اِقضِ ما أنتَ قاضٍ
بقلم المهندس/ يحيى حسين عبد الهادى
أحببتُ أبى عليه رحمة الله حباً كبيراً، وكان قاضياً شريفاً .. وقد استقر فى روع جيلنا منذ الطفولة أنهما صفتان متلازمتان، أى أن كل قاضٍ لا بد أن يكون شريفاً.. أحببتُ فيه الأبَ وأحببتُ فيه القاضى .. وامتزج الحُبَّان شيئاً فشيئاً فى وجدانى حتى صارا شيئاً واحداً .. فصرتُ أُبصر فى كل قاضٍ وجهَ أبى .. وازداد إكبارى وحُبى لقضاتنا الأجَلاء وأنا أشاهد قُضاةً كزكريا عبد العزيز ومحمود الخضيرى يقاتلون كالليوث دفاعاً عن استقلال القضاء الذى هو الضمانة الحقيقية لكل المقهورين والضعفاء فى وجه شيطان الفساد والاستبداد الزاحف بقسوةٍ على هذا الشعب الصابر المبتلى، وهو نقطة البداية المؤكدة لأى نهضةٍ مرجوةٍ لهذا البلد .. وفى ظل الانهيار الكامل لمؤسسات الدولة كلها، وإلى أن يتحقق الاستقلال الكامل للقضاء، فلا مناص من أن نحرص جميعاً على الحفاظ على الصورة السامية النقية لمؤسسة القضاء، لأن البديل كارثى علينا جميعاً.
تلك هى عقيدتى الثابتة، ولا تناقض بينها وبين رفضى الحاسم لسداد الغرامة التى حُكم علىّ بها لهذا النظام .. فقد برأنى قاضٍ، فاستأنفت النيابة، وحكم علىّ قاضٍ آخر بغرامةٍ وتعويض مؤقت، وقام قاضٍ ثالث بتخفيض الغرامة مع الإبقاء على التعويض المؤقت، ولا يعلم إلا الله كم سيبلغ التعويض النهائى .. قضيةٌ واحدة وثلاثة أحكامٍ مختلفة أحترمها جميعاً، وثلاثة قضاة محترمون أوّقرهم جميعاً .. فلا مشكلة لى مع القضاء .. ولكن المشكلة الحقيقية هى مع نظامٍ غير شرعى، لولاه لما حدث هذا التزاوج الكارثى بين المال والسلطة .. ولما كانت هناك قضية من الأساس .. إننى لم أفعل شيئاً إلا التعبير عن الألم والمهانة مما حدث .. ولكن يبدو أن السادة السماسرة والوكلاء يستكثرون علينا نحن أصحاب الأرض التى تُنهَب .. والوطن الذى يُوَّرَثُ .. أن نصرخ.
مشكلتى لم ولن تكون مع القضاء .. إذ ماذا يفعل قاضٍ محترم ونزيه وهو ملزمٌ بالتعامل مع أشخاصٍ صارت لهم مراكز قانونية وهم بلا مراكز أصلاً .. ووفقاً لقوانين يتم تفصيلها على المقاس، ويعتمدها برلمانٌ مطعون فى شرعية أغلبية أعضائه، بل امتدت يد العبث إلى الدستور نفسه .. مشكلتى الحقيقية ومشكلة مصر هى مع نظامٍ مغتصِب وغير شرعى .. نظامٍ وزّع محاسيبه على مؤسسات الدولة يعيثون فيها فساداً ويمثلونها أمام القضاء .. هم مجرد خدم وأُجراء مفوضين منّى ومن باقى مُلاّكِ هذا البلد لإدارته وفقاً لما نريد، وليس لبيعه بالطريقة التى تحلو لهم .. فهل فوَضهم أحدٌ منّا فيما يفعلون ويهرتلون ويعيثون؟ .. الإجابة الحقيقية المجردة "لا" .. باطلٌ مبنىٌ على باطلٍ .. وإذا كان غيرى يتعامل مع هذا الباطل على أنه حق، فإن احترامى لعقلى ووطنى ودينى يأبى علىّ أن أتعامل معه إلا على أنه باطل .. وسيظل هذا موقفى الثابت مهما لحقنى وأسرتى من أذىً بسببه .. لذلك فأنا أرفض من حيث المبدأ أن أدفع أى تعويضٍ (وإن قلّت قيمته) لهذا النظام المغتصِب بدلاً من تعويضنا نحن عما يفعله فينا .. لأن فى هذا اعترافاً بشرعية ما لا شرعية له .. هذا موقفى .. وليحبسونى أو يحجزوا على سيارتى القديمة أو شقتى وليأخذوا ما يريدون غصباً ولكننى لن أبادر بالتنفيذ طواعيةً .. ولن يُضيعنى الله.
فيا أيها التشكيل العصابى الجاثم على صدر مصر .. اقض ما أنت قاض .. إنما تقضى هذه الحياة الدنيا .. فلابراءتك براءة ولا إدانتك إدانة .. بل العكس هو الصحيح .. ولنصبرَن على ما آذيتمونا .. صبرَ الاحتمال والمجالدة .. لا صبرَ الاستكانة والرضوخ .. وحسبنا الله ونعم الوكيل.
(ما سبق أجزاءٌ من مقالى الذى نُشِر بجريدة الدستور فى 16 يونيو 2009 عَقِب الحُكم علىَّ بسبب مقالٍ يفضح تفاصيل بيع أرض سيدى عبد الرحمن_ ما أشبه الليلةَ بالبارحة).
No comments:
Post a Comment