معضلة اختيار المحافظين، غنيم للدقهلية مثلا، وهلم جرا
بقلم
دكتور محمد نبيل جامع
أستاذ علم اجتماع التنمية بجامعة الإسكندرية
3 يناير 2015
أهل الحل والعقد هم على ما هم عليه، ونحن الذين اخترناهم عن طواعية واقتناع بدءًا برئيس الجمهورية نزولا إلى من اختارهم هو في بطانته. هم الآن الذين يختارون المحافظين الجدد. هذا حقهم، ولكن من واجبهم أيضا أن يتلمسوا حس الشعب وآراء المختصين واقتراحاتهم، ويأخذوا تلك الآراء والمقترحات بكل جدية واستعداد لتقبل الرشيد منها، بل وشكر أصحابها. وعلينا نحن الدهماء في النهاية أن نقوم بواجباتنا مراعاة لحساب المولى سبحانه وتعالى.
طبعا معايير المحاصصة، جيش وشرطة وقضاء وأساتذة جامعات ورجال أعمال... إلخ ... تهريج على أعلى مستوى لا يليق إلا بالمجتمعات المتخلفة التي تأخذ بالموروث وليس بالمكتسب Ascription vs achievement، والشكر لبارسونز صاحب المصطلحين، وهو أيضا أمر لا يليق إلا بالمجتمعات البدائية والبدوية والإقطاعية التي تأخذ بالولاء للوالي وليس بالإخلاص للعمل أو الوظيفة Fealty vs fidelity. وحرام على أولياء الأمور أن نجد من بين تلك المجتمعات البدائية والبدوية والاقطاعية ما قد تفوق علينا اليوم، نحن أصحاب أولى حضارات هذه الدنيا العجيبة.
يقول المهندس محلب والوزير لبيب أن الاختيار سيتم طبقا للكفاءة. ويا ليتهما يضعان نقطةًً بعد الكفاءة، والكفاءة فقط، وأن يتغاضوا عن مبدأ المحاصصة القميء الذي يتناقض بالضرورة مع الكفاءة، ذلك لأن الكفاءة في حالة المحافظ لا تتناسب بالضرورة مع الشخصية التي تخرطها الوظائف لأصحابها. فالمهنة، كما أدرسها لطلابي، هي مخرطة الشخصية تشكلها تبعا لثقافة تلك المهنة. الكفاءة تخص المهمة الخاصة، فمهمة الجراح تستلزم كفاءة غير تلك الخاصة بعامل البناء، وكفاءة الصحفي تختلف عن كفاءة صانع الأحذية، وهلم جرا.
فما هي الكفاءة بالنسبة للمحافظ؟ المحافظ أولا مسئول عن تنمية محافظته اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا ونفسيا وأمنيا وتحويلها إلى محافظة متطورة ديناميكية ذاتية التقدم ومسالمة للبيئة. إذن، فقبل البحث عن كفاءته لابد من توفير الإمكانيات المساعدة له، ألا وهي أولا الحرية والاستقلال عن طريق اللامركزية السياساتية، وليست السياسية بالضرورة، بالإضافة إلى اللامركزية المالية والإدارية وتوفير الدعم التقني والفني كلما طلب ذلك من الدولة، أما أن يكون منفذا لأوامر وتعليمات عليا فهذا لا يصلح مع كفاءة المحافظ إلا لو كانت مبنية على الولاء والموروث سابقي الذكر أعلاه، وليستمر الأمر على ما هو عليه، ولا نجعل من المحافظين وتغييرهم كباش فداء لفشل السياسة العامة للدولة.
إذا أخلصنا لمبدأ الكفاءة، فما هي عناصر الكفاءة بالنسبة للمحافظ:
أولا: صلاح الخلق والتقوى، وكانت هذه أولى نصائح الفاروق لولاته في الأمصار. فليس من المعقول أن يكون الوزير أو المحافظ، إن كان مسلما على دين محمد صلى الله عليه وسلم، لا يصلي صلاة الجمعة حيث يجلس في مؤتمر علمي في كافيتريا فندق يحضر فيه مؤتمرا وجمهور المسلمين يصلون الجمعة في صالة كبيرة بالفندق يفصلها عن الكافيتريا حائط. هذا المشهد حدث بالفعل وقد شاهدته بنفسي لرجل عين وزيرا بعد ذلك.
ثانيا: أن تتوافر لديه المعرفة ثم الرغبة ثم القدرة. المحافظ يجب أن يعرف مهام المحافظ ويتعمق في المزيد من معرفتها، ثم يكون راغبا فعلا في القيام بالعمل وتحمل تضحياته، ثم أخيرا يكون قادرا على القيام بالعمل. المعرفة والرغبة لا يحتاجان لتفصيل سوى أن اختيار المحافظ من بين أبناء محافظته يدعم كلا من المعرفة والرغبة، أما القدرة فهي بيت القصيد. القدرة ثلاثة أنواع قدرة تنظيمية (هي المحتوى الأعظم لأصحاب المناصب العليا)، وقدرة علاقية إنسانية (هي المحتوى الأعظم لأصحاب المناصب الوسطى)، وقدرة فنية (هي المحتوى الأعظم لأصحاب القيادات الدنيا). طبعا المحافظ، رئيس الجمهورية بمحافظته بتعبير الرئيس السادات رحمه الله، هو من المناصب العليا. ولذلك فحق عليه أن يمتلك الأقصى من القدرات التنظيمية. ببساطة يجب أن يكون مديرا فذا، وهذا هو بيت القصيد. ثم عليه أن يكون أيضا صاحب قدرات علاقية إنسانية عالية، أي يتسم بلين الجانب، يستمع، يتقبل، متواضع، يحسن التعبير، يحسن الخطابة ومواجهة الجماهير، يوفق بين المتناقضات، ويجيد التفاوض، ويخلو من الدكتاتورية، ..... إلي غير ذلك. أما أن يكون ذا قدرات فنية فهذا ما لا يحتاج منه إلا إلى أقل القليل.
وللمزيد من الإيضاح دعنا نذكر بعض بنود القدرات التنظيمية والإدارية للمحافظ المرتقب:
1. يعلم معنى الحكم الرشيد بما فيه من إدراك لأهمية المشاركة الشعبية والمحلية، وضرورة الالتزام بتطبيق القانون، والالتزام بالشفافية والصراحة، وضرورة استجابة المؤسسات والمرافق لرغبات وحاجات المواطنين، والقدرة على تحقيق التوافق والسلام الاجتماعي، ومراعاة تحقيق العدالة أساس الحكم، ومراعاة تحقيق الكفاءة الاقتصادية والفعالية الهدفية، والمساءلة وتحمل المسئولية، وأن يكون ذا رؤية استراتيجية بما يستلزمه ذلك من ثقافة وفهم للأوضاع التاريخية والثقافية والاجتماعية لمحافظته، وهذا يذكرنا بأهمية أن يكون المحافظ من أهل المحافظة.
2. يجب أن يدرك المحافظ أنه ليس لمجرد اختياره لشخصه فهو القادر على كل شيء، وإنما عليه أن يدرك أنه بمفرده لن تأخذه جهوده خارج مدخل غرفته الفارهة. عليه أن يدرك أن الإدارة عمل جماعي، ومن ثم فعليه أن يوفر الأدوات التي تمكنه من ذلك والتي تتمثل في توفير المعلومات والبيانات والبحث عنها، ووضع الأولويات، وفريق العاملين معه، واختيار أشخاص داعمين ذوي قدرات وإمكانيات معاونة، ورشد توجيه الموارد المالية، واستغلال منبره كمحافظ ينظر إليه كحاكم وقائد بل وزعيم يلهم مواطنيه للمشاركة والعمل والصبر والإخلاص.
3. إن شرح النقاط السابقة يتطلب مجالا أوسع بكثير من حدود هذا المقال، ولكن للتوضيح فقط دعنا نوضح بإيجاز شديد معنى أن يكون المحافظ ذا رؤية ستراتيجية، ثم معنى قدرته على تحقيق الكفاءة الاقتصادية والفعالية الهدفية. الرؤية الاستراتيجية يسهل إدراك معناها إذا ما قارناها بالتخطيط بعيد المدى Long-term planning (المطلوب أيضا بالمناسبة) والذي يحدد أهدافا بعيدة تتحقق بتحقيق أهداف مرحلية ولكن ينظر المخطط بعيد المدى إلى ما لديه من إمكانيات وأوضاع يستغلها لتحقيق تلك الأهداف وبذلك فهو يبدأ بالواقع أيا كان. أما المخطط الاستراتيجي Strategic planner أو صاحب الرؤية الاستراتيجية فهو يبدأ بالمستقبل المرغوب ثم يعود إلى الوراء ناظرا لما يتطلبه هذه المستقبل من أوضاع ومتطلبات معينة، ينظر إليها بدورها ويحدد ما تتطلبه هي من أوضاع ومتطلبات، وهكذا إلى أن يصل إلى الحاضر حيث غالبا ما لا يجد ما تم تحديده، ومن ثم فهو يدعو إلى تغير الواقع تغييرا جذريا شبه ثوري وهذا هو جوهر التنمية الناجحة بالفعل.
4. النقطة الثانية هي تحقيق الكفاءة الاقتصادية والفعالية الهدفية، فالمحافظ عليه أن يعمل على تحسين كفاءة وفاعلية البرامج القائمة بالفعل. ويجب ملاحظة أن الكفاءة تتعلق بتقليل تكلفة الوحدة من المنتج النهائي تحت حجم التشغيل الأمثل للمنظمة أو المنشأة، أما الفعالية فهي مدى تحقيق الأهداف بصرف النظر عن تكلفتها. هناك مبادرات لتقليل التكاليف الإدارية من خلال تجميع الأنشطة المتشابهة والتوجه نحو اقتصاديات السعة لزيادة الكفاءة، وكذلك تجميع الإدارات المتشابهة في إدارة واحدة بالنسبة للأجهزة الحكومية، والمراجعة الشاملة للعمليات الحكومية لاكتشاف فرص التوفير والتدبير، ومحاربة الفساد والنصب والاستغلال في البرامج الحكومية، وتقديم الخدمات المشتركة بين الهيئات أو بين المناطق، ودمج العاملين وتمكينهم من المشاركة في الإدارة الحكومية، وإعادة النظر في تقييم الخدمات المقدمة بالحكومة ووضع أولويات مناسبة.
الخلاصة: إذا لم يكن من سيختار المحافظين الجدد مقتنعا عن يقين ببعض مما ذكر أعلاه نظرا لطبيعته وشخصيته اللتين خرطتهما السنون والأعوام والخبرات السابقة فلن يكون الاختيار سليما. ولذلك إرضاء لله سبحانه وتعالى وإبراءً للذمة يجب أن يُترك اختيار المحافظين للشعب ونفعل ما تفعله الدول المحترمة وهو تطبيق اللامركزية وانتخاب المحافظين، ونضع المسئولية في عنق الشعب ليختار من يستحقه بنفسه. والله، سألني البروفيسور يانج الذي استضافني في غرفته أثناء مهمة علمية في جامعة كورنيل عام 2000 وهو يراني أبحث في دراسة اللامركزية وسألني هل عندكم انتخاب محافظين؟ فقلت لا، فقال لا فائدة فيما تفعل قبل أن يحدث ذلك عندكم. ولذلك فإني كنت أود أن أنتخب الأستاذ العظيم الدكتور محمد غنيم محافظا للدقهلية مسقط رأسي، فهو كما قلت أعلاه تقي، عارف، أرجو أن يكون راغبا، وهو قادر بالتأكيد فقد أثبت أنه إداري فذ بإنشائه مركز الكلى والمسالك البولية بتشجيع من الرئيس السادات والتوصية باستقلاله ماليا وإداريا (اللامركزية)، وظهرت عظمة هذا الفارس حين فوجئ الناس بانسحابه بهدوء مؤكدا أنه ليس بمفرده صاحب هذا الإنجاز الضخم، وإنما هو حصيلة الجهد الجماعي لمجموعة يقودها مدير فذ، وهذا هو ما يجعل الدكتور غنيم مثالا من الطراز الأسمى للمحافظين المرتقبين.
Prof. Mohamed Nabil Gamie
Department of Rural Development, College of Agriculture,
Alexandria University, Al-Shatby, Alexandria, Egypt
mngamie@yahoo.com
01227435754
No comments:
Post a Comment