المحطة الأخيرة لمواطن من تيرن بير
صباح علي الشاهر
برك ألقطار...
رفع حقيبته الصغيرة بيد، وقبض على عصا بيد أخرى... إنفتحت باب القاطرة تلقائياً، وبدأ هبوط المسافرين المتسارع... كان آخر من هبط تتقدمه عصا... طالع إسم المدينة على اللوح الألكتروني... أخيراً تحقق حلم...
في محطة القطار قبل نصف قرن أحس وهو يلج القاطرة الخضراء أن حلمه قد تحقق... كان الأهل والمعارف وحشد من الفضولين في توديعه... أخرج رأسه من شباك القاطرة، ونثر الإبتسامات... صافح عشرات الأكف لا على التعيين، وعندما تحرك القطار لوّح بيده لمن كانوا يلوّحون له بأيديهم أيضاً... لم يكن يحسب والقطار يخترق البساتين أن سوف يحن يوماً ما للصباحات الرتيبة، وللقيلولة الإجباريّة عند الظهاري، وللأماسي الرخوة المتمطيّة بكسل... كانت السواقي تمرق من أمامه، ولكن لم يكن يراها... كان يحلم بالعالم الآخر، بالنهارات الصاخبة والليالي المضاءة، بعالم خيّل إليه أنه سيدخله غازياً وفاتحاً، سلاحه الرغبة العارمة بإمتلاكه.
كان رصيف المحطة طويلاً ومسقوفاً، لا أثر لأشجار اليوكالبتوس العملاقة، ولا لشجيرات الدفلى التي كان يرقد تحتها وجوارها إتقاءاً للفح شمس الهجير... كان خاله يعمل في المحطة... يقولون أنه رافق «الدريول» الألماني كمساعد له حتى برلين عند إنطلاق أول قطار على سكة حديد بغداد برلين، وقد كان هذا لوحده كافٍ لجعله يجول في المحطة بحرية حتى لكأنها محطة خاله...
لماذا تتركون حمير الله وتركبون الشمندفر؟ كانت جدته العمياء تردد هذا القول الذي شاع حينها، لكن لا يعرف لماذا كانوا يسمون القطار «الشمندفر»؟...
كان يسخر من قول جدته لا لسبب سوى لأنه كان يفكر في الذهاب إلى هناك، إلى العالم الآخر، وليس بمقدور حمير الله إيصاله إلى هناك حتى لو كتب له عمران، لا عمر واحد...
كان القطار الذي يخترق المدينة هو الشيء الصاخب الوحيد فيها، يرعد، ويعوي، وينث «الشانتين» ويبرق ليلاً...
كانت الأمهات تحذر الأطفال من الإقتراب من القطار الذي ثرم دعبل وعبدو، وقطع رجل سرحان، غير أنه لم يكن يُعير إهتماماً لنصائح أمه... كان يقضي أوقاته في المحطة...
وهو صغير كان يراوده الحلم الذي ما فارق مخيلته في صباه بأن يأخذه القطار بعيدا إلى تلك المدينة التي ذهب إليها خاله مع الدريول الألماني، وإلى ما هو أبعد... زاد أمله بتحقيق حلمه بعد عودة سعيد بن سالم الذي غاب فجأة... كان سعيد غريب الأطوار، مُلتاث العقل كما يقول والده. دام غيابه نحو عام قلب أهله خلاله الدنيا بحثاً عنه، ونشروا صورته في الجريد عدّة مرّات، وبعد أن يأسوا منه حطَّ به القطار في المحطة ذات يوم... قالوا أنه لم يكن يحمل معه سوى حقيبة صغيرة...
- "إنه عالم آخر... آخر تماماً..." هذا ما كان يقوله سعيد رداً على الأسئلة التي يواجهونه بها عن العالم الذي ذهب إليه وعاد منه.
-كيف مختلف؟
- مختلف في كل شيء... الشوارع الإسفلتية تلمع، حتى إنك إذا أردت تمشيط شعرك فلا تحتاج لمرآة، ما عليك سوى أن تنظر الأض التي تعكس صورتك، وتمشط على هواك، وهم هناك لا يشربون الماء، الماء عندهم للغسل وللزرع فقط... يشربون بدله الخمرة وأنواع أخرى من الشراب..
بعد أشهر من عودة سعيد بن سالم إمتطى هو القطار، ممنياً نفسه بالشوارع التي تعكس صورة الإنسان كما المرآة...
.....................................................
لولا الإسم الذي إرتسم أمامه في اللوحة الألكترونية لقال أنه أخطأ... أهذه هي فعلاً المحطة؟... إذا كانت هي فأين المدينة؟!
كانت المحطة ملتصقة بالمدينة، وها هو الآن لايرى بعد المحطة سوى البرية...
سأل شرطياً شاباً: أهذه هي مدينة.....؟
-نعم إنها هي، لكنك لا تستطع الذهاب إليها مشياً على الأقدام، عليك أما أن تركب الباص هناك، وأشار بأصبعه إلى موقف الباص، أو تستأجر تكسياً، فالمسافة بين المحطة والمدينة تحتاج إلى ربع ساعة بالباص...
- ألا توجد محطة قطار غير هذه؟
- كلا..
نظر الشرطي إلى الرجل السبعيني وسأله: هل أنت غريب؟
- أنا؟!... لا... هذه مدينتي... أنا مولود فيها...
هزَّ الشرطي رأسه مستغرباً، ومضى لحال سبيله...
****
أوشكت نقوده على النفاذ... لقد مضت أشهر ثلاث على وصوله لهذه المدينة المنبتة في طارف الدنيا... في الشهر الأول كان قد نسي كلام سعيد، وكان مشغولاً بالإستكشاف... يستيقظ صباحاً فيدور في شوارع المدينة وأسواقها وحدائقها حتى نهاية النهار، ثم يقضي الجزء الرئيسي من الليل في أحد البارات التي تكون عادة قريبة من الفندق الذي يسكن...
.....................................................
في الشهر الثاني لم يعد يستيقظ مبكراً... كان يواصل النوم إلى ما بعد الضحى، ولم يتجول كثيراً، إذ كان يكتفي عادة بالسير في الشارع الذي يوجد فيه فندقه، وفي الشوارع المتفرعة منه...
في الشهر الثالث بدأ يتذكر كلام سعيد، خصوصاً عندما يقف أمام المرآة التي عُلّقت في غرفت... تلك المرآة الرمادية الحواشي التي كانت تشوّه صورته وتصعّب مهمته في تحديد شوارب.
****
جمعتهما مائدة واحدة... كل شيء جرى بمحض الصدفة... أعجب كل منهما بالآخر، و بالأحرى أُعجب كل منهما بطريقة شرب الآخر... كان الكهل الريفي يكرع قدح البيرة دفعة واحدة، وكذا كان يفعل الشاب الأسمر الآتي من بلاد الشمس... جلبت طريقة شربهما للبيرة وكمية ما شربا إهتمام رواد الحانة الذين طفقوا يتابعون المشهد بلذة...
لم يتبادلا سوى القليل من الكلمات... عينا الريفي المحّمر الوجه تتمعنان بالفتى الأسمر الذي بدا يلوك الكلمات قبل أن يخرجها من فمه...
كانت أسئلة الريفي مُقتضبة، لكنها مُحددة وواضحة، وإجابات الفتى الأسمرأكثر إقتضاباً، لكنها عائمة... فهم الريفي من إجاباته المقتضبة كل شيء، أو كلما أراد معرفته، أما هو فلم يفهم شيئاً...
لم يفهم شيئاً... لم يدرك شيئاً...
إستيقظ ذات صباح... فرك عينيهّ، ثم قلّب نظراته في المكان الذي بدا شديد الغرابة على على نحو مثير...
هل هو عين الصباح بعد الليلة إياها؟!... لا يدري، ولم يخبره أحد...
.....................................................
أنزله الباص في ميدان واسع... الميدان يمور بالحركة...
سأل فتى وجده أمامه: وليدي كيف يمكنني الذهاب إلى السوق؟
نظر الفتى إلى السائل وسأله: أي سوق؟
- السوق الكبير؟
هزَّ الفتى رأسه: آسف، لا أعرف عن ماذا تتكلم؟
- السوق المسقوف؟
-آسف... أعذرني ياعم، ولكن يمكنك النظر إلى الخارطة هناك...
وأشار بيده إلى مكان تنتصب فيه أكشاك التلفونات...
ذهب إلى هناك وتبحرّ بالخارطة، لكنه لم يفهم شيئاً. بدت الأسماء بإجمعها غريبة عليه... بحث عن عكد الشط... عن الربضة... عن القشلة... لكنه لم يجد لهذه الأماكن من أثر. أخيراً وطد العزم على أن يتجه بأتجاه النهر، فالنهرهو الدليل... قد تتغير الأسماء، لكنما الأشياء لا تتغير... حتى الفرات لم يُكتب أسمه على الخارطة. أشير إليه بخط أزرق قطعته سبع جسور... ياه!... كان في المدينة جسر واحد... جسر إذا ما أرادت سيارة عبوره قام الجسّار بإيقاف حركة السابلة... إختار السير في شارع ينتهي في الشارع المحاذي للنهر... إذا وصل النهر، فسوف يتوضح له كل شيء. كان الشارع أكثر طولاً مما حسب وقدر، لكنه أصر على قطعه حتى النهاية... لا بأس، فهناك عندما يصل شارع النهر سيرتاح قليلاً في مقهى الجسر... مقهى الجسر ما كانت بعيدة عن بيتهم، لا يفصلها عن عقدهم سوى السوق والسراي والخان... من المؤكد أن صاحب المقهى قد قضى نحبه، فقد كان الرجل يوم فارق هو المدينة كهلاً، ولكن هذا لا يهم، إذ من المؤكد أن المقهى باقية، وكائن من كان صاحبها الآن فهو لا بد وأن يعرف إن لم يكن أبي فأحد أخوتي... إذا كانت هذه هي المدينة حقاً فقد وصلت إلى حيث لن أضيع أبداً... عندما أصل وأسترح قليلاً سأقوم بالتعرف على المدينة، والناس... كل شيء سيجري على مايرام، وهذا الذي أحس به، والذي قد يكون تعبا، ليس إضطراباً ولا ضياعاً، فمهما يكن لن يضيع إنسان في مسقط رأسه... محال...
بدا الرصيف الذي كان يدبي على إسفلته عريضاً بشكل مبالغ فيه، أما البيوت على جانبيّ الشارع فقد بدت مترفة... يوم غادر المدينة لم يكن فيها بيتاً واحداً كهذه البيوت... حقاً لقد تغيرت المدينة، وربما سيُصعّب هذا بحثه، ولكن لا يهم، فقد قطع المشوار الأطول ووصل نهاية المطاف، والفرات لابد وأن يعترضني بين لحظة وأخرى، فإن تغيّرت المدينة فالفرات لا يغيّر مجراه. آه! ... ها أناذا أشم نكهته... نكهة الفرات... لقد وصلت... الفرات... الفرات!!...
صبَّ الشارع في شارع عريض آخر، لكنه لم ير الفرات، شمَّ نكهته لكنه لم يره، فأين الفرات؟...
كان الشارع بممرين عريضين، وجزرة وسطيّة مُشجرة... سأل عابر سبيل: وليدي أين الفرات؟
أشار عابر السبيل إلى السياج العالي وراء الرصيف المقابل، ولم يقل شيئاً...
حاول العبور إلى الرصيف الثاني، لكن السيارات كانت تمرق مُسرعة، لاحظ شرطي مرور محاولات العجوز لإجتياز الشارع، فتقدم منه: لا يمكن العبور من هنا، إذهب إلى هناك، واعبر من النفق..
إتجه إلى النفق، وولج فيه... غاص لدقائق، ثم بان شعر رأسه الأشيب في الجهة المقابلة... تلّفت يميناً وشمالاً، ثم إقترب من السياج العالي ونظر إلى ماخلفه... كان الفرات هناك، ولم يكن مُترعاً مهيباً كعادته... أهذا الفرات أم ساقية؟... شعر بخيبة... ماذا جرى له؟... ماذا جرى للفرات، ومن أبتلعه؟... أبصر الجسور الحديديّة تجثم على ما تبقى من الفرات... لم يكن على سطح الفرات مشحوفاً، ولا أبصر صياداً، ربما لا يوجد ما يمكن إصطياده في هذه الساقية... أيمكن أن يكون هذا هو الفرات؟!
مدّ نظراته الكليلة في الأقاصي فلم يلمح للبساتين أثر... الفرات لم يغير مجراه، لكنه لم يعد هو الفرات، والبساتين، أين البساتين؟... لا يمكن أن تكون قد نُقلت أيضاً كما نٌقلت محطة القطار؟
لا الفرات هو الفرات، ولا للبساتين أثر، ولا للسوق المسقوف وجود، فكيف أهتدي للطاق ولبيتي؟!
أحسَّ بالتعب الشديد، فأقعى متكئاً على السياج. كانت العمارات تمتد على جانبي ما تبقى من الفرات، وقلَّة من السابلة يقطعون الرصيف المحاذي للنهر...
****
قال الرجل الكهل: ستقيم هنا معنا... وسأنهي بنفسي كل شيء... ستعمل معي في المزرعة...
-أنا لا أعرف شؤون الزراعة؟
- ستعرف كل شيء... إنك شاب، وقوي البنية وستتعلم كل شيء بأسرع وقت.
لم يكن البيت الريفي كبيراً، لكنه لم يضق به، خصوصاً وأنه فيما بعد شارك "جيني" غرفتها بعد أن أصبح زوجاً لها... كانت جيني غريبة الأطوار، تبدو هادئة رقيقة، لكنها في حقيقة الأمر قاسية متسلطة... لقد كانت وحيدة أبيها. تعوّدت منذ طفولتها المبكرة، خصوصاً بعد موت أمها، على أن تكون سيدة كل شيء، ولذا فإنه لمن الطبيعي أن يكون هو أيضاً من ضمن الأشياء التي كانت واقعة تحت سيادتها المطلقة... مع الأيام تعلّم كل ما يلزم... في البدء كان يشعر بالتقزز من حضيرة الخنازير لكنه فيما بعد تعود، حتى أنه تعلم كيف يذبح الخنازير وكيف يقدد لحمها... كان الكهل ينظر بأعجاب للفتى الأسمر المفتول العضل وهو ينتقل من عمل إلى آخر... مع الأيام أصبح الفتى الأسمر هو القائم بكل شيء، واقتصرت مهمة الكهل على التوجيه...
كانت جيني تعمل أشياء كثيرة بدراية تامة، لم تكن أشغال الدار لتأخذ من وقتها إلا أقله، و ما تبقى وهو الأكثر تقضيه في إنجاز أمور عديدة بعضها يحتاج إلى خبرة لا تتوفر له، حتى عندما ولدت له إبنته الوحيدة، لم تتخلف عن العمل إلا ليومين فقط... ألح عليها بأن تلزم سريرها لكنها لم تعر إلحاحه إهتماماً...
يوماً ما تفطن إلى أنه كان مقطوعاً بالكامل عن العالم الذي كان قد عرفه... أحسَّ برغبة في النزول إلى المدينة الكبيرة... قضي ليلته في كتابة رسائل إلى الأهل والأصحاب... كان يمني النفس بأنه سيرسل الرسائل في اليوم التالي، إلا أن ما حدث يوم ذاك غير كل شيء، وما حدث لم يكن يتوقعه ولا حسب حسابه... لقد حدث ما حدث على نحو بدا شديد الغرابة... كان الكهل يضع الفتاة الصغيرة التي بدأت تتعلم المشي في حجره، وكانت الفتاة تلعب بلحيته التي إستطالت، وتحاول إيصال خصلة من شعر رأسه الأبيض إلى شعر لحيته، وعندما تعذر عليها هذا فقد طفقت في فتح أزرار قميصه... صرخت بها أمها: ماذا تفعلين؟ تعالي إلى هنا...
عندما نهضت الفتاة من حضن جدها، دفعت صدره بكفها الصغيرة، فتهاوى جسد الجد على الجانب الأيمن... وكان الجد قد فارق الحياة... هكذا، وعلى هذا النحو الشديد الغرابة رحل الكهل الذي كان يعشق البيرة... كان هذا اليوم من الأيام الشديدة السوء في حياته، لكن كل شيء مرَّ وإنقضى بسهولة ويسر، ودفن الكهل في مقبرة القرية... أما الرسائل فلم يتذكر أين وضعها، ولا فكر بعدها بكتابة شيء... أحس بمسؤولية مضاعفة إزاء جيني وإبنتها وتناسى ما عدا ذلك...
****
توسطت الشمس كبد السماء، ولم يعد للفيء من أثر... لو عثر على ملمح واحد، ملمح واحد فقط!... هل هي المدينة عينها؟ فيما مضى... قبل... قبل كم من السنين ياترى؟... ياه!... نصف قرن... قبل نصف قرن، كان يقطع كل شوارع المدينة بساعة واحدة، وها هوذا الآن في هذه المدينة التي تُشير الرقعة الموضوعة في محطة القطار إلى إنها عين المدينة التي ما فارقت مخيلته يوماً... تُرى عن ماذا جاء يبحث؟ لقد رأى الفرات، واقتنع أنه ما كان يبحث عنه، ربما كان يبحث عن فرات آخر، فرات لم يعد له الآن وجود... كبرت المدينة وضمر الفرات... كانت قوافل الإبل تبرك خلف سكة القطار... عندما يمرّ القطار تفزع وتنهض وجلة، لكنها ما كانت قادرة على مبارحة المكان فقد كانت أقدامها مربوطة بعضها إلى بعض... هل كان يحنّ للإبل؟!... لا يظن!...
كان السوق المسقوف ملاذه في الأيام القائضة، وعندما تصبّ السماء غضبها أو رحمتها...هل يحنّ للسوق؟... لا يشك أنه كان يمني النفس بإن يقطع السوق الملتوي رواحاً ومجيئاً، ولكن ليس من أجل متعة المشي، وإنما ليسلّم على هذا وذاك، ويجلس في عتبة دكان عُبيد، ويتسامر مع عليوي في مقهى السوق، ويأكل الدوندرمة في عز الظهر ويتناكد مع سلمان؟... هل عُبيد وعليوي وسلمان أحياء الآن؟ وإذا كان أبوه وأمه قد ماتا، فأين أخوته، أو أبناء أخوته؟ ربما هذا الشاب الذي يمر الآن أمامي هو إبن أخي، وربما تكون هذه الفتاة الهيفاء إبنة أخي أو إبنة أختي؟ ربما وربما وربما، ولكن لا يقين... ربما يكون أخوتي وأخواتي قد هاجروا المدينة؟ ربما إندثروا جراء أمر ما، وما أكثر الأمور التي مرت وجرفت معها ما جرفت...
.....................................................
بعد رحيل إبنتي مع صديقها إلى مكان لا نعرفه، وبعد بيع المزرعة التي أضحت ضمن حدود المعمل الضخم، وإنتقالنا للعيش في شقة في المدينة، فاتحت جيني برغبتي بالسفر إلى مسقط رأسي، لكنها لم تعر رغبتي أدنى إهتمام، وعندما فاتحتها مرة أخرى، ردت عليّ بعصبية: هل بدأت تخرّف أيها العجوز المهبول؟... منذ ذلك الوقت أصبحت فكرة السفر إلى مسقط رأسي تلح على وجداني... لم أتساءل هل ظل أهلي أحياء؟ كان همي أن ألتقي بالمدينة، كانت المدينة تعني بالنسبة لي الناس أيضاً، لكنني لم ألتق بالمدينة، ولم ألتق بالناس...
في محطة القطار شممت رائحة المدينة... المدينة عينها، لكني في محطة القطار داخلني الخوف من كوني أضعت المدينة...
أحسَّ بعدم مقدرته على مواصلة السير، كانت يده القابضة على العصا ترتجف، والطريق أمامه يتضبب... برك على مقعد في موقف للباص الذاهب لمحطة القطار... عند المساء كان يدبي على رصيف المحطة... وبعد أن بلغ به التعب منتهاه، إقتعد على أرضية الرصيف وأتكأ على الجدار... كان ينتظر القطار الصاعد... هذه المرّة كان شبه متأكد إلى أين سيصعد به القطار...
****
قال الشرطي الشاب: مسكين هذا العجوز لقد سألني صباح هذا اليوم... هل هذه هي مدينة...؟ قال لي أنه مولود في هذه المدينة...
سأل بعض الذين تجمهروا حول الجثة: هل يعرف أحدكم هذا الشخص؟
هزَّ الجميع رؤوسهم في آن واحد...
كان الشرطي قد إتصل بضابط المحطة عن طريق هاتفه النقّال، أخبره بوجود جثة عجوز في رصيف المحطة... الموت طبيعي... العجوز مجهول الهوية...
حضر ضابط الشرطة... تفرّس بوجه الميت... طلب أن يفتشوا جيوبه للتعرف على ما يُثبت هويته... وجدوا جواز سفره... قلّبه الشرطي الشاب ثم قال: إنه مواطن من "تيرن بير" سيدي.
ردّ الضابط: حسناً... تُرسل الجثة للطب العدلي، ويتم الإتصال بسفارة تيرن بير لإستلام الجثة حسب الأصول المرعية...
****
No comments:
Post a Comment