Friday, 12 December 2014

{الفكر القومي العربي} يحيى حسين: الفراشة التى صرعت الفيل

 
الفراشة التى صَرَعَت الفيل
بقلم المهندس/ يحيى حسين عبد الهادى
(الأهرام 13/12/2014)
 
أمس الجمعة (الساعة 12 يوم 12 شهر 12) انقضت عشرة أعوامٍ كاملة على أول مظاهرةٍ لواحدةٍ من التجليّات العبقرية للشعب المصرى، الحركة المصرية من أجل التغيير (كفاية)، أو رفّة الفراشة كما أسماها أحمد بهاء الدين شعبان مُستحضراً نظرية (تأثير الفراشة) التى تتحدث عن التأثيرات المتواترة التى تنجم عن حَدَثٍ أول قد يكون بسيطاً فى حد ذاته لكنه يُولّد سلسلةً متتابعةً من النتائج والتطورات المتتالية، والتى يفوق حجمُها حَدَثَ البداية، وبشكلٍ لا يتوقعه أحد .. أو كما يقولون (إن رفّة جناحَىْ فراشةٍ فى الصين قد ينجم عنها فيضانات وأعاصير ورياحٌ هادرةٌ فى أمريكا).
كانت البداية بمجموعةٍ من الشخصيات المصرية المُحترمة .. كلٌ منهم كان مستقراً فى حياته، وبعضُهم أعلامٌ فى مجالاتهم .. وعندما طَفَح الكيل وظهر الفساد فى برّ مصر وبدا واضحاً أن رأس النظام مُتشبثٌ بالاستمرار فى حُكمه المزوّر إلى أن يُورّثه لابنه محدود الكفاءة والموهبة .. كان يمكنهم أن يكتفوا بمقاومة هذه الإهانة وهذا الفساد والاستبداد بقلوبهم وهو أضعف الإيمان .. لكنهم أَبَواْ أن يكتفوا بمصمصة الشفاه .. فخلَعوا انتماءاتهم السياسية ولم يتدثروا إلا برداء الوطن .. وشكّلوا هذه الحركة النبيلة .. وفاجأوا مصر والعالم بهتافهم المدوّى .. لا للتمديد .. لا للتوريث .. وظلوا سنواتٍ يقفون بأعدادهم القليلة على سلّم نقابة الصحفيين، أو منسحقين على جدارٍ بأحد الميادين، كفْرض كفايةٍ عن شعبٍ بأكمله .. ووصَل الأمر أحياناً لأن يقف محمد عبد القدوس وحيداً حاملاً ميكروفونه فى يدٍ وعَلَمَ مصر فى اليد الأخرى.
مثل رفة الفراشة، أحدثت كفاية موجات تأثيرٍ دائرية أخذت فى الاتساع بسرعة .. وكسرت حاجز الصمت والخوف  .. وامتدّت المظاهرات من قلب القاهرة إلى الأقاليم .. وأفرزت حركاتٍ مستقلةً أخرى مثل جماعة 9 مارس لاستقلال الجامعات .. وحركة لا لبيع مصر لإيقاف نهب وتدمير القطاع العام .. وصارت الداعم الشعبى لكثيرٍ من قوى المجتمع التى هبّت من أجل مجتمعٍ ديمقراطىٍ حقيقى، مثلما وقفت مع مطالب استقلال القضاء التى قادها نادى قضاة مصر وقت أن كان يرأسه صاحب المقام الرفيع المستشار زكريا عبد العزيز.
رَفعت كفاية سقف مطالب المصريين من مجرد الهمس ببعض الإصلاحات إلى تغيير النظام بالكامل ورفض أى محاولةٍ لتوريث الحكم .. واستطاعت أن تُعيد الاعتبار إلى الكفاح الديمقراطى السلمى القانونى بعد أن تمت مصادرته عبر عشرات السنين.
ارتبك رد فعل السلطة فى البداية نظراً للمفاجأة وللقامات الكبيرة المحترمة التى ضمّتها التظاهرات الأولى .. إلا أن صبرها لم يستمر كثيراً .. وكانت ضربةُ البداية عندما صرّح الرئيس (البرئ) مبارك ساخراً (أنا أيضاً يمكننى تنظيم مظاهراتٍ تهتف مش كفاية!!) .. بعدها ظهرت فعلاً حركة (مش كفاية) من بلطجية النظام ووقف أعضاؤها فى حماية الأمن على سلّم النقابة يهتفون (مش كفاية مش كفاية .. معاك يا ريّس للنهاية) وحركة (الاستمرار من أجل الازدهار) برئاسة رئيس أحد أحزاب أمن الدولة المتهم فى قضايا نصب واحتيال وضمّت بعض الفنانين والمصارعين .. وحركات (مصر الحرة) و(متعاونون) و(عايزينك) و(أحرار) و(جمال مبارك حلمٌ جميلٌ لبلدٍ أجمل) .. وغيرها من الحركات الأمنية الهزلية التى مازجت بين تأييد استمرار مبارك والتبشير بابنه وريثاً .. وقد وَصفها الدكتور عبد الجليل مصطفى بأنها مجرّد تشنجاتٍ حكومية أمنية.
إلا أن هذه التشنجات الحكومية تزايدت وتحوّلت إلى صَرَعٍ كامل .. وعادت السلطة الغاشمة إلى وسائلها الحقيرة التى لم يكن أسوأَها اختطاف اثنين من مُنسقى كفاية وإلقاؤهم فى الصحراء (عبد الحليم قنديل عارياً وعبد الوهاب المسيرى كاسياً) .. أما الآلاف من شباب كفاية السلميين المغمورين فقد تعرضوا لأقصى درجات العنف ولُفقّت لهم الاتهامات.
وكان ما حدث يوم الأربعاء الأسود 25 مايو 2005 كاشفاً لموقف السلطة، إذ قام المئاتُ من بلطجية الحزب الوطنى المُنحّل المشحونين بالأوتوبيسات الحكومية يقودهم أحد نواب المجلس المزوّر وعضو أمانة سياسات الأستاذ (البرئ) جمال مبارك تحت رعاية أمن (البرئ) حبيب العادلى بالهجوم على العشرات من أعضاء كفاية المحتجين سلمياً على الاستفتاء الذى كان يتم على تعديل المادة 76 الشهيرة التى صاغها الدكتور (البرئ) مفيد شهاب .. كان الاعتداء الهمجى وحشياً ووصل إلى حد محاولة اغتصاب الصحفية الراحلة نوال على أمام وسائل الإعلام
وقد كَنَسَ الشعب والتاريخُ هذا الهزْل وبقيت كفاية .. ولكن ما أحوجنا لإعادة رصد ما جرى لا سيما أن بعضاً من هذه الحشرات والقوارض خرجوا من القمامة مرةً أخرى يُحدثوننا عن الوطنية بعد أن اختلقوا لأنفسهم تاريخاً غير ذلك الذى عايشناه معهم، معتمدين على آفة النسيان.
عودة إلى السيرة العطرة .. كفاية .. فى البداية تعامل المصريون مع هذه الثُلّة المجاهدة بالدهشة .. ثم تحولت الدهشة إلى إشفاق .. وتحوّل الإشفاقُ إلى إعجاب .. ثم تحوّل الإعجابُ إلى تضامن .. وتحوّل التضامن إلى انضمام .. ثم احتضنتهم مصرُ وذابوا هم بين الملايين التى نزلت إلى الميادين لتخلع الطاغية وتُسقط مشروعىْ التمديد والتوريث .. ولتعصف رفّة الفراشة فى النهاية بالفيل المترهل .. ولتحتل هذه الملحمة الفريدة مكانها اللائق فى ذاكرة الأمة .. قصةً ترويها الأجيال .. جزى الله نُبلاء كفاية عن مصر خير الجزاء.
 

No comments:

Post a Comment