بين التدين والإيمان وخيانة الإسلام
بروفيسور عبد الستار قاسم
27/حزيران/2013
نسمع كثيرا عن أشخاص يوصفون أنهم متدينون، ويذكرهم الناس بنوع من الإجلال المعرفي والتقوى الإسلامية؛ ويتردد الوصف على مسامعنا باستمرار حتى بات يظن جمهور الناس أن التدين هو الإيمان. هذا ظن خاطئ لأن التدين يختلف اختلافا كبيرا عن الإيمان، ومقتضيات كل منهما تختلف عن مقتضيات الآخر.
معنى التدين
التدين عادة تاريخية لدى كل الشعوب التي تتمسك بدين، وله رجاله ونساؤه المميزون الذين يشار إليهم بالبنان على اعتبار أنهم أكثر الناس فهما للدين وتطبيقا له. وفيما يلي السمات الغالبة على المتدينين بغض النظر عن الدين الذي يؤمنون به:
أ- الإكثار من ممارسة الطقوس الدينية بخاصة الصلوات المتنوعة والابتهالات والمراسيم والاحتفالات الدينية وإعطاء دروس الوعظ والهداية لعامة الناس.
ب- التعصب الديني الذي يعني امتلاك الحقيقة دون الآخرين، واحتكار النعيم في الحياة الآخرة. يرى المتدين في نفسه أنه حبيب الله، أو الآلهة التي يعبدها إن لم يكن موحدا، أو أنه يعمل من أجل الوصول إلى تلك الدرجة، وهو في النهاية الرضي المرضي الذي سيتمتع بحياة آخرة ملؤها السعادة، بينما سيلاقي الآخرون سوء العذاب.
ت- الانشغال بالغيبيات والقوى الخفية التي تسيّر أعمال الإنسان وتسيطر عليه. ينشغل هؤلاء بما فوق الطبيعة لمعرفة أسرارها والقوى المختلفة الفاعلة فيها، وينسجون الكثير من الحكايات والأساطير حول ما يمكن أن يلاقيه الإنسان في حياته ومماته نتيجة أعمال هذه القوى.
ث- الهروب من الحياة الدنيا لصالح إقامة علاقات بطريقة أو بأخرى مع القوى الفوقية التي لا تنتمي إلى الطبيعة عسى في ذلك ما ييسر التوفيق والرزق والهدوء والشفاء في الدنيا والآخرة. ولهذا ينزوي عدد لا بأس به من المتدينين عن الأعمال العامة، وكثير منهم يفقدون القدرة على التعامل العام، والمرونة في إقامة العلاقات الاجتماعية.
ج- علو التفسيرات الغيبية للظواهر الاجتماعية والطبيعية على التفسيرات العلمية، والاستهتار بالتفكير العلمي والعقلية التحليلية القائمة على العلم والمنطق. العقل ليس للبحث والتدقيق، وإنما للتفكير بكيفية تطبيق التعاليم الدينية.
ح- القول بتسيير الإنسان لأن قوى ما فوق الطبيعة قد قررت كل شيء مسبقا، وعلى الإنسان أن يستسلم لما يمكن أن يكون قدره وإرادة قوى لا يعرفها. ولهذا يغلب عليه الخوف من المجهول، وتنهار إرادته أمام ما يظن أنه الحقيقة التي لا يراها.
خ- الحياة في أغلبها زهد ورهبنة، والدين طابعه كهنوتي. ولهذا يكون المتدين منغلقا عقليا واجتماعيا ومحدود النشاطات، ويصعب عليه رؤية الأمور بزوايا متعددة.
التدين والطقوس إسلاميا
لا يوجد في الإسلام تدين، ولا توجد فئة رجال دين، ولا توجد طقوس. هناك إيمان في الإسلام وشعائر، وهناك أناس يتحلون بأخلاق الإسلام.
الإيمان في الإسلام هو ما وقر في القلب وصدقه العمل، ولا جنة للمسلم إلا إذا كان مؤمنا وعمل صالحا. وقد أعاد القرآن الكريم على الناس في أكثر من خمسين آية اقتران الإيمان بالعمل الصالح كشرط لدخول الجنة. الجنة للذين آمنوا وعملوا الصالحات.
أما الشعائر فتختلف اختلافا جذريا عن الطقوس من حيث أن الطقوس عبارة نشاطات تعودية (من العادة) مكررة، وقيمتها بذاتها فقط كحركات جامدة خالية من الانعكاس العملي على الواقع، ولا يوجد لها قيمة خارج ذاتها. أما الشعائر في الإسلام ففرائض تكتسب قيمتها من خارج ذاتها لأنها تذكر المرء بالله سبحانه وتعالى وبتعاليمه فيعمل صالحا. إنها وسائل يومية تدفع المسلم إلى عمل الخير، وإذا خلت من هذه القيمة الاجتماعية والإنسانية تكون قد فقدت قيمتها التعبدية. فالصلاة تأمر بالخير وتنهى عن الفحشاء والمنكر، والحج يؤلف بين المسلمين ويجمعهم في حلقة نقاش وحوار واسعين، والصوم يترافق مع فضيلة الاعتدال والإيثار والشعور مع الآخرين، والزكاة تقيم بنية اقتصادية تحول بين المسلم والعوز الذي يمكن أن يدفعه إلى رذيلة أو بغضاء.
إذا خلت الشعائر الإسلامية من قيمها خارج ذاتها تحولت إلى طقوس، وهذا ما نشهده كظاهرة عامة وليس مطلقة. وما يؤيد ذلك هو وجود كثرة من المتدينين وقلة من المؤمنين. والشاهد على قلة المؤمنين واضح في تمزق الأمة، وانتشار الفساد والطغيان في صفوفها، وهيمنة قوى أجنبية عليها، ووقوع مقدساتها في براثن الغزاة والطامعين، وإهدار أموالها وقلة حيلتها وضعف بنيانها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والسياسي والأمني والعسكري. ولهذا نرى أغلب المسلمين قد تقولبوا الآن ضمن قيم قضايا محدودة منها جسد المرأة ولباسها وعذاب القبر والطقوس وأهوال يوم القيامة والذهاب إلى العمرة وحساب السيئات والحسنات المترتبة على كل عمل وهكذا. بلادهم محتلة ومتخلفة وفقيرة، وهم مشغولون بالشياطين التي تجمعها ابتسامة المرأة.
حول المسلمون في أغلب الأحيان الصلاة إلى مجرد حركات لا تمنعهم عن الفساد والإفساد، ولا تردعهم عن النفاق والكذب والخداع، ولا عن الفتن والتجني والمغيبة والتآمر والدسائس والتضليل والخيانة. وحولوا الحج إلى مجرد طقوس خالية من المعنى الاجتماعي والعلمي والسياسي والإنساني، والصوم إلى الهروب من النهار ليحولوه إلى ليل. أعداد متزايدة من المسلمين تهرب الآن من رمضان لتعطيل العمل لكي تمتد ساعات النوم في النهار، وتطول ساعات السهر. أما الطعام فيكثر هدره في رمضان، والولائم الرمضانية الفاخرة تقام ليجد جزء كبير من الطعام مقره في مكب النفايات.
الطقوس درب من دروب الوثنية أو الخوف من المجهول أو الهروب من الحياة الدنيا، أما الشعائر فدرب إيماني تكنسب قيمتها من خارج ذاتها لتترجم خيرا يعم على الشخص ومحيطه ومجتمعه.
الإيمان الإسلامي
للوضوح، يقتضي الإيمان في الإسلام الأمور التالية، والتي أراها رئيسية وليس شاملة:
1- توحيد الله عز وجل، والإيمان بملائكته ورسله وكتبه واليوم الآخر.
2- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والمنطلق من قيمة إسلامية عليا تقول إن ذكر الله أكبر. وذكر الله ليس فقط بالكلمات وإنما بعمل الخير. وإقامة الشعائر من صلاة وزكاة وصوم وحج والتي تكتسب قيمتها من خارج ذاتها.
3- إقامة الأمة الإسلامية لأنه لا يمكن بدونها إقامة دولة إسلامية أو تطبيق التعاليم الإسلامية بصورة صحيحة. الأمة تقوم على الأمور التالية والتي تأخذ قيمتها من ذاتها:
أ- العلم والذي استحوذ على حوالي 12% من آيات القرآن الكريم سواء كان بالنص القطعي أو الدلالة على الفعل العقلي.
ب- العمل الذي يشكل العمود الفقري للإنتاج والاعتماد على الذات والاختراع الذي يقدم دائما الجديد للإنسانية جمعاء.
ت- الجهاد بشقيه الذاتي والموضوعي، الداخلي والخارجي الذي يرتقي دائما بالنفوس، ويصون حياض الأمة ويردع أعداءها.
ث- الأخلاق والتي تقدم من خلالها الأمة المثل للأمم الأخرى.
4- إقامة العدل بين الناس، وتوفير الأمن والطمأنينة لهم، وتمكينهم من التغلب على صعاب الحياة وشق طريقهم نحو التقدم والرخاء والسلام، وبذلك تكون الأمة خير أمة أخرجت للناس.
بين التدين والإيمان
الإيمان هو الذي يجمع المسلمين ويوحدهم لأنه يقوم على أسس ثابتة من اليقين والعلم والبناء والعطاء والإنتاج والعدل والأخلاق القويمة التي تعزز الثقة والعمل الجماعي والمحبة والتآلف والتضامن والتكافل. أما التدين فيمزقهم ويحولهم إلى مجرد كسالى ينتظرون الجنة من خلال طقوس لا ترتقي بهم إلى السمو الأخلاقي والجد والاجتهاد والعمل. لقد تفرق المسلمون عندما أداروا ظهورهم لمقومات النجاح، وطفقوا يبحثون عن خيالات غيبية تقعدهم عن العمل، وتدفعهم نحو ظنون إيمانية لا علاقة لها بالأرض أو محتوى الإيمان. تلهى المسلمون بقضايا طقوسية وكهنوتية حتى أصبح عذاب القبر قضية كبرى تشغلهم، وأهوال يوم القيامة وسواس يكبل نشاطهم. شعر امرأة الآن أهم بكثير من إقامة جامعة عظيمة تخرج العلماء، وتكبيرات صلاة الجنازة ترقى على الاكتشاف العلمي، وطول اللحية أهم من تحرير الأقصى، والاقتتال الطائفي أهم من توحيد الأمة، وسواقة المرأة للسيارة أهم من وجود قوى الغزو والطغيان على أرض المسلمين، وجوزة الطيب أهم من الإنفاق في سبيل الله، الخ.
الفرق الإسلامية هي التي عززت فكرة التدين على الإيمان، وقد شجعها الحكام السابقون واللاحقون على ذلك لما في ذلك من إلهاء للناس عن الظلم والاستعباد ونهب الأموال. الفرق الإسلامية فرقت ودمرت وخربت، وحرفت الدين الإسلامي عن مساره الصحيح. وكم من الممارسات الإسلامية تخرج الآن عن تعاليم الدين، وتسيء له وإليه ولكل أتباعه.
المسلمون عموما، وليس بصورة مطلقة يسيئون للدين الإسلامي بسبب تخلفهم وكسلهم وعجزهم وهزائمهم واستهتارهم بأموالهم وثرواتهم واتكالهم على الآخرين. إنهم يتنابزون ويقتتلون ويتخاصمون ويتلاعنون فيما بينهم، بينما تئن بلادهم من ظلم الآخرين واستغلالهم واضطهادهم. بل أن جزءا لا بأس به من المسلمين الآن يصد عن سبيل الله، ويشوه صورة الإسلام وصورة سيدنا محمد عليه أفضل الصلاة والتسليم. إنهم يخونون الله ورسوله، وهم الذين دفعوا الآخرين لشتم سيدنا محمد وسبه في العلن وفي مختلف وسائل الإعلام لأنهم هم ينطقون باسمه ويدعون السير على خطاه. محمد عليه السلام منهم براء، وهم في الحقيقة للشيطان أولياء.
ولهذا نقول لا للتدين، ونعم للإيمان الذي يقيم العدل والميزان، ولا يبخس الناس سواء كانوا مؤمنين أو غير مؤمنين.
No comments:
Post a Comment