Thursday, 3 January 2019

{الفكر القومي العربي} article

الياقات والعمائم المتسخة

صباح علي الشاهر

 

فتح المرجع الشيعي الأعلى الراحل آية الله محمد صادق الصدر الباب واسعاً أمام فئات لم تكن تحلم بوضع العمامة على الرأس ، فئات كان عليها تقبيل الأيادي التي تمد لها ، وأقسى ما كانت تطمح إليه أن تكون في خدمة هذا الشيخ أو ذاك السيد ، فمن قعر القاع الاجتماعي دخل الحوزات العلمية إبن الريف النائي ، وإبن المدينة الفقير المدقع، وكلاهما لا سند له ولا عزوة ، ولا جاه يتكيء عليه .

يمكن عد هذا الإجراء ثورة حوزوية سيتبين أثرها فيما بعد ، لكنها ثورة تهبط بالوعي الفقهي وترفع من منسوب التماثل مع الناس ، أصبح للمدن مهما صغرت شيخها الذي هو منها، وكذا الريف ، ولم تعد النجف مصدرة للعمائم ، كما كان الأمر سابقاً .

وكان من الطبيعي أن يقابل مثل هذا الإجراء بالموقف العدائي التقليدي من قبل من إحتكر إلباس العمائم والزي الديني  لمن يتم إنتقاؤهم وفق معايير معينة ، كانت دائماً تؤخذ بعين الإعتبار .

هؤلاء الأتين من القاع لم يكونوا على دراية بالأحابيل والحيل اللغوية والفقهية التي كان يتلهى بها مثقفو المدن المقدسة ، وتحديدا النجف ، وما كانوا مولعين بالنظاقة ، أما لسبب فقرهم ، أو لأنهم إعتادوا بحكم واقعهم على عدم الاهتمام الكافي بها ، وكان هذان السببان مدعاة لتندر النجفين بهؤلاء الآتين من أعماق الريف ، وقاع المدن، فكانوا يسخرون  من لبسهم للعمامة ، أو لكنتهم، أو لمدى إتقانهم اللغة وعدم تبحرهم بالفقه، أو قلة الاهتمام والعناية بنظافة لبسهم وبالأخص العمامة التي كانت غالباً بيضاء ، لأن جل الذين إنضووا تحت عباءة المرجع الشهيد لم يكونوا من السادة أو الأشراف ، وإنما من عوام الناس كما أسلفنا.

في التاسع عشر من شباط عام 1999 تم إغتيال الشهيد الصدر ونجليه ، وبعد ما يقارب الأربع سنوات فقط إنتهى نظام البعث . لم تكن النهاية المأساوية للشهيد الصدر نهاية لتأثيره ، إذ سنشهد بعد الاحتلال نهوضاً لقوى راديكالية بقيادة مقلدي الصدر ومريديه ناصبت الاحتلال العداء وقاومته مقاومة شرسه ، لكنها لم تصطف مع بقايا البعث ممن قاوم الاحتلال أو إدعى مقاومته .

****

ليس كل أتباع الصدر صدريين وإن أدعوا هذا ، وليس كل أتباع الصدر على نهج الشهيد ، ونحن إذ نشير إلى بعض النماذج لا نعمم ، فمقابل هؤلاء ثمة الآلاف من المخلصين ، المستعدين للتضحية حتى آخر المشوار .

في الأيام الأولى لظهور ما سميته بالياقات والعمائم المتسخة ، جلب نظري شخص من هؤلاء عرفت فيما بعد أنه كان ينتمي إلى حزب الفضيلة ، كان يحشر جسده القميء بين الحضور ويرفع عنقه ليظهر في الصورة ، قلت هذا متسلق ، تابعوه فهو يعرف ماذا يريد ؟

كانت عمامته بائسه وملابسه متقذره وكان ضامراً ليس في وجهه سوى العظام الناتئة ، فيما بعد تربرب وحسن هندامه ، تابعت أمره من باب الفضول ، أصبح فتى الشاشة لدى بعض القنوات ، وإنقلب على من كان حزبه متحالف معه ، ثم إنتقل فيما بعد لحزب آخر، كان مهووساً بالظهور مدعيا محاربة الفساد والفاسدين ، لكن من يعرفه يؤكد أنه مثال الفاسد الوصولي نهاز الفرص ، بحيث في فترة قصيرة جمع ثروة طائلة وعقارات . تجمل وتهندم وأصبحت عمته حالكة البياض ، وتكرّش وأصبحت ياقته كما جبته مكوية ومنشاة ، وما عاد يتدافع من أجل أن يظهر في الصورة ، بل أصبحت الكاميرات تترصده .

***

شخص آخر إلتقيت به في بيروت ، كان متحدثاً لبقاً ، يحسن ترتيب أفكاره ، وكانت هيئته مهلهلة تنم عن فقر بين ، كان صدريا بحق ، يناصب الاحتلال العداء ، وعلى العكس من صاحبنا الأول كان لا يحب الظهور ، ولا يرغب حتى بإجراء مقابلة تلفزيونية ، كان يتحدث عن المظالم التي وقعت على منطقته في عهد البعث ، والمظالم التي وقعت أيضاً في عهد الاحتلال ، وكان مهموماً بكيف يخدم أبناء مدينته المليونية ، تابعت أخباره ، كان يفرح عندما يقدم خدمة لمن يكلفه بتقديم خدمة ، فيما بعد كانت الخدمات تقدم بمقابل ، ثم بعد أن بدأ رصيده من الثروة يكبر أخذ يأخذ من الناس مقابل حمايتهم ، من يريد بيع دار أو دكان أو أرض يجب أن يدفع خمس السيد ، وخمس السيد يعني خمس القيمة ، ولم تكن كل الأموال تذهب للسيد ، فجيب الشيخ إتسع كثيراً ، وعندما فاحت رائحته ، قيل أن السيد أبعده .

****

كما يقول المثل العراقي " كل ذاك بكوم وهذا بكوم " ، النموذج الثالث كان الأغرب ، لا أدري من دعاه ، وكيف أختير لحضور لقاء كهذا ، جمع فطاحل الأمة من المفكرين والساسة والمثقفين ، حشر نفسه بينهم ، ثم بدون مقدمات قال : صاحبنا الأعلم ، هو وحده الذي حدد الخرطات بتسعة بدل السبعة !

البعض لم يفهم ما قاله ، لكنني عجلت بوضع كفي على فمه وسحبته من ياقته المتسخه بعيداً عن الحضور .

قلت له :إستمع كي تتعلم ، ليس في كل مرة تلتقي بمثل هؤلاء .. وصاحبك وأنت الأغبى حتى لو برهنت على تسعة وتسعين خرطة ، لا تسع خرطات !..

لا أدري لماذا أحسست بأني جرحته ، في الليل ذهبت له في غرفته وأعتذرت منه، وحدثته حديث الأب الحاني .

فيما بعد عرفت أن هذا الشاب قتل في أحداث الزركة ، كان يناضل من أجل تأكيد الخرطات التسع بدل السبع !!

No comments:

Post a Comment