مغادرة ضفة الإحتراب
صباح علي الشاهر
من آمرلي مروراً بالضلوعية وجرف الصخر ( جرف النصر) ، وليس إنتهاءاً بجبهة تكريت وبيجي ثمة مُتغيّر ينبغي الإمساك به وتعزيزه . في هذه الجبهات وغيرها، إختلط دم الشيعي والسني، وكعادته دوما عبر مراحل التأريخ المختلفة التي أريد بقصدية خبيثة إخفاؤها، وكأنهما لم يكونا معاً في الملمات التي أحاطت بالبلد عبر العصور المختلفة، كأنهما لم يلتحما معاً، ولم يتراصا في مظاهرات ووثبات وإنتفاضات العراق المعاصر، وكأن ثورة العشرين حدثاً طارائاً وطفرة يتيمة في تأريخنا.
العراقيون اليوم يعيدون للأذهان التي أصابتها البلادة صورتهم الحقيقية كعراقيين موحدين بمواجهة العدو المشترك، الذي تجرأ عليهم معتمداً على فرقتهم وتناحرهم ، إنهم الآن يتمترسون في خندق واحد، وسيبينون للعالم ماذا يمكنهم أن يفعلوا بوحدتهم، هذه الوحدة التي جعلت لإنتصارهم نكهة مختلفة تماماً، نكهة عراقية المذاق، واعدة بإنتصارات أخرى، أهم وأكبر وأعمق، وأكثر تأثيراً.
لا أدري لماذا لم تعكس وسائل الإعلام هذا المتغيّر بالحجم والمساحة اللتان يستحقهما؟
كانوا يقولون ان العراقيين لا يتوحدون إلا في كرة القدم، منتخب بلادهم هو الذي يوحدهم بعربهم وكردهم ، وتركمانهم، بسنتهم وشيعتهم، وأقلياتهم كافة، ولو أمعنا النظر قليلاً لتوصلنا بسهولة لحقيقة مفادها أنه ليست هذه الساحرة المستديرة هي من يوحدهم، وإنما ما جُبل عليه العراقي من رغبة لا تقاوم في أن يكون العراق، عراقهم ، منتصراً، في أي ميدان، وفي أي محفل . هذا الشعور يكذّب كل ما يقوله وما يدعيه من يريد للعراق التمزق لحسابات بائسة ضيقة، هي خاطئة بالتأكيد حتى ولو أخذت على أضيق نطاق، ولإعتبارات بالغة التفاهة..
أي وهم غبي هذا الذي يصوّر للناس إننا إذا صغرنا أكثر فأكثر نكون سعداء أكثر فأكثر، آمنيين أكثر فأكثر، أحرار أكثر فأكثر، أغنياء أكثر فأكثر، أقوياء أكثر فأكثر، وأننا سنغرق في فيض كرامة ستفيض على الآخرين ، وأن نكون محافظة بهيئة بلد أسلم وأغنم، وأخير للعباد؟! ألا يذكرنا هذا بقول بعض خونة لبنان : " قوّة لبنان في ضعفه"، لكن لبنان في ضعفه، قبل المقاومة، كان مُنهوباً ومُستلباً، وملطشة لإسرائيل، فمن أي قاع ينهل هؤلاء المرجفون؟!
نحن ، وفي كل الأحوال ، بلد صغير الحجم، صغير المساحة، قليل النفوس، لا يُقاس بدول كبرى وعظمى كالهند والصين وروسيا، ولا حتى بإيران أو تركيا، ولسنا بأكثر تنوعاً وتعدداً منها، لكنها رغم مليارات نفوسها، وتربعها على مساحة يعد كل منها بحجم قارة، إلا أنها دول تعزز وحدتها ولا تفرّط بها، في حين نسعى لتجزئة وطننا الصغير وتقسيمه، بحجج لو تمعنا فيها فإننا سنجدها أوهى من خيوط العنكبوت.
إنتبهوا رجاءاً، العراقيون اليوم يخطون الخطوة الأولى لإستعادة الأمل ، من على جبهات القتال يرسمون العراق الذي تأبى حقائق التأريخ والجغرافية أن يُمسح من الخارطة.. "علي " و"عمر" في خندق واحد ، وخلف ساتر واحد..
هذه الوحدة هي بحد ذاتها نصر كبير، حتى أنها أهم من أي نصر آخر مهما عظم على إمتداد جبهات القتال، بها يسترد العراق بهاءه وعافيته، وقوته، ووحدته، وبها سيُفشل كل الخطط الرامية لإضعافه وتمزيقه وإذلاله، ربما لا يريد الكثيرون رؤية هذه الصورة، ليس فقط أصحاب الأجندات الخاصة في الإقليم، وإنما فئات عديدة في الداخل، ممن إعتاشوا على الفرقة والتناحر، ورضوا أن يكونوا أدوات منفذه لرغبات الغير، الذي تكون مصلحة العراق ليست آخر إهتماماته، وإنما لايوجد لها مكان في سلم إهتماماته بالمرّة.
النصر في جبهات القتال، لا يعني دحر داعش فقط، وإنما دحر كل ما يفرّق ويشتت، ويكرّس كل ما يحول دون إحياء داعش وعمات داعش وخالاتها.
قاد الشيعة محافظاتهم ، مثلما قاد السنة محافظاتهم، وقاد الشيعة وزارات ، مثلما قاد السنة وزارات، فهل تنعم الشيعي بالخير والرفاهية نتيجة قيادة محافظته من قبل شيعي، أو من قبل أبن المدينة نفسها، وهل تنعم السني بالخير والرفاهية نتيجة قيادة محافظته من قبل السني، أو ابن مدينته نفسها؟ ثم ماذا إستفاد الشيعي من وزارة يقودها شيعي، وماذا إستفاد السني من وزارة يقودها سني، إذا كان الشيعي والسني من الطينة ذاتها؟
لماذا نسمح لهم باسم الطائفة والعرق أن يتسلقوا على ظهورنا، حتى إذا ما وصلوا إلى مبتغاهم ركنونا جانباً، واهتموا بأنفسهم وبأرحامهم وبالموالين لهم، وجعلوا من المنصب فيئاً ينتهب بلا حسيب ولا رقيب؟
لا مناص لنا نحن الذين نرتشف ونستقي من دجلة والفرات إلا أن نعتني بنهرينا العظيمين من دخولهما حدودنا العراقية حتى مصبهما في الخليج، ولا خيار لنا إذا أردنا أن نشرب عذب الماء الذي عرفناه وعرفه من سبقنا، إلا أن يكون نهرانا (العظيمان الرائعان) تحت سلطة واحدة وموحدّة ، تقرر وتفعل، وهكذا كان شأنهما على مدى التأريخ، وأولى بمن يغالط حقائق التأريخ والجغرافية أن يشرب ماء البحر.
لو أصبحت كل محافظة دولة فعلياً، إقليما إسمياً، هل سيترك السرّاق السرقة، والفاسدون الفساد، والمرتشون الرشوة؟ هل يتوقع أحد أن الإستغلال والإستئثار والإستبداد ، والظلم، وكل الآفات التي عانينا وما زلنا نعاني منها، ستزول لمجرد أن السيد المحافظ أصبح السيد الرئيس، وعضو مجلس المحافظة سعادة النائب، والسيد المدير معالي الوزير؟
للظلم والإستغلال والإستبداد مسببات أخرى، لا علاقة لها بحجم البلد وصغره، وهي ليست نتاج عرق معين، أو دين معين، أو طائفة معينة، هي موجودة في كل عرق ودين ومذهب، تربتها الجهل، والتعصب ، والتخلف، والجشع، وضعف النوازع الإنسانية، والروادع الأخلاقية، وإنعدام القيم التي تمنع المرء من التخلي عن آدميته من أجل منفعته ومصلحته، فإذا أضيف لهذا عدم وجود القوانين والتشريعات البينة الواضحة التي تكفل الحقوق، وتمنع الإستغلال، وتحول دون الإستبداد، وتعاقب الظالمين والفاسدين، وكل هذا لن يكون إذا كنت تابعاً لمن يريد إضعافك، وإنهاكك، من أجل إستغلالك، أو إستثمارك، أو التلاعب بك كورقة على موائد القمار الكونية ، إذا كانت هذه هي بضاعة النظام الذي أريد له أن يكون هكذا، فإن توسيع قاعدة المستغلين والظالمين والمستبدين والفاسدين لن يكون وصفة علاج ، وإنما هو وصفة إنتحار أكيد .
لا تخدعونا، الطريق إلى إنهاء الظلم والإستغلال والإستبداد والفساد واضحة .. هي تبدأ بوحدتنا التي سستفولذ قوتنا، وتنهي تبعيتنا، التي هي أس بلوانا، وتجعلنا رقماً صعباً، ولقمة عصيّة على الإبتلاع، وستجعل خيارنا، مثل مقدراتنا بأيدينا، عندها سيتباهى العراقي بعراقيته، ولن يكون بحاجة للإحتماء بالهويات الثانوية، أو الفرعية .
No comments:
Post a Comment