حكاية الزمن الجميل !
صباح علي الشاهر
من يواجه عاصفة هوجاء وهو على متن قارب شراعي في عرض البحر، يستذكر رغماً عنه لحظات الإسترخاء على اليابسة وتحت أشعة الشمس، ومن يقبع خلف قضبان السجون ، يتذكر رغماً عنه التجوال في الأماسي مع الصحاب، أو الجلوس في مقهى على قارعة الطريق، ومن يعش ليالي المنفى الكئيبة، خصوصاً قبل أن يندمج، يستذكر دائماً الزقاق، والشارع، والمحلة، ولمة الأهل حول صينية العشاء فوق السطوح، ومن يودع سنوات الشباب ويقبل على خريف العمر، يتذكر أينما كان، أيام الصبا والشباب، ويحن كطفل رضيع إلى حضن أمه، أما من يفتقد الأمن والأمان فهو يلوذ بكل شيء يبعده عن موت الحاضرالذي بلا طائل، إنه كالغريق الذي يتشبث بقشه، وكالعطاشى الذين يمنون أنفسهم بالسراب .
من هنا تنشأ حكاية " الزمن الجميل "، إنها تعويض لا إرادي، يجعلك ترى الجمال، كل الجمال في المكان الذي هربت منه، والزمان الذي كان أثقل من الجبال على صدرك.
ربما يكون المكان أنظف مما هو الآن، وربما يكون الناس أرقى وأجمل، وأكثر بساطة مما هم عليه الآن، ربما تكون الشرور الظاهرة والمرئية أقل بكثير من شرور ومآسي الحاضر، وربما يكون الفساد الذي لا يُعلن عنه، ولا تكشفة أجهزة الإعلام ، أقل مما هو عليه الآن، وربما يكون القتل الذي كانت تحتكره جهة واحدة، هي السلطة تحديداً، أقل من قتل اليوم الذي يشارك به الجميع، ولكن القول بأن الزمن الذي مضى هو الزمن الجميل، تجني على الجمال ذاته.
قد يكون جميلاً لمن كان يحكم، ويهيمن، ويمتلك كل شيء، الناس والحجارة، ويتلاعب بمقدرات البلد كما يتلاعب المقامر بالزار ، ولكنه ليس كذلك لمئات آلاف الضحايا، الذين ما زال البحث جار حتى هذه اللحظة عن رفاتهم، لمئات آلاف السجناء، في السجون السرية والعلنية، ولملايين الشباب الذين لم يقيض لهم التمتع بشبابهم فاحتطبوا في حروب رعناء غبية وعبثية، ولمن فقدوا ألسنتهم لأنهم قالوا مالا يجوز قوله عن القائد، والذين صملت آذانهم ووسمت جباههم، لإنهم هربوا من التجنيد أو التحشيد لمعارك القائد التي يتوالد بعضها من بعض، ولأكثر من أربعة ملايين عراقي توزعوا في بقاع الأرض ، ولمن إبتعلتهم بحار الدنيا ، وأضحت بطون أسماك القرش قبورهم.
قد يكون جميلاً لمن يتغنى بالحزب والقيادة فيجازى على ذلك بمكاسب لا تحصى ولا تعد، لكنه ليس كذلك بالنسبة للشيوعي، الذي عليه أن يكتب وينظّر "للأمه الواحدة ذات الرسالة الخالدة " ويتغنى بإعجاز القائد والقيادة، وللناصري الذي لا يحق له تمجيد عبد الناصر، وللديمقراطي الذي عليه التطبيل للفوز، بـ ( 99،99 بالمائة) ، وللإسلامي الذي عليه الإقرار بأن القيادة جمعت في شخصها حزم وعدل وشجاعة أبو بكر وعمر وعلي، وللذين أجبروا على تعليق صور القائد وشعارات الحزب حتى في المرافق الصحية، والذين قبعوا في غياهب السجون لأنهم إستعملوا جريدة الحزب لأغراض غير القراءة ! وللذين أجبروا على أن يكونوا بعثيين، ولو على طريقتهم الخاصة ، إذ لا يمكن أن يكون العراقي إلا بعثياً، حتى لو كان كردياً أو شيوعياً أو حوزوياً !.
وحتى ما قبل العهد الجمهوري فبغداد ليست البلاط الملكي، ولا المحطة العالمية ، فعلى بعد بضعة أمتار من هذا الصرح تربض "الشاكرية "حيث يتقاسم عشرات آلاف المعدمين المزابل مع الهوام، وبغداد ليست الباب الشرقي، وحديقة غازي، فعلى بعد بضعة أمتار أيضاً ولكن شرق بغداد هذه المرة، تعيش عشرات آلاف العوائل على نفايات بغداد، وبجوار قاذوراتها في أكبر تجمع للمسحوقين والمحرومين، أسموه "خلف السدة".
لا تفصّلوا ماضي العراق على مقاس رغباتكم وأهوائكم، ولا تفصِلوا ماضيه عن حاضره، ولا حتى عن إستشراف مستقبله، فهذا منهج خاطيء ومبتسر.
وخلاصة القول أن العراق جميل أمس واليوم، وسيكون جميلاً غداً، لأنه ببساطة ( العراق) ، والعراقيين جميلين، في السراء والضراء، وأن غلفتهم المحن بغبارها، فطبعتهم بطابع العنف حيناً، واللامعقولية حيناً، وطابع اللامبالاة حيناً آخر، لأن جوهرهم أصيل، وطبعهم راق ومبدع، والطبع يغلب التطبع، ولكن العراق ليس بلا شوائب، والعراقيين ليسوا بلا عيوب، وما مرَّ عام والعراق ليس فيه موت وجوع وخراب وكوارث .
لو أن العراق غير العراق، والعراقيين غير العراقيين، ومرّ هذا الذي مرّ ، لما بقى شيء أسمه العراق، ولا عدنا نسمع بعراقيين، لكنه العراق، ولكنها بغداد، ورحم الله الشاعر الكبير مصطفى جمال الدين :
بغداد ما أشتبكت عليك الأعصر إلا ذوت ووريق غصنك أخضر
في العراق والعراقيين، شيء أسماه شاعر العرب الأكبر محمد مهدي الجواهري (رسيس )، لا تنشغلوا بالمظاهر الطارئة عندما تريدون مقاربة العراق والعراقيين، إبحثوا عن "الرسيس "، عندها ستجدون الجمال كله، والرقي كله، والقدرة المتجددة دوما على الإبداع، والنهوض كالعنقاء من تحت الرماد، وسوف لن تشغلكم الأمور التي أريد لكم أن تنشغلوا بها، فهي طارئة وزائلة.
الغبار قد يخفي للوهلة الأولى معدن العراق والعراقيين، ولكن المسح الرؤوم والمحب سيظهر المعدن والجوهر، وعندها سيقول حتى الذي على عينه غشاوة " العراق باق ، ينمو ويتجدد ".
No comments:
Post a Comment