Friday, 9 January 2015

{الفكر القومي العربي} يحيى حسين: أن تُصادق مسيحياً من أسيوط

 
أن تُصادِقَ مسيحياً مِنْ أسيوط
بقلم المهندس/ يحيى حسين عبد الهادى
(الأهرام 10/1/2015)
 
أعتبرُ نفسى رجلاً سعيد الحظ لأسبابٍ كثيرةٍ.. من بينها أننى نشَأتُ فى مدينة أسيوط لأبٍ قاضٍ أزهرىٍ.
وأسيوط مدينةٌ ذات طبيعةٍ خاصة .. إذ أن نسبة المصريين المسيحيين بها كانت فى هذا الوقت (ولا زالت) تزيد عن نسبتهم فى أى مدينةٍ أخرى فى مصر (يشكلون حوالى 25 إلى 30 فى المائة من سُكّان المدينة) .. مِن المُفترض والحالُ كذلك أن تزيد احتمالات ما يُسمّى حوادث الفتنة الطائفية .. لكن الواقع كان (ولا زال) غير ذلك تماماً .. إذ أدّت النسبةُ الكبيرة إلى حتمية التداخل ومِن ثمّ التعايش بصورةٍ لا يوجد مثيلٌ لها إلا فى شُبرا .. لم يكن يخلو منزلٌ تقريباً من سكّانٍ مسلمين ومسيحيين .. وبما أن علاقة الجيرة أقوى مِن علاقة الأخوّة فقد لَعِبَتْ ربّات البيوت الدور الرئيسى فى التقريب بين الأُسَر وتنشئة الأطفال كأخوةٍ رغم اختلاف الأديان.
عندما بلَغتُ وأخى سِنّ الحضانة، لم يجد أبى الشيخ الأزهرى شديد التديّن أىَّ حرجٍ فى أن يُدخلنا حضانةً تملكها وتُديرها جمعيةٌ خيريةٌ مسيحية .. وعندما أراد أن يُلحقنا بنادٍ رياضىٍ لم يتردد فى اختيار النادى الأقرب وهو نادى جمعية الشُبّان المسيحية رغم وجود نادٍ لجمعية الشُبّان المسلمين .. أسهَمَت الرياضة والأنشطة فى تمتين علاقاتٍ سوّيةٍ بين الشباب وإطفاء نيران التعصُب .. كان نجوم النادى من الديانتيْن يَلقَوْن التشجيع بنفس الحماسة، لأنهم ببساطةٍ يُمثلون نادينا جميعاً .. أذكر ثلاثى الأشقاء المسلم (رماح ورامى ورفقى) وثلاثى أرميا المسيحى (الأشقاء كمال وسامى ومجدى) وغيرهم .. لاحقاً حدّثنى عالِمُ الجيولوجيا الفذّ رشدى سعيد عن إنشائه قسم الصُبيان فى جمعية الشُبّان المسيحية، فقلتُ له ألا تعلمُ أننى كُنتُ وزير ثقافة حكومة هذا القسم فى نادى أسيوط بعد إنشائك له بحوالى أربعين سنة .. ضحك الخبير العالمى عندما قلتُ له أنها كانت حكومة كفاءات لا مكان فيها للمُحاصصة الحزبية أو الطائفية.
كانت أسماء المسيحيين كما تلاحظون من الأسماء المُشتركة .. لاحقاً فى عصر السادات (غَفَر الله له) بدأتْ العودة للأسماء القبطية المصرية الخالصة .. وبعد ذلك، ومع تراجع دور مصر وتزايد الشعور بتبعية النظام، اختفت الأسماء القبطية لصالح الأسماء الغربية .. فحّل (مايكل) مكان (ميخائيل) و(جون) مكان (يحيى).
فى الشهادة الابتدائية كان أستاذ اللغة العربية عمر الواحى وأستاذ الحساب نجيب بسطا يتنافسان فى تنظيم مجموعات تقوية مجانيّةٍ (فى المدرسة) للتلاميذ المتعثرين بِغّضّ النظر عن ديانتهم .. لم تكن قد ظهرت بعدُ مجموعات التقوية الطائفية فى المساجد والكنائس.
فى انتخابات اتحاد الطُلاّب كان لا بد مِن الفوز أولاً على مستوى الفصل قبل التصعيد .. كانت المشكلة أن فصلى هو فصل المتفوقين وكانت أغلبيته من المسيحيين ومُنافسى مسيحى ، أى أن النتيجة محسومةٌ له طائفياً .. فإذا بى أحصد الأغلبية بكل ما تحمله النتيجة من دلالات .. كُنّا مجموعةً مُتلاحمةً من الأصدقاء بلا عُقّد .. كُنّا شديدى التديّن وشديدى الترابط فى آنٍ واحدٍ .. فلا المُسلمُ تَنَصّر ولا المسيحى أَسْلَم.
كُنّا نتبادل النكات .. ونكتشف أنها واحدةٌ .. بطلُها عند المسلمين قسيس وعند المسيحيين شيخ .. لذلك تَفَهّمتُ ما فَعَله الصديق نجيب ساويرس منذ سنواتٍ عندما وضع على موقعه الإلكترونى دعابةً كاريكاتيرية وَصَلَته من صديقٍ (مُسلمٍ على ما أذكر) فقامت الدنيا ولم تقعد .. نجيب تصرّفَ بتلقائيةٍ كمصرىٍ لا كمسيحى .. ولم يَدْرِ أن الزمن غير الزمن.
هل كانت العلاقاتُ مثاليةً؟ بالطبع لا .. ولكنها مشاكل معاملاتٍ بين مصريين لا بين مسلمين ومسيحيين .. هل لم يكن هناك تعصب؟ بالطبع كان هناك متعصبون هنا وهناك لكن العقلاء كانوا ولا يزالون أكثر .. والدليل أن أسيوط تكاد تنعدم فيها حوادث ما يُسمّى الفتنة الطائفية (أمسكوا الخشب).
كان أبى الذى لم يغادر مصر إلا للعمرة يردد ما نقوله وكأنه من المُسلّمات بأن أكثر مسلمى العالم تديُّناً هم المصريون .. لكنه كان يؤمن كذلك بأن أكثر مسيحيى العالم تَدَيُّناً هم المصريون أيضاً .. سافرتُ بعد ذلك إلى بلادٍ كثيرةٍ وتأكّدتُ مِن سلامة استدلاله .. فالمسيحية فى أصلها ديانةٌ مُسالمةٌ، والمصريون على العموم شعبٌ مُسالمٌ، والصعايدة منهم يميلون للالتزام والمحافظة .. فإذا انصهر كل ذلك فى سبيكةٍ واحدةٍ، صِرتَ أمام تكوينٍ إنسانىٍ فريدٍ يختلف عن كل مسيحيى العالم ..  بشرٌ غير أولئك الذين يملأون الدنيا قتلاً وظُلماً باسم المسيح عليه السلام.
فى رحلة العمر أعتز بذخيرةٍ من الأصدقاء .. مصريين وعَرَبا .. مُسلمين ومسيحيين .. هم عزوَتى فى السرّاء والضرّاء .. لكن يبقى الأحباب من مسيحيى أسيوط فى ركنٍ ركينٍ من الفؤاد بعد أن خَبَرتُهم وخَبَرونى .. كنتُ أقول لابنى محمد الذى نَشَأَ فى عمارةٍ بمدينة نصر بها 24 أسرة، كلُهم مسلمون إلا أسرة مسيحية واحدة ليس لها أبناء فى مثل سِنّه (أنا أسعد مِنك حظاً .. فأنت لم تُجرّب يا بُنّى نِعمةَ أن يكون لك صديقٌ مسيحىٌ  .. يا ليتك تُصادقُ مسيحياً مِن أسيوط) .. لم يستجب الله لدعائى، إذ أن ما حدث بعد ذلك أنه صادَقَ مُسلماً من المنوفية .. كان الله فى عونِه (أقصد صديقه طبعاً).
أقول قولى هذا ولستُ مُرشحاً فى أسيوط، لا فردى ولا على أى قائمة .. ولكنها ذكرياتٌ طافت بخاطرى مع عيد الميلاد .. جعل الله أيام المصريين كلها أعياداً .. وأنتهز هذه المناسبة لأقول لأصدقائى رضا حلمى صادق ووجيه متواضع سمور وجمال نجيب إلياس وغيرهم من مسيحيى أسيوط ومعهم صديقى نجيب ساويرس (رغم أنه من سوهاج) كل سنة وأنتم طيبون ومصر كما نُحبها جميعاً: طيبة ومتسامحة ومتماسكة.

No comments:

Post a Comment