السَبُّ والقَذْفُ الرئاسى
بقلم المهندس/ يحيى حسين عبد الهادى
كُنَّا وقوفاً أمام مكتب النائب العام إلى أن ينتهى التحقيق مع العالم الوطنى الجليل أ.د/ يحيى القزاز بتهمة (إهانة رئيس الجمهورية) وفقاً لبلاغٍ تَقَّدَم به أحدُ المُحامين (الشرفاء) تُشير سابقةُ أعماله إلى أنه هو نفسه مَن تَقَّدَم ببلاغٍ لإيقاف تنفيذ الحكم الجليل المُجلجل بمصرية تيران وصنافير .. سألتُ بعضاً ممن كانوا معى: ماذا إذا حدث العكسُ؟ أى ماذا إذا قام الرئيسُ بِسَّبِ وقَذْف وإهانة الشعب؟ .. بدا السؤالُ مفاجئاً .. وقد جاءت الإجابة (التى أُحيلُها إلى الزملاء من أهل القانون) أن المُشَّرِع لم يخطر بباله إمكانية أن يَسُّب رئيسٌ شعبَه .. إلا إذا كان قد دخل فى حالة الخَرَف المَرَضِى مثلما حدث للحبيب بورقيبة، وتلك لا تُوَّصَفُ (سَبَّاً وقَذْفاً) وإنما توضع دستورياً تحت بند (العجز عن الحُكْم) وتُعالَج بالحَجْرِ الطبى .. قبل مُضِّىِ أربعٍ وعشرين ساعة من هذا التساؤل جاءت تصريحات الرئيس فى باريس كطعنةٍ قاتلةٍ لكل ذى إحساسٍ من المصريين .. أتكلم عن ذوى الإحساس لا عن البهاليل الذين قال فيهم المتنبى (مَنْ يَهُنْ يَسْهُل الهوانُ عليه … ما لِجُرحٍ فى مَيِّتٍ إيلامُ).
لم تَعُد تستوقفنى تصريحات الرئيس المتكررة بخصوص أنه يبنى دولةً ديمقراطيةً مدنيةً وعدم وجود معتقلين سياسيين .. إلخ .. وأعتبرها نوعاً من الدعابة الرئاسية المحمودة التى قد تُخفف عن شعبه المكدود .. لكن ما قاله الرجل فى تبرير عدم تطبيق المعايير العالمية لحقوق الإنسان فى مصر (نحن لسنا فى أوروبا بتقدمها الثقافى والحضارى والفكرى والإنسانى .. نحن فى منطقةٍ أخرى).. هو فضيحةٌ وإهانةٌ بكل المقاييس .. لا سيما وأنها ليست المرة الأولى التى يردد فيها هذه الإهانة .. وهو ما يؤكد أنها عن اقتناعٍ لا عن زَلَّةِ لسان .. وأن سيادته لا يعلم أن المعايير العالمية لحقوق الإنسان (والحيوان) واحدةٌ فى العالم كله .. لا تختلف من منطقةٍ لأخرى .. فحقوق الإنسان الصومالى لا تختلف عن حقوق الإنسان المصرى ولا عن حقوق الإنسان الأوروبى .. الذى يختلف هى حقوق الرؤساء .. فالرئيس فى أوروبا مسكين .. خادمٌ عند شعبه .. بَشَرٌ يأكل الطعامَ ويمشى فى الأسواق .. مكشوفٌ تماماً .. ترتعد فرائصه إذا نَسِىَ واستغَّلَ مالاً عاماً فى شأنٍ خاصٍ حتى ولو كان رحلة قطار .. لأن الإعلام لن يرحمه والقضاءَ سيحاسبه وقد يفقد مستقبله السياسى .. أمَّا الرئيسُ فى (المنطقة الأخرى) التى أشار فخامته إلى أننا من سُكَّانها .. فنصف إله .. حاكمٌ فردٌ .. لا شريك له .. لا يُسأَلُ عمَّا يفعل .. لا يعترف بدستورٍ ولا قانون .. ولا قضاءٍ ولا حقوق .. وليس لديه برلمانٌ يُحاسِب أو يراقِب وإنما مجموعةٌ من عرائس الماريونيت التى عَيَّنَتها أجهزته الأمنية .. وليس معه مجلس وزراء وإنما مكتب سكرتارية مُكَّوَن من مجموعةٍ من الموظفين الخانعين محدودى الكفاءة .. الرئيسُ فى (المنطقة الأخرى) يملكُ كُلَّ شئٍ .. الأرضَ ومن عليها .. يَمنحها لمن يشاء من الدول (باعتبار أن مَنْ حَكَمَ فى مالِه فما ظَلَم) .. ويعقد الاتفاقات معتمداً على عِلمِه اللادُنِّى .. لا يستشيرُ ولا مُشيرَ له .. يبعثر المال العام وفقاً لِهَواه .. ويستدينُ ويُراكِم الديون بِاسمِ شعبه .. ويُحدد الأوليات تَبَعَاً لما يخطر بباله أو يراه فى أحلامه .. وهو الخصم والحَكَم .. إذا حَكَم القضاءُ بغير ما يهوَى، عاقب القاضى وغَيَّر القانون.
ورغم الطعنة النجلاء التى وجَّهَها سيادته لنا، إلا أننى حَمَدتُ الله أنه لم يردد ما اعتاد إعلامُه أن يتحفنا به وإلا صارت فضيحةً عالمية .. مثل العبارة المُمَنتَجَة المنسوبة زُوراً لرئيس وزراء بريطانيا السابق ديفيد كاميرون (عندما يتعلق الأمر بالأمن القومى فلا يحدثنى أحد عن حقوق الإنسان). لدرجة أن السفارة البريطانية فى القاهرة نَفَت رسمياً فى سبتمبر 2013 أن يكون كاميرون قد قال هذا فى خطابه فى أكسفورد شاير ووزعت النص الكامل للخطاب على الصحفيين بحسب وكالة أنباء الشرق الأوسط الحكومية المصرية .. وهو خطابٌ جاء فى أعقاب مواجهاتٍ بين الشرطة وعصابات الشوارع .. أما ذكر حقوق الإنسان فجاء فى خطاب آخر بَرَّرَ فيه كاميرون تجاوزه لحق المجرمين المطلوبين على ذِمَّة هذه الجرائم فى أَلَّا تُعلَنَ أسماؤهم (أرأيتم الدَلَع؟!) .. وقد قام إعلام (المنطقة الأخرى) بمنتَجَة الخطابين ليخرج بخطابٍ ثالثٍ على هواه يُبرر الاختفاء القسرى والتعذيب .. وهو ما يُذَّكِرُنا بالحديث الهزلى عن المذكرات المزعومة لهيلارى كلينتون وكلمة السر 360، وهى تلك المذكرات المَسخرة التى تم تأليفها بالكامل فى مصر ورددتها الأذرع الإعلامية ولم يسمع عنها أحدٌ فى العالم غيرنا .. ناهيكم عن حكاية الأسطول السادس وقائده الأسير.
تَعَّلَمنا أن نحمد الله على كل حالٍ .. ونشكره على ما حَبَانا به مِن نِعَمٍ حَرَمَ غيرَنا منها .. فإذا كانت أوروبا تنعم بتقدمها الثقافى والحضارى والفكرى والإنسانى كما قال الرئيس .. فقد شاءت حكمتُه تعالى أن يحرمها مما أنعمَ به علينا فى المنطقة الأخرى من حُكَّام .. فسبحان مُقَّسِم الأرزاق.
(مصر العربية- الاثنين 30 أكتوبر 2017).
No comments:
Post a Comment