دولة أبو العلا .. لا دولة العُمدة
بقلم المهندس/ يحيى حسين عبد الهادى
كان المفكر الوطنى الكبير المُلَّقَب بأستاذ الجيل أحمد لطفى السيد مرشحاً فى انتخابات 1925 فى المنصورة أمام مُحامٍ مغمور فى الدقهلية .. كانت فرصة المنافس فى الفوز منعدمةً أمام هذا المثقف الكبير الذى عاش مدافعاً عن القيم الديمقراطية والليبرالية والحريات العامة والشخصية، فاستَبَقَ مؤتمراً انتخابياً لأحمد لطفى السيد بأن رَوَّجَ بين الناخبين (ومعظمهم من الأُميين) أن الديمقراطية التى يؤمن بها أستاذ الجيل تعنى الإلحاد وإباحة الدعارة وتدعو إلى الاعتراف للمرأة بالحق فى تعدد الأزواج للتساوى مع حق الرجل فى تعدد الزوجات .. وما كاد المؤتمر يبدأ حتى قام أحد الحضور وسأل أحمد لطفى السيد (يُشيعون أنك ديمقراطى .. فهل هذا صحيح؟) .. فأجاب أستاذ الجيل بحسم: (نعم أنا ديمقراطى وسأظل ديمقراطياً حتى الممات) .. فكان الرسوب باكتساحٍ هو النتيجة الطبيعية بعد ذلك.
أضع هذه القصة نُصب عينى دائماً عندما أخاطبُ جمهوراً من خلال مقالٍ أو محاضرة .. فأحرص فى البداية على تحديد مفهومى لبعض المصطلحات التى سأتناولها .. إلا أنه يبدو أن ذلك لا يكفى .. فقد اندهشتُ من بعض التعليقات (من غير اللجان الإلكترونية) على المقالات الأخيرة التى أبديتُ فيها وقوفى فى صف الدولة المدنية فى وجه كلٍ من الفاشيتين العسكرية والدينية .. رغم تكرار توضيحى لمفهوم الدولة المدنية بأنها (دولة القانون .. التى يتنفس فيها الشعب نسائم الحرية .. بلا تمييزٍ ولا عنصريةٍ ولا توريث .. الكفاءةُ فيها قبل الولاء .. والوطن قبل الجماعة أو المؤسسة .. الشعب فيها هو السيد .. والحاكم فيها هو الخادم .. أَيَّاً كان ما يحمله فوق رأسه .. عمامةً أو كاباً .. دولة المواطَنَة التى لا يُعَّرَفُ فيها الفرد بمهنته أو بدينه أو بإقليمه أو بمالِه أو بسلطته، وإنما يُعرف تعريفاً قانونياً اجتماعياً بأنه مواطنٌ عضوٌ في المجتمع له حقوق وعليه واجبات يتساوى فيها مع جميع المواطنين) .. ورغم ذلك فوجئتُ ببعض المُعَّلِقين الذين يبدو أننى قد قَصَّرتُ فى توضيح هذا المفهوم لهم (لا بد أن التقصير مِنِّى إذ أننى اكتشفتُ عندما راجعت صفحاتهم أنهم من المتعلمين بل إن بعضهم من حملة الدكتوراة) .. فالبعضُ اتَّهمَ الكاتبَ بالخروج عن الإسلام (هكذا!) لأنه يرفض الفاشية الدينية .. والبعض اتَّهَمَه بالسعى لهدم الجيش (هكذا أيضاً!) لأنه يرفض الفاشية العسكرية .. ونظراً لأننا بصددِ الإعلانِ خلال الأيام القادمة عن حركةٍ سياسيةٍ وشعبيةٍ تسعى لقيام دولةٍ مدنيةٍ ديمقراطيةٍ للخروج بمصر من الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التى أدخلتها فيه السياسات الحالية، فقد نصحنى البعضُ بتبسيط مفهوم الدولة المدنية لمن لا يزال الأمرُ ملتبساً عليهم .. فالله المستعان.
كان داويت أيزنهاور ماريشالاً حقيقياً ومنتصراً، إذ كان قائداً عاماً فى جيش الولايات المتحدة خلال الحرب العالمية الثانية وقائداً أعلى لقوات الحلفاء فى أوروبا، وهو المسؤول عن التخطيط والإشراف على غزو شمال أفريقيا وغزو الحلفاء الناجح لفرنسا وألمانيا .. وبعد انتهاء الحرب أصبح أول قائدٍ أعلى لحلف الناتو سنة 1951 .. ورغم هذا الماضى العسكرى المُشَّرِف فإنه حينما انتُخِب رئيساً مدنياً صار من حق أصغر جندى من مرؤوسيه السابقين أن يراقبه ويحاسبه كرئيس دون أن يُطعَن فى وطنيته .. ودون أن يتحول ستيفنسون منافسه الديمقراطى فى الانتخابات إلى لوحة تنشين فى ميدان الرماية .. هذه ببساطةٍ هى الدولة المدنية .. أما الفاشية العسكرية، فهى التى تُختَصَرُ فيها الدولة فى شخص الرئيس (حتى لو كان مدنياً كصَّدام حسين) فيصبح الاعتراض على أىٍ من تصرفاته اعتراضاً على الجيش والدولة والوطن .. ومِن ثَمَّ فهى دولةٌ بلا معارضةٍ .. وكلُ مُعارضٍ خائنٌ.
هذا عن الدولة المدنية كبديلٍ للفاشية العسكرية .. أمَّا عنها كبديلٍ للفاشية الدينية، فالكاتب ممن يعتقدون أن النموذج الأقرب للدولة المدنية هو دولة عمر بن الخطاب رضى الله عنه .. إذ أن عمر رغم مكانته الدينية الرفيعة كأحد كبار الصحابة المُبَّشرين بالجنة، إلا أن ذلك لم يُرَّتِب له أى ميزةٍ كحاكمٍ (هو أو أسرته) على أى فردٍ من الرعية .. وكان من حق أضعف مواطنيه أن يُسائلَه عن ذِمَّتِه المالية .. وأن يصرخ فيه آخرُ (بصدقٍ وليس تمثيلاً) بأنه سيقَّوِمُه بحد السيف إذا رأى فيه اعوجاجاً .. وتُراجِعَه امرأةٌ عاديةٌ (لم تذكر أىٌّ من الروايات اسمها) فى قراراته .. فيعترف بخطأه دون أن ينقص ذلك من هيبته ودون أن يخشى أىٌّ من هؤلاء الاتهامَ بالكفر .. أَمَّا الفاشيةُ الدينية أو الحُكم باسم الله فقد جَرَّبَتها كل الديانات .. واصطلينا نحن المسلمين كثيراً (وما زِلنا) بنيرانها .. وما أكثر الأمثلة .. يكفى أنَّ الكعبةَ ضُرِبت بالمنجنيق مرتين باسم الله (!) .. كانت الأولى فى عهد يزيد بن معاوية الذى حَكَم باسم الله ثلاث سنواتٍ .. قام جيشه فى السنة الأولى بقتل الإمام الحسين وصحبه فى كربلاء .. وهوجمت المدينة المنورة وسُبِى أهلُها فى الثانية .. ورُمِيَت الكعبة بالمنجنيق فاحترقت فى السنة الثالثة .. وأعاد الحَجاج بن يوسف الثقفى ضرب الكعبة بالمنجنيق بعد ذلك بعشر سنواتٍ مُفَّوَضَاً من عبد الملك بن مروان أمير المؤمنين (!).
لكن تبقى الصورة الأبسط لتوضيح ما نقصده رائعة صلاح أبو سيف وأحمد رشدى صالح وسعد الدين وهبة وكوكبة متميزة من الفنانين .. فيلم الزوجة الثانية .. حيث العمدة الظالم الذى يجمع فى يديه بين الفاشية العسكرية (الخفراء الذين يُطَّوِعُ بهم الأهالى لقانونه الخاص) .. والفاشية الدينية التى تُحَّرِفُ الكَلِمَ عن مواضعه وتُحَّلِلُ له كل شئٍ بحجة طاعة أُولى الأمر .. حتى ولو كان تطليق زوجة أبو العلا ليتزوجها هو .. أليس من حَقِّنا أن نحلم ونعمل معاً من أجل بناء الدولة التى يعيش فيها المواطن أبو العلا حُرَّاً كريماً .. لا يُكَّفَرُ .. ولا يُخَّوَنُ .. ولا يُقهَر؟ .. الدولة المدنية لا دولة العُمدة.
(مصر العربية- الاثنين 11 ديسمبر 2017).
No comments:
Post a Comment