رَضِىَ اللهُ عنهم
بقلم المهندس/ يحيى حسين عبد الهادى
الجمعة 6 أكتوبر 2017
كل عامٍ وأنتم بخير .. اليوم ليس عيد القوات المسلحة كما تشير التقاويم والأجندات، وإنما هو واحدٌ من أعظم أيام مصر كلها .. يومٌ أكبرُ من الأسماء وأَسمَى من الخلافات والثارات والمراهَقات السياسية .. علينا أن نُلِّح فى الاحتفال به احتفالاً حقيقياً يليق بجلالِه .. ويَعجَبُ المرءُ ممن يحاول أن يبخس هذا النصر حَقَّه لِمرضٍ فى قلبه أو فى عقلِه .. فى الوقت الذى تستغل فيه إسرائيل حالةَ الهزيمة العربية الشاملة الحالية وعودة ملوك الطوائف لتعيد كتابة التاريخ من وجهة نظرها وتمحو من تاريخنا كل نصرٍ أو نجاح .. الأمم كلها تُنَّقِبُ فى تاريخها عن نصرٍ كنصر أكتوبر لتحتفى به .. وإن لم تجده لاخترعته .. وتذكر هزائمها تاريخاً لا احتفالاً .. وعندنا من لا تنقطع احتفالاته على مدى نصف قرن بِ (عيد 5 يونيو) لثأرٍ خَلَّفَه صراع السلطة مع عبد الناصر .. وهم لا يختلفون كثيراً عن من قَلَّلُوا من نصر أكتوبر نكايةً فى السادات .. وأُضيف إليهم اليوم بعضٌ من بنى جلدتنا خلطوا بين غضبهم من أخطاء السيسى وبين الجيش (الذى هو جيشُهم من قبل ومن بعد) وبين مصر صانعة الجيش والنصر معاً، فاصطَّفُوا مع إسرائيل (عن حُمقٍ أو خيانة) فى بَخْسِ هذا النصر حَقَّه .. هذا نصر مصر .. ومصر أكبر من حُكَّامِها .. أكبر من عبد الناصر والسادات ومبارك .. والسيسى طبعاً.
صباح النصر .. أربعةٌ وأربعون عاماً تَمُّرُ على واحدٍ من أنبل أيامنا وأطول أيامنا .. يومٍ امتَّد ستة أعوامٍ بدأت مساء التاسع من يونيو 1967 بنزول الملايين فى لحظةٍ واحدةٍ، يُحركهم ضميرهُم الجَمْعى .. يرفضون الهزيمة ويُكلفون أسَدَهُم الجريح بتحقيق النصر .. شئٌ مذهلٌ لا تفعله إلا الشعوب العظيمة .. ونحن شعبٌ عظيمٌ يُخبئ تحت سلبياته الكثيرة تحّضُراً وشموخاً .. كان يوماً طويلاً ولكنه كان يوماً عظيماً .. تخطيطاً وأداءً وإبداعاً وصبراً واحتمالاً ومثابرةً وبذلاً.
سيُرَّكزُ الإعلامُ كالعادة على أسماء بعض قادة النصر العظيم (وهذا بعضُ حَقِّهِم) .. ولكننى اعتدتُ فى هذا اليوم على تَأَّمُلِ بطولات وتضحيات (العاديين) الذين سَجَّلَ المراسلون الحربيون وذاكرةُ زملائهم جزءاً ضئيلاً منها .. أتأمل أولئك الذين أقدموا بأنفسهم على الشهادة .. لم يترددوا مع أنهم كانوا شباباً لهم حاضرٌ وأمامهم مستقبلٌ .. لكنهم فضّلوا مصر .. فضّلونا على آبائهم وأمهاتهم وزوجاتهم وأطفالهم الذين كانوا ينتظرونهم.
وقف عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) خارج المدينة يترقب أخبار معركة نهاوند، ولما جاءه البشيرُ يُبشّره بالنصر سأله عمرُ عن الشهداء، فذكر له عدداً من أعيان الناس وأشرافهم ومشاهيرهم، ثم قال لعمر (وآخرون من أفناد الناس "أى ضعفائهم" لا يعرفهم أمير المؤمنين) .. فأخذ عمرُ يبكي ويقول : (وما ضَرَّهم ألا يعرفَهم أمير المؤمنين؟! لكنّ الله يعرفهم، وقد أكرمهم بالشهادة، وما يصنعون بمعرفة عمر؟) .. أستأذنكم فى الاحتفاء باثنين من هؤلاء (الأفناد) الذين لا نعرفهم ولكن الله يعرفهم:
محمد الخبيرى:
كان مُجنداً ريفياً ضمن الكتيبة التى عبرت القناة فى حرب 73 وهاجمت نقطة العدو القوية رقم 149 فى نطاق الجيش الثالث الميدانى .. واستعصت النقطةُ على الاقتحام حوالى خمسة أيامٍ نظراً لوجود مدفع رشاش نصف بوصة يسيطر على طرق الاقتراب كلها ويصيب ويُفشل كل محاولات الاقتحام .. فإذا بهذا الشاب (العادى) ينسى أحلامه وأسرته ومستقبله ويزحف على بطنه حاملاً قاذف اللهب صاعداً إلى أعلى النقطة الحصينة ويُلقى بنفسه على مزغل (فتحة) الرشاش مُفرغاً حمولته من النابالم فتشتعل النقطة ويتساقط مَن فيها قتلى ويستسلم الباقون اختناقاً وتسقط النقطة ويسقط هو شهيداً بعد أن تَلَّقَى مئات الطلقات.
اللغم البشرى:
روى عبده مباشر قصته فى كتابه ولم يذكُر لنا اسمه أو ديانته أو رُتبته .. كان من بين المجموعات الأولى من رجال الصاعقة التى عبرت القناة قبل بدء الاقتحام الشامل .. كانت مهمتهم العمل خلف خطوط العدو لإيقاف تقدم احتياطياته عندما يعبر مُشاتُنا القناة إلى أن تعبر مدرعاتُنا .. اشترك مع مجموعته فى المهمة .. أوقفوا طوابير العدو المدرعة ومنعوها من المرور .. وسقط منهم شهداء ولكنهم استمروا .. ونفدت ذخيرته .. فإذا بطابورٍ مدرعٍ جديدٍ يبدأ فى التقدم .. لم يكن هناك وقتٌ للتزود بمزيدٍ من القذائف المضادة للدبابات وقد أصبحت الدبابة الأولى على مسافة عشرات الأمتار فقط، فهل يتركها تمر؟ كان يمكنه الاختباء .. لقد أدى دوره وواجبه ولم يعُد فى استطاعته أن يقدم شيئاً .. لا .. كان لا يزال لديه ما يُقدمه .. زَحَفَ فوق الأرض حتى لا يراه العدو المتقدم .. وَضَع فوق ظهره لغماً مضاداً للدبابات واستمر فى الزحف حتى أصبح يسُّدُ بجسده طريق تقدم الدبابة الأولى .. سحقته الدبابةُ وانفجرت .. وانفجر هو معها .. وعندما وصلتنا قصته كان اسمه قد سقط لينضم إلى رفاقه الذين لا نعرفهم ولكن الله يعرفهم.
مصر مليئةٌ بهؤلاء العاديين الذين نعرف بعضهم ولا نعرف معظمهم، ومَدينةٌ باستمرارها لهم .. منهم من قضى نَحبَه ومنهم من ينتظر ولكنهم جميعاً لم يُبدّلوا تبديلاً .. أولئك الذين يمشون بيننا ويعملون بلا ضجيج .. يُنتجون ويكدحون وينشرون الخير والنماء ولا تعرفهم الفضائيات ولكنّ الله يعرفهم .. يقاومون الفاسدين ويصبرون على أذاهم ويحفظون لوجه مصر جماله .. يُنصَفون أحياناً ويُظلَمون غالباً .. ويفدوننا بصدورهم فى وقت الحرب .. ولا يطلبون منّا جزاءً ولا شكوراً .. أولئك هم سادتُنا الحقيقيون .. رضى الله عنهم وأرضاهم.
No comments:
Post a Comment