Friday, 3 June 2016

{الفكر القومي العربي} يحيى حسين: لماذا يصر الرئيس على إخفاء ذمته؟

لماذا يُصِّرُ الرئيس على إخفاء ذِمَّتِه ؟
بقلم المهندس/ يحيى حسين عبد الهادى
(نُشِر فى البداية 4 يونيو 2016)

قبل أن يتشنج الدراويش وتتحرك ميليشيات التشويه الإلكترونية السيادية ونُتَّهَم بتكدير السِلْمِ العام، نؤكد أن سؤال العنوان لا يحمل أى تجاوزٍ من السائل .. كما أن الإجابة (إن حدثت) لن تحمل مَنَّاً ولا تفَضُّلاً من الرئيس .. إذ أننا نتحدث عن التزامٍ دستورىٍ لم يلتزم به سيادته .. وهى خطيئةٌ لا تسقط بالتقادم وسيُسألُ عنها آجلاً أو عاجلاً عندما يُوجَد من يُسائله ويُسائلُ كُلَّ من لم يُسائله ..
كنتُ واحداً ممن استبشروا خيراً بدستور 2014 واعتبروه خطوةً واسعةً على طريق مكافحة الفساد لتضمينه مادةً بالغة الروعة، هى المادة 145، لا سيما ما جاء فى سطرها الثامن نصّاً (يتعيّن على رئيس الجمهورية تقديم إقرار ذمةٍ ماليةٍ عند توّلِيه المنصب، وعند تَرْكِه، وفى نهاية كل عام، ويُنشر الإقرار فى الجريدة الرسمية) .. فالحقيقة أن كل الرؤساء السابقين كانوا (يُقدّمون) إقراراتهم للموظف المختص فى الرئاسة دون أن ندرى ما بالإقرار ودون أن يخضع للمُحاسبة، إذ لم يحدث أبداً أن اشتملت عيّنة الفحص العشوائية لإقرارات موظفى الدولة على إقرار ذمّة الرئيس(!) .. الجديدُ الذى لم يحدث فى كل الدساتير السابقة هو مسألة نشر إقرار الرئيس فى الجريدة الرسمية فى توقيتاتٍ محددةٍ عند توّلِيه المنصب، وعند تَرْكِه، وفى نهاية كل عام من أعوام رئاسته الأربعة .. وهى مادةٌ واضحةٌ وغير قابلةٍ للتأويل ولا تنتظر قانوناً لتنظيمها، وكُنَّا نُمَنِّى النفس بأننا مُقدِمون على عهدٍ من الطهارة والديمقراطية سنرتكن فيه إلى تنفيذ الرئيس لهذه المادة لنطلب إصدار تشريعٍ يُلزمُ كبار المسئولين فى الدولة بأن يحذوا حذوه كخطوةٍ أولى لمكافحة الفساد الذى تُعلن الدولةُ يومياً أنها تُحاربه .. لم يخطر ببال أكثر مؤيدى الرجل تشاؤماً ولا أكثر خصومه تفاؤلاً أنه يمكن أن يحنث بقسمه ويضرب بهذا الالتزام الدستورى الشخصى عرض الحائط، فيخذل مؤيديه ويُقَدِّم لخصومه مادةً مجانيةً للتشهير .. لكن هذا ما حدث .. وعندما قارب العام الرئاسى الأول على الانتهاء فى 8 يونيو 2015 تَمَنَيتُ على الله ألاّ يَحِلّ هذا التاريخ إلا وقد تم تلافى هذا الخطأ الدستورى غير المُبَرَّر قبل أن يتحول إلى خطيئةٍ إذا اكتمل العام الأول .. للأسف فقد اكتمل العام الرئاسى الأول وهاهو العام الثانى يوشك على الاكتمال ولم يتم تنفيذ الواجب الدستورى ولا يبدو أن هناك نيةً لذلك.
يومها أثرنا نفس الموضوع بِحُسْنِ ظَنٍّ كامل لدرجة أن الأهرام نشرت لكاتب هذه السطور مقالاً بعنوان (أين إقرار الذمة المالية للرئيس؟) .. ألقينا فيه مسؤولية المخالفة على من أسميناهم (الدِبَبَة) حول الرئيس الذين تكاسلوا عن تذكيره بهذا الالتزام الدستورى، وفَنَّدنا حُجَجَ من ظنناهم الدببة ومن بينها نصاً ( .. ومِن صارخٍ فى وجوهنا إن مصر فى حربٍ ضد الإرهاب، وأن هذا ليس وقت إثارة مثل هذه الموضوعات بينما جنودنا يُستشهدون كل يوم .. الحقيقةُ أن هذا هو وقتُه بالضبط ، فمصر لن تنتصر فى أى حربٍ على أى جبهةٍ إلا بمزيدٍ من الانضباط الديمقراطى والالتزام والمراقبة والمحاسبة .. كما أن الدماءَ الزكيّةَ التى تُراقُ لا تُبذَلُ إلا مِن أجل الحِفاظ على دولةٍ تُعلى مِن شأن هذه القِيَم .. ثم إننى أعود وأُكرر أن الأمرَ واجبٌ دستورىٌ لا اختيار فيه ولا يجوز المجادلة والتبرير بشأنه .. وإلا عُدنا إلى أيامٍ كان الدستور فيها مُجرّد وُريقاتٍ لا قيمة لها .. لا أعادها الله من أيام) .. هذا ما قلناه منذ عامٍ، أمَّا الآن وقد تَأَكَّد أن الدببة بريئةٌ من هذه المخالفة فإن تكرار السؤال بنفس صيغته السابقة يكون دفناً للرؤوس فى الرمال وامتهاناً لنعمة العقل لا يليق بالسائل .. وصار السؤال الواجب ليس (أين إقرار الذمة المالية للرئيس؟) وإنما (لماذا يُصِرُّ الرئيسُ على إخفاء ذمته المالية؟) .. مع وجوب الاعتذار للدببة.
نعرف الآن أن هناك ما يربو على عَشر مخالفاتٍ دستورية صريحة لكنها كلها مما يمكن التنصل منه باعتبارها مخالفات نظام الرئيس لا شخصه، إلا هذه المخالفة فهى الوحيدة التى يُسألُ عنها الرئيس شخصياً .. وطالما أن رئيس الجمهورية لا يكترث بتنفيذ واجبه الدستورى، سيكون من العبث الحديث عن مادةٍ أخرى هى المادة 166 التى تُلزمُ رئيس الحكومة والوزراء أيضاً بنشر إقرار الذمة .. وقد حدث أن أحد الوزراء الشباب فى الحكومة السابقة أخذته الجلالة (أو الفرحة) بمجرد تعيينه فصرَّح بأنه سينشر إقرار ذمته المالية على موقع الوزارة الإلكترونى، ويبدو أن أحداً أَسَرَّ فى أُذُنِه بفداحة ما أعلنه لأن فيه إحراجاً غير مقبولٍ ولا مغفورٍ للمقام الرئاسى، فصمت الرجل صمتاً تاماً ولم يكرر عبارته المتهورة مرة أخرى إلى أن خرج بسلامٍ من الوزارة.
إن كلام الرئيس المُعاد عن مكافحة الفساد سيظل كلاماً فارغاً من أى مضمون طالما ظل سيادته غير عابئٍ ولا مكترثٍ بنشر إقرار ذمته المالية .. أو بمعنى أدق غير مكترثٍ بالدستور متحللاً من أى التزام ومختصراً معنى الدولة فى شخصه .. إذا لم تكن تلك هى السلطة المطلقة فماذا تكون؟ وقد تعلمنا أن السلطة المطلقة مفسدةٌ مطلقة .. قد تُصيبُ أحياناً لكنها كارثية الخواتيم .. نتكلم عن أبجدياتٍ مع عقلاء، أما الممسوحةُ عقولُهم وكرامتُهم ممن يضعون شخص الرئيس فى مقام مَنْ لا يُسألُ عمَّا يفعل فلا حديث لنا معهم.


No comments:

Post a Comment