Saturday, 25 August 2012

{الفكر القومي العربي} معن بشور/ وسام على صدر وسام


وسام على صدر وسام

معن بشور
كانت الدبابات الإسرائيلية تجول في شوارع العاصمة في أواسط أيلول 1982، وكان اليأس قد أحاط بكثيرين من أبناء العاصمة، لا سيّما المزايدين في شعاراتهم، والغليظين في كلماتهم، لكن نوعين من المقاومة ولدا آنذاك، أولهما مقاومة مسلحة عبّرت عنها عمليات بطولية في الفاكهاني، وبرج أبي حيدر، ومار الياس، والصنائع، وزقاق البلاط، وعين المريسة، وكورنيش المزرعة، وطبعاً الحمرا حيث كانت عملية الويمبي الشهيرة وبطلها الشهيد خالد علوان...
أما النوع الآخر من المقاومة، فكان فكرياً سياسياً، أطل عبر تلفزيون لبنان من خلال وزير الإعلام آنذاك الأستاذ ميشال إده الذي أدلى، عبر حلقتين متتاليتين، بالكثير من المعلومات والأفكار عن المطامع الصهيونية في لبنان غير آبه بدبابات العدو التي تحيط بمبنى التلفزيون، ولا باتصالات ضباط العدو بكبار المسؤولين اللبنانيين لثني هذا «الوزير» عن تصريحاته الجريئة وتحريضه ضد «احتلال الأمر الواقع».
لم أصدق عينيي وأنا أرى الوزير يتحدث بهذا الوضوح والجرأة الوطنية، كما لم أصدق أذني وأنا أسمعه يقول كلاماً استشهاديا - بحسب مصطلحات هذه الأيام -.
لم أكن أعرف ميشال إده يومها شخصياً، وان كنت اسمع انه «الوزير الأحمر» نسبة إلى أفكاره التقدمية، وانه «اللبناني» القادر على أن يعبر كل الحواجز والمتاريس الطائفية زمن الحرب يوم كنت أتابع مع الرئيس الراحل ياسر عرفات (رحمه الله) اتصالاته لإطلاق سراح ميشال إده من بين خاطفين جهلة - كما هي العادة - لا يدركون معنى الآية الكريمة «لا تزر وازرة وزر أخرى»، ولا يعرفون حقيقة الرجل الذي أقدموا على خطفه.
وحين جمعتني بعدها بالوزير إده مناسبات ثقافية ووطنية بدأت أتعرف إلى فضائل أخرى، إنسانية وأخلاقية وإيمانية، يتحلى بها هذا الرجل الذي تسمّر حول حلقاته التلفزيونية عن «الصهيونية»، في قناة «المنار» في اوائل هذا القرن، الملايين من العرب الذين ما كنت اذكر اسم ميشال إده امام بعضهم إلا ويربطون الاسم بعشرات الحلقات تلك، ويكتشفون من خلاله كم يستطيع لبنان بتنوعه وغناه الروحي والثقافي أن يفيد القضية الفلسطينية التي يشهد العرب والمسلمون جميعاً للبنانيين الريادة في التحذير من الخطر الصهيوني بدءاً برضا الصلح وسليمان البستاني في «مجلس المبعوثان» العثماني في أوائل القرن الماضي، إلى ابن غوسطا الكسروانية الاب بولس عبود، إلى نجيب عازوري وكتابه الشهير «اليقظة العربية»، إلى الامير شكيب ارسلان والمرجع السيد عبد الحسين شرف الدين وفتاويه الصريحة بمقاومة الصهاينة، إلى ميشال شيحا المفكر المتنبه لمخاطر المشروع الصهيوني على لبنان، حتى قبل قيام الكيان الصهيوني، وصولاً إلى انطون سعادة وموريس الجميّل وريمون إده وغيرهم وغيرهم من رواد مقاومة الصهيونية وإفرازاتها.
ولقد لفتني أيضاً في خطاب الوزير إده رقيّه وإنسانيته ونقاؤه من كل شوائب العنصرية والطائفية والمذهبية، إذ كان دائماً يفرق بين اليهودية والصهيونية، داعياً إلى احترام الأولى كدين ومواجهة الثانية كحركة عنصرية، وكان يفاخر بعلاقاته بيهود لبنانيين وأميركيين ليؤكد ان الدفاع عن الحق الفلسطيني ليس حرباً ضد ديانة أو معتقد، بل إن عودة الفلسطينيين إلى ديارهم ليست حقاً تكفله العهود والمواثيق فحسب، بل هي ضمانة لوحدة لبنان التي يحذر إده دوماً من ان المتحمسين لتوطين اللاجئين الفلسطينيين في لبنان هم أنفسهم المتحمسون لتقسيم لبنان، لذلك حرّم الدستور اللبناني التقسيم والتوطين معاً.
وحين أطلقنا «مؤسسة القدس الدولية» بعد انتفاضة الأقصى المباركة كان ميشال اده في طليعة من تجاوب مع انطلاقتها، برغم نصائح تلقاها بأن مثل هذه المشاركات تؤثر في إمكان فوزه بالرئاسة الأولى في لبــنان، وهي الرئاسة التي اقتربت منه عام 1982 فأطاح بها الغزو الصهيوني، واقــتربت منه مجدداً عام 1988 فأطاحت بها حروب «الإلغاء»، و«التــحرير» كما اعترضها يومها الرافضون لرئيس لبناني مستقل الإرادة والقرار، كما كادت تصل إليه عام 2008 لولا فيتو إسرائيلي في واشنطن، وتدخل أميركي في لبنان، وقيل يومها إن حقيبتين مدججتين بكلمات لإده وخطب وحلقات تلفزيونية معادية للحركة الصهيونية حملتهما طائرة خاصة من تل أبيب إلى واشنطن.
وبقدر حرص إده على كشف الطبيعة العنصرية للحركة الصهيونية، حرص وهو المــاروني المتشبث بإيمانه، المسيحي المعتز بمقدساته، واللبناني المتمسك بلبنانيته، على أن يطلق في العامين الأخيرين دعوة من أجل فهم الإسلام ودوره في عالم اليوم، وتفهم واقع المسلمين وتنامي تأثيرهم في الشرق والغرب معاً، وهي دعوة مقرونة لديه باحصاءات وارقام ووقائع دقيقة.
من هنا يكتسب الوسام البابوي الممنوح لميشال إده عشية الزيارة المرتقبة لقداسة البابا لبنان، أهميته الخاصة كوسام لكل اللبنانيين الذين يجمعون على محبة ميشال إده وتقديره، بل كوسام لكل العرب الذين يرون في إده خير محام عن أقدس قضاياهم، ولكل أحرار العالم الذين يتجمعون هذه الأيام حول قضية فلسطين التي كان إده من روادها على مدى ستين عاماً ونيّف.
فمن كان مثل ميشال إده لا يكرّم بوسام بابوي فحسب، بل ان هذا الوسام يُكرّم بأن يحمله رجل كميشال إده... هو وسام على صدر لبنان وفلسطين والعرب.

< المقال السابق


No comments:

Post a Comment