعب ضد الحكم الملكي الإستبدادي المرتبط بالإستعمار، كما شهدت أرياف العراق إنتفاضات فلاحية دموية متتالية ، فقد تجسد الظلم بأقصى اشكاله في الريف ( حيث بلغ الدخل السنوي للعائلة الفلاحية 10 دنانير، واستحوذ 2% من كبار الملاكين على 68% من مساحة الأراضي الصالحة للزراعة ) ، راجع د. مكرم الطالباني في كتابه ( في سبيل إصلاح زراعي جذري في العراق) الصادر عن مطبعة الرواد في بغدادعام 1975 ص15 .
وترافق مع هذا تصاعد الإضرابات العمالية في المحتشدات العماليّة كإضراب عمال النفط ( كاورباغي) ، وإضرابات عمال الميناء والسكك الحديدية، وغيرها، وإزاء تضعضع موقع السلطة فقد سلطت الحكومة إرهاباً أسود ضد الشعب وطليعته المثقفة حيث زجت المئات من خيرة المثقفين في السجون، ونفت خيرتهم ، أو أجبرتهم على مغادرة العراق، وأسقطت جنسية البعض الآخر، واستعملت إسلوب التصفية الجسدية ضد الناشطين السياسين، وعلى سبيل المثال فقد إختطفت أجهزة الأمن العراقية المبدع القاص عبد الرزاق الشيخ علي في أواسط الخمسينات، ولم يظهر له أي أثر بعدئذ، حيث قامت هذه الأجهزة القمعية بتصفيته وتضييع أثره كلياً ، ووصل الغباء بالسطة إلى أنها أصدرت قانوناً يحرّم ويجرّم الإنتساب إلى حركة أنصار السلام، علماً أن هذه الحركة التي ضمت ابرز الفعاليات الإبداعية والعلمية كالجواهري الكبير والشيخ عبد الكريم الماشطة والشاعر كاظم السماوي والشخصية الوطنية عزيز شريف، والمئات من خيرة أبناء الشعب ترتبط بحركة عالمية جبارة يقودها عظماء مثل العالم الشهير جوليو كوري، وزوجته العالمة مدام كوري، والفنان العالمي بيكاسو، وشاعر تركيا الكبير ناظم حكمت.
لقد كُبل إستقلال العراق بمعاهدة بورتسموث، وأدخل رغم إرادة شعبه في حلف بغداد سيء الصيت، وعُزل قسراً عن محيطه العربي، وأستغل الأجانب خيراته وأهمها النفط، وكان للإستعمار الإنكليزي وجوداً عسكرياً حاكماً في قاعدتي الحبانية، والشعيبة، اللتان يُحرّم على غير الإنكليز الدخول إليهما، وربطت عملته (الدينار) بالنظام الإسترليني .
ولم تكن الحكومة الملكية مستقرة طيلة وجودها فقد ( تألفت في العهد الملكي منذ 52 تشرين الأول عام 1920، وحتى ثورة 14 تموز- يوليو 1958 ، (59) وزارة شارك فيها ( 157) وزيراً ، و( 21) رئيس وزراة، لا حظ ( تأريخ الوزارات العراقية) لعبد الرزاق الحسني- بيروت 1974، الجزء العاشر ، ص 316.
وهذا يبين خرافة الإدعاء بالإستقرار والإستمرارية، فلا يمكن الحديث عن الإستقرار في بلد إذا كانت الوزارة فيه تسقط أو تتبدل مرتين في السنة تقريباً كمعدل، ولا يمكن الحديث عن الإستمرارية إذا عرفنا أن البلد خلال هذه الفترة تعرض إلى العديد من الهزات والهبّات الشعبيّة، والإنقلابات كأنقلابي بكر صدقي، ورشيد عالي الكيلاني، وهما إنقلابان إنبثقا من قيادات السلطة العليا، وكان توجههما العام ضد الإستعمار البريطاني، وبالتالي ضد التبعيّة، أكثر من كونهما ضد القصر مثلاً، إضافة إلى المؤامرات المتواصلة والصراعات بين أقطاب النظام الحاكم ، والتي لم تتسم بالدموية، لكنها كانت إقصائية بإمتياز، يضاف ألى هذا إنقلابات القصر التي برع بها الأمير الإله، ولـتأكيد خرافة الإستقرار نبين أن أطول الوزارات عمراً إستمرت أقل من عامين ( وزارة نوي السعيد) ، وأقصرها إستمرت يوماً واحداً ( وزارة المدفعي) ، كما أن الأحكام العرفية قد أعلنت 16 مرّه خلال هذه الفترة، ومن المعروف أن الأحكام العرفية لا تعلن في بلد يشهد إستقراراً .
وإذ يتآكل تأثير السلطة، وتضعف هيمنتها، ويشل ذراعها الضارب، بحكم إتساع رقعة الناقمين والمعارضين وإذ يتآكل رصيد القصر الذي كان يعتمد اساساً على شعبية الملك غازي، الذي أغتيل حسب اعتقاد الأغلبية الساحقة من الناس، يتزايد أستعداد الناس للتضحية، وبالترافق مع هذا النهوض الجماهيري، شهد العراق إنجازاً كبيراً للحركة الوطنية التحررية العراقية، حيث إنبثقت جبهة الإتحاد الوطني كإطار جامع للحركة الوطنية العراقية، ضمت جميع الإحزاب العراقية، بإستثناء الحزب الديمقراطي الكردستاني الذي عقد تحالفا ثانويا مع الحزب الشيوعي العراقي، الذي كان أحد أحزاب الجبهة الرئيسيين، ولم تقتصر الجبهة الوطنية على الأحزاب الفاعلة بل ضمت المنظمات المهنية والنقابية، والوجوه الوطنية والفعاليات كافة، وبالتالي فقد أضحى إنتقال الحالة العراقية إلى الحالة الثورية مسألة وقت ليس إلا.
لقد أدى الصراع المشتد والمُحتدم بين الشعب بكل فئاته، ومستعبديه إلى تعميق رؤية الأديب النقدية للحقيقة الإجتماعية الراهنة والشاخصة، والتي تلمسها بوعي منفتح ثم تعامل معها إبداعياً، مما دفعه للإنصراف إلى كتابة نصوص إبداعية تتناول أحداثاً سياسية وظواهر إجتماعية ، من دونما مباشرة سمجة أو تقريرية تفتقر إلى الجمالية الإبداعية، لقد أنتجوا إبداعاً في مجال النثر والشعر تلاحم فيه الشكل والمحتوى ، مما جعله يصل إلى مستهلكيه ويؤثر فيهم. لقد وظف المبدع العراقي معارفه لخدمة قضايا الشعب الملحّة، ولعب بذلك دوراً طليعياً بارزاً، وتفوق في كثير من الأحيان على دور السياسي المنشغل بالنضال، ( أن التطور الكبير الذي حدث على أدبنا وفننا في أوائل الأربعينيات ، والذي تبلور في نهاية الأربعينيات وأوائل الخمسنيات، لم يأت بمعزل عن ذلك النضال الملهم الذي خاضه شعبنا بكل قواه وفئاته الوطنية، إن تصاعد النضال الوطني التحرري ، وشيوع الفكر العلمي التقدمي، ونهوض التنظيمات السياسية وقيادتها للشارع، وسيطرتها عليه، ووضوح الهدف الذي يجري النضال على هداه ، قد فعل فعله الذي لا يمكن تجاهله في تقدم الأدب والفن إلى رحاب أوسع وأشمل وأكثر غنى) – صباح علي الشاهر – دور الحزب في الأدب والفن العراقي – الثقافة الجديدة – آذار 1978 عدد103 ص97.
في هذه المرحلة تطورت القصة القصيرة بحيث إحتلت موقع الريادة في العالم العربي، ولم يعد الواقع المرئي وحده مادة القص لدى جيل هذه الحقبة، وإنما وضعوا في مقدمة إهتماماتهم أوضاع الشخوص النفسية ومشاعرهم وتصوراتهم الناتجة عن معايشتهم لهذا الواقع والإرتباط به، وحاولوا أن يجيبوا في أعمالهم الإبداعية عن مسألة العلاقة المتبادلة بين جماليات العمل الإبداعي وموضوعه وشخوصه ، والظرف التأريخي الذي يعيشون فيه، ولم يكن التطور مقتصراً على القصة فقط، بل شمل العديد من المجالات الفنية وبالأخص الشعر، حيث أحدث رائد التجديد الشعري بدر شاكر السياب تغييراً جذرياً في بنيّة القصيدة وموضوعها وحركتها، وبرزت في المجال التشكيلي مجموعات بحث وتجريب وإكتشاف للواقع وللتأريخ العراقي ، ولقدرات اللون، وطاقة اللوحة على التعبير، حيث تشكلت ( جماعة الرواد) عام 1950، وجماعة ( بغداد للفن الحديث) عام 1051 ، التي إلتفت حول الفنان العظيم جواد سليم ، وظهرت عام 1952 جماعة الإنطباعيين التي إلتفت حول الفنان الكبير حافظ الدروبي . لقد عكست هذه المجموعات تنوعاً في الأساليب ، ورغبة في التجريب الواعي لتقنيات الرسم الحديث، وكانت هذه المجموعات تعبير عن إتجاه الفنانين لمعرفة وإكتشاف واقع وطنهم وطبيعته وتأريخه، والتعامل الإبداعي مع هذه المعرفة وهذا الإكتشاف .
وللحديث صلة
No comments:
Post a Comment